قالت الصحف

أنور محمد...فيلم ..تجليات غيلان الدمشقي.. لهيثم حقي

أنور محمد...فيلم ..تجليات غيلان الدمشقي.. لهيثم حقي

2823 مشاهدة

فيلم ..تجليات غيلان الدمشقي.. لهيثم حقي

الجسد الواقعي والجسد التاريخي

جريدة السفير اللبنانية

4/5/2011

 انور محمد

حرصَ المخرج هيثم حقي في فيلمه «تجليات غيلان الدمشقي» الذي جرى عرضه يوم 26-3-2011 في (حلب) وبحضوره على مسرح مديرية الثقافة على أن نرى فعلاً لا أن نسمع كلاماً؛ فسامي بطل الفيلم الذي قام بأداء دوره الفنان «فارس الحلو» كان يلعب على خطابين الأوَّل بصري كمواطن سوري أو عربي يعاني من سطوة الاستبداد والقمع السياسي والاقتصادي، والثاني منبري أي قول مرسل مسموع وذلك عندما جسَّد أدوار: غيلان الدمشقي، الحلاَّج، ابن رشد، عبد الرحمن الكواكبي. لنسمعَ إلقاءً/ حواراً كما لو أنَّ الحلو على خشبة مسرح. وحتى لا نكون متطرِّفين فقد كان هناك خيطٌ رفيع يصل ما بين الفعل والقول، وهو أنَّ الجملة الحوارية لفارس الحلو التي انتقاها هيثم حقي بعناية سياسيةٍ كانت جملةً فلسفيةً ذات بعد تحريضي تحمل رؤياها؛ تحمل نورها. ولذا غلب القولُ الفعلَ ليتلاحم مع الصورة؛ الصورة المباشرة التي وضعتنا أمام طبيعة فيزيائية كشفت عن الأبعاد السياسية والأخلاقية لرسالة الفيلم (النهضوية). فأفعال الكلام سواءً التي جسَّدها فارس الحلو في الأدوار التاريخية أو التي أدَّتها الشخصيات الأخرى مثل: كندا علوش، قيس الشيخ نجيب، باسم ياخور، رضوان عقيلي، ناصر وردياني، أسامة السيد يوسف، رامي حنا، نضال نجم. كانت تؤكِّد أو تتركنا نلمس سذاجتها ومكرها وضيقها وسخريتها وتبرُّمها بالواقع السياسي؛ واقع القمع الذي تحياه، حتى إنَّني مع انتهاء الفيلم والصالة كانت مليئة بجمهور لم يسبق أن اعتادته في نشاطات غيرها قلت في نفسي إنَّ سامي (فارس الحلو) سينفجر الآن في الجمهور ما يدفعه إلى الخروج فوراً في تظاهرة تندِّد بالاستبداد وبالدولة البوليسية.
فالقمع السياسي والقمع الجنسي الذي يُرهب سامي كان يجد تصريفه - يصرِّفه في تناول الطعام بشراهة وبشكل شبه متواصل - فلا هو قادر على الثورة ولا على التمرد، ولا العصيان، ولا هو قادر على أن يحب بنت الجيران، ولا هو قادر على ممارسة الجنس المأجور حتى مع جارته التي تسكن في البناء المقابل حيث تشتغل بائعة هوى، والتي كان يتلصَّص عليها على طول الزمن السينمائي، والتي كانت تحرِّضه وتثير غرائزه وهو يراها إنْ على النافذة أو على الفراش مع الزبائن أو بدونهم في وضعيات مثيرة للشبق، فكان (يفشُّ) غريزته في الطعام - تشترك هنا غريزتا الجنس والطعام في غريزة واحدة - فيأكل الطعام بنهمٍ غريب حتى ولو كان فاسداً كما في»السندويشة» التي شمَّها مراراً – هيثم استطاع أن يشغِّل حاسَّة الشم عندنا كمتفرِّجين - وكرهَ رائحتها لكنَّه ليفرِّغ شحنته الجنسية/ شحنته السياسية ضدَّ الاستبداد والقمع أكلها. طبعاً هيثم حقي لن يخرق قانون الديالكتيك فيدخِّل القدر أو يروح ينزِّل صاعقة من السماء على سامي ليحلَّ له عقده النفسية، فهو من بداية الفيلم يستغرق في تحليل شخصية «غيلان الدمشقي» هذا المثقَّف المعتزلي الثائر على ظلم الدولة الأمنية (الدولة الأموية - سوى فترة حكم عمر بن عبد العزيز) والذي يختاره سامي ليكون موضوع بحثه في رسالة الدكتوراه، فيصير يحلُّ فيه ليس من مبدأ «الحلولية « ولكن من مبدأ الإعجاب بهذا المثقَّف الإسلامي الإشكالي الذي كان يضيِّق على