قصة قصيرة

أوراق قدموسية 19 محمد عزوز

أوراق قدموسية 19 محمد عزوز

1540 مشاهدة

أوراق قدموسية
( 19 )
لسان المبيضين

(البياضة) مهنة اشتهر بها فقراء القدامسة وانسحبت عليهم زمناً طويلاً حتى صار الواحد منا إذا توجه إلى مكان وأعلن عن انتمائه المناطقي، سألوه فوراً عن المبيض فلان أو أبي فلان، والبياضة هذه يشير أسمها إليها إذ أن العمل فيها يتضمن تبييض أوعية النحاس ومن ثم الألمنيوم بقصد تنظيفها ثم طلائها وتلميعها من الداخل بطبقة رقيقة من القصدير ..
ورشات متعددة تنطلق غالباً سيراً على الأقدام إلى قرى مجاورة، أو راكبة إذا ابتعد المكان أكثر.. يدخلون القرى، يعلنون عن تواجدهم بنداء أحدهم أو يضيفون أحد وجهاء القرية، فيعرف الجميع أن المبيض أبو فلان في القرية، يحضرون قدور النحاس التي اسود داخلها بسبب استعمالها في حفظ وغلي مشتقات الحليب أو الطبخ بشكل عام إلى مكان اختاروه له كي يقوم بعمله ..
أما عبارة المبيض فهم يستخدمونها على العموم للمعلم ( رئيس الورشة ) الذي يرافقه في الغالب ) دواس ) وهو الذي يفرك الأوعية الكبيرة بالدوران فيها بقدميه لتنظيفها مستخدماً بعض مواد التنظيف التي تؤثر على أسفل قدميه وتبقيهما سوداوين غليظي الجلد زمناً طويلاً، و ( الجلّى ) الذي يجلوها بيديه مستعملاً مواداً أخرى تنتهي بالقصدير .. والمعلم مشرف عام ومنظم الأعمال ويقوم بأعمال الورشة إن لزم الأمر ..والمعلمون في القدموس صاروا مشهورين فيها وفي القرى التي يعملون بها .. وورشاتهم تصل لى قرى حماه وحمص وطرطوس واللاذقية .. لكن ريف طرطوس هو الغالب لأنه الأقرب .. وتبدأ أعمالهم في أواخر الشتاء وأوائل الربيع حيث يمكن لأولئك الفلاحين أن يستغنوا عن قدورهم قبل أن تلد مواشيهم، أو أنهم في الأساس معتكفون في منازلهم بسبب الشتاء القارس .
وأحيطت أعمال البياضة هذه بالكثير من القصص والحكايات التي جملها رواتها بالكثير من الزخرفة والشطط وربما الخيال الجامح ..
وكانت الأجور عينية في البدايات، كأن يعود المبيضون ومعهم التين اليابس  سمي (بتين المبيضين بسبب ذلك ) أو الزبيب أو الزيت والزيتون أو القمح والبرغل وبعض الحبوب الأخرى .. ورغم أنهم كانوا يرغبون بالأجور النقدية أكثر .. لكن عدم وجودها في أيادي أصحاب القدور كان يدفعهم لقبول تلك الأجور العينية . وكان بعضهم يشتغل بالدين على الموسم .. الثقة موجودة والمبيض معروف وأهالي القرى معروفون ويزارون سنوياً، ولا يصح أصلاً إلا أن يزاروا .. فإذا لم تبيض القدور وباقي الأوعية أذت وأساءت، وتحول الزبائن إلى مبيض آخر .
والورشات في القدموس متكاملة، وقد تتعاضد ورشتان فتعملان سوياً ..
ولا تكاد تخلو أسرة من أسر الفلاحين لم يعمل أحد أفرادها معلماً أو جلىً أو دواساً في هذه المهنة، لم تكن تدر الكثير، ولكنها تغطي بعض حاجات الشتاء القارس، وتؤمن بعض الدخل ..
كل هذا في واد .. وتلك اللغة أو كما يسمونها اللسان التي ابتدعها أولئك الشغيلة في واد آخر ..
كانوا يريدون أن يتحدثوا فلا يفهم عليهم الآخرون، لا لعدائية أو خوف، بل لأن ذلك قد يؤمن لهم حرية أكبر في التصرف .. في التفاهم على الأجور .. هم غرباء في هذا الريف الواسع، وقد ينامون في بيوت زبائنهم دون أن يتسنى لهم الإنفراد .. فجاءت هذه اللهجة التي حفظناها عنهم في طفولتنا، أضافوا مصطلحات مبتكرة، حروفاً على كلمات اللهجