مواضيع للحوار

أدرينالين   مونودراما تُعري سرطانات العرب انطلاقاً من جسد المرأة

أدرينالين مونودراما تُعري سرطانات العرب انطلاقاً من جسد المرأة

900 مشاهدة

أدرينالين   مونودراما تُعري سرطانات العرب انطلاقاً من جسد المرأة

الكاتبة أمنية طلعت

السبت، 23 فبراير 2019

 

التساؤل الدائم في عالم المسرح عن كيفية استخدام الجسد كأداة فاعلة للتعبير، يفتح أمامنا كثيراً من الأجوبة التي قد تكون بنسبة عالية غير مقنعة لنا، فنحن شعوب اعتادت أن توصد الأبواب أمام أجسادها نظراً لانطلاقنا من ثقافة تدين الجسد طوال الوقت وتحقر منه في سبيل تمجيد الروح والإعلاء من شأنها، لكن ثقافتنا تعامت ربما عن قصد وربما دون إرادة حقيقية منها، عن أن السبيل الوحيد لتحرير الروح لا يتأتى بمعزل عن تحرير الجسد، هذا التحرير الذي لا يفهمه كثيرون سوى بأنه الممارسة غير المقدسة او الشرعية للجنس، وهو من أكبر الأخطاء التي ننسجن داخلها، فتحرير الجسد لا علاقة له بالجنس غير الشرعي، ولكنه نوع من أنواع المزج بين الروح والجسد كي يعبر بفعالية عن متطلبات الروح. ولهذا طرق عدة منها ممارسة اليوجا والتأمل وهو ما اتبعته الفنانة الأردنية أسماء مصطفى وبدى جلياً في عرضها "أدرينالين" الذي فازت به بجائزة الإخراج من مهرجان أيام القاهرة للمونودراما.

يدخل المشاهدون إلى العرض وأسماء مصطفى نائمة وسط أدواتها المسرحية في مركز خشبة المسرح، متخذة وضع الجنين في الرحم وهي تحتضن ساقيها في حالة من التأمل استعداداً لبدء عرضها، الذي يستمر لمدة عشرة دقائق تقريباً في حالة مزج بين الموسيقى والأداء الحركي الذي يعتمد بصورة كبيرة على حركات اليوجا والتي أثبتت أسماء أنها تتقنها إلى حد بعيد، كما تمكنت من توظيفها بشكل فعال للتعبير عن حالة سجن الجسد وتعهيره الذي نولد ليُزرع داخلنا وكيف سارت في طريق عتقه من نير التكبيل والكبت حتى تصل إلى نقطة السرد والذي تبدأه بالقول "عشرة دقائق"، وربما تعني عشرة دقائق من التأمل في مقابل باقي دقائق العرض الذي أخذتنا من خلاله في رحلة من التوتر الذي يصاحب الكشف عن مكنونات صدورنا جميعاً وربما مكنونات صدور النساء بشكل خاص، فلقد قالت أسماء ما نحاول طوال الوقت السكوت عنه بتنهيدة ورمشة جفن بطيئة أثقلها اليأس من أي تغيير منظور في وقت قريب.

انطلقت أسماء من سرطان الثدي، هذا الوحش الذي يترصد أبواب جميع نساء الأرض في صمت مباغت، تتحسس كل امرأة صدرها كل يوم رعباً وهي تنظر قريناتها يتساقطن الواحدة بعد الأخرى في لج هذا الطوفان الهادر، لكننا مع أسماء نكتشف أن هذا الشبح أقل ما يمكن مواجهته في مقابل سرطانات أكثر توحشاً في عالمنا العربي المنقسم والمتشظي في مواجهة مسائل العادات والتقاليد والدين، وحالة من الفرقة التي تسرطن أيامنا ونحن نعيش جميعاً دون استثناء في حالة انتظار للدمار الشامل الذي نراه قادماً لكننا منعقدي الأذرع عاجزين عن فعل شئ لدرئه.

المرأة وفقاً لرؤية أسماء في "أدرينالين"، هي الأكثر حملاً لنتائج هذه السرطانات الفادحة، نرى ذلك من خلال تعبيرها عن تنميط المرأة منذ لحظة تكونها في رحم أمها، فهي مجرد جسد للذة، وينقسم جسمها إلى تكوينات بيولوجية ذات وظائف تخدم متعة الرجل وحده، نلحظ ذلك في قولها " حيث قيل لها يوماً؛ ذكريات المرأة في ثدييها"، ثم تذكر حبها الأول وحينما كانت تنظر في عيني حبيبها بينما عينيه تركز على ثدييها، ومن ثم زواجها وتعرض البطلة إلى مرض سرطان الثدي الذي تمسك منه الخيط لتكشف عن كل السرطانات الإيدولوجية والسياسية داخل المجتمع العربي، لتصل إلى لحظة الكشف والوصول إلى الاجتراء على هدم الكرسي برمزيته إلى السلطة الأبوية الذكورية.

سارت أسماء مصفى في نصها عبر مسارات سردية مختلفة ترمز بها إلى آلام المرأة من خلال مونولوجات لنساء يعانين قهر المجتمع الذكوري، بداية من الفنانة التي تُجرم لفنها، ثم الأم التي يهرب ابنها من بلاده بسبب ويلات الحروب والبطالة فيموت بين أمواج البحر، إلى الزوجة التي يهجرها زوجها باسم النضال من أجل الوطن ثم النضال من أجل الدين حتى يفجر نفسه طلباً لحوريات الجنة فلا يتبقى منه سوى حذائه في رمزية شديدة البلاغة لدنو مطلبه في مقابل الحياة التي دأبت على تقديمها له بينما كان يرفضها في عنجهية ذكورية، وهي تنصاع وتفقد رحيق حياتها يوماً بعد يوم، دلالة على القهر الذي تدفع ثمنه المرأة من أجل حروب يقحمها فيها عالم الرجال.

يتعرض مشاهد "أدينالين"، إلى مجموعة من المنولوجات التي تتعدد فيها الأصوات السردية، فيجد نفسه متورطاً في الهموم الذاتية التي تطرحها الممثلة، لتسحبه بعد ذلك إلى الهم العام ويبدأ داخلة النقد الاجتماعي والسياسي، وهو ما نجحت فيه أسماء من خلال نصها شديد الدقة والرهافة، والمكتوب بأنامل أنثوية ذكية تستطيع التسرب بعذوبة مؤلمة إلى النفوس لتقبض عليها في مهارة ولا تحررها حتى بعد انتهاء العرض، حين تعود الفنانة إلى وضعها الجنيني كما بدأت، وكأنها تطالب بحياة جديدة تختلف عن ما مضى.

استطاعت الفنانة أسماء مصطفى أن تعبر في بلاغة عن كافة أشكال المشاعر التي تطلبها النص، فكانت تنتقل باحترافية بين الدهشة والغضب والاندهاش والحزن والتوتر، كما تمكنت من أدوات تعبيرها الراقصة التي تتسارع وتيرتها وتتباطئ مع نوعية السرديات الدرامية، كما نجحت في تقديم لغة جسد جديدة على المسرح العربي ومنها رقصة البوتو الاحتجاجية، وقد أعجبني بشكل خاص مشهد تحريكها للغربال بما فيه من أصداف في محاكاة بارعة لصوت البحر في مشهد الابن المهاجر.

لعب الديكور والإضاءة دوراً كبيراً في نجاح هذه العرض، حيث تمكنت الإضاءة من تعميق المعاني المطروحة بالنص، أما بساطة الديكور والذي انحضر في كرسي يرتدي قميصاً وقناعاً معبرة به عن السلطة الذكورية الحاكمة للعالم، والحذاء المتبقي من الزوج وغربال الصدف الذي لعب دور البحر، كذلك الملابس البيضاء التي بدأت صادمة لوعي الجمهور متمثلة في بنطال قصير وضيق وضمادات ملفوفة على الصدر ثم ردائين أبيضين آخرين ترتديهما على البنطال القصير والضمادات، في تعبير عن ثنائية الميلاد والموت حيث نبدأ بلفافة بيضاء عقب الولادة وننتهي بكفن أبيض.

"أردينالين" موندراما شديدة الجرأة، تمتلك الكثير من أدوات الكشف والمواجهة وتعبر ببلاغة عن رحلة تحرير الجسد بإعادته إلى تكوينه الأولى في اتصاله بمفردات الكون من حوله، وهو ما يعد مغامرة أولى في منطقتنا تُحسب للفنانة الأردنية أسماء مصطفى.

نشر المقال في جريدة القاهرة بتاريخ 19 فبراير 2019