الحاكم المستبد عمله، فنرى كيف كان هشام بن عبد الملك يتوعَّده في زمن عمر بن عبد العزيز بأنَّه سيقطع له أطرافه ولسانه وهذا ما فعله حين تولى الحكم، فنرى سامي يعيش عزلةً، عزلةَ مثقلة بالفكر الوظيفي، عزلة الباحث المصاب بمليون عقدة وعقدة، فهو ضحية استبداد «أُمِّه» المشهد الذي ابتدأ الفيلم به - ماتت وسطوتها عليه لم تمت - وحبيس دينه، وحبيس دولته القمعية التي يحكمها طاغية يحاسب على الشهيق والزفير، ويجتاح كل شيء. طبعاً هيثم حقي لا يريد من بطله «سامي» أن يملك وعياً نبوياً، لكنَّه يريه الأوثان - أوثان الاستبداد التي عليه أن يكسرها، وأوَّل ما يكسرها يكسر الخوف منها، والذي يسكن في نفسه - يكسر الحاجز النفسي. فتلازم التفكير السياسي وهو يتخيَّل غيلان الدمشقي وكذا الحلاج وابن رشد والكواكبي وهم يتحدُّون السلطان المستبد، ومن ثمَّ هيجان الغريزة الجنسية وهو يشتهي ممارسة الجنس مع ابنة الجيران ومن ثمَّ مع جارته البغي ولا يقدر أن يفعل أي شيء، هو إشارة إلى حالة (الخصاء) التي يعيشها ليس المثقَّف بل المجتمع ككل.
الحب والحرية
فالعلاقة كما يبدو وكما حلَّلها هيثم حقي بين سامي وغيلان هي علاقة غراميةٌ الغرضُ منها إخراج (الذات) المقموعة من قفصها – إشارة إلى الأقفاص الكثيرة في غرفة سامي والتي يحبس فيها العصافير ومنها عصافير الحب - لكنَّها علاقة لا تكشف عن حبِّه لإمرأة بقدر ما تكشف عن حبِّه للحرية، فالذي يلامس عقل سامي هو غياب الحرية والحرمان منها مقابل حضور الاستبداد. إذ ثمَّة رغبة عنده في التحرُّر لكنَّ القوانين الظالمة كالطوارئ والتي أقامها أوَّل من أقامها معاوية بن أبي سفيان تمنعه وتقيِّده، وثمَّة لذَّة يريد أن يصل إليها لكن الواقع يردعه، وهو ما يزيد عنده الكبت والقهر السياسي والجنسي، على أنَّ الغرام أو العلاقة الغرامية يُفترض أن تحفِّز، أن تدفع الإنسان - هنا سامي ليكون فاعلاً بدل أن يتمثَّل الفعل. وهذا ما دفعه كما أراد له هيثم حقي لأن يعيش حلماً ضمنياً - هو يشتغل رسالة الدكتوراه عن تجلياته وليس تجليات غيلان الدمشقي، فالموضوع الذي يشغله هو شبح الاستبداد الذي يطارده كما طارد من قبل غيلان الدمشقي والحلاج وابن رشد والكواكبي، وما قام به - حياته اليومية بتفاصيلها وبالإشارات الذكية التي أرسلها هيثم حقي مثل تخيل سامي أنَّه صرصار والحذاء العسكري يسحقه، ثمَّ إنَّه صرصار في مكتبه بالجامعة وفي غرفته وفي... تكشف الذعر والرعب الذي يعيشه، مثلما تكشف عن حركته العاجزة أو المكبوحة بسبب شدَّة القمع.
هيثم حقي في «تجليات غيلان الدمشقي» كان يصنع موقفه البصري والصوتي بتراتبٍ للصراع كان ينمو أكثر ما ينمو في (الحلم) أو في الأحلام التي كان يراها سامي/ فارس الحلو الذي قدَّم دوراً مركَّباً - جسداً داخل جسد؛ الجسد الواقعي والجسد التاريخي - وبحركات متلاحمة، فكان مركز الجاذبية في الفيلم، إذ أرانا قوَّة حلمية أعطت دوره عمقاً شدَّ روابطنا الحسية المفكَّكة تجاه المستبد فيخرج من واقع ليدخل في حلم أو في ماضي شخصيةٍ ما لكنَّها - وهذا ما يضع الفيلم في خانة الواقعية الناقدة الهازئة والمتهكِّمة بالاستبداد - لم تكن أحلاماً اصطناعية؛ الأمرُ الذي أربكَ أو ربَّما أرعبَ الجمهور في ظل الظروف الراهنة فخرجَ معظمه هرباً ليس للتظاهر ولكن من حضور جلسة النقاش مع المخرج والتي أعقبت الفيلم واستمرَّت حوالى ساعة ونصف ساعة.

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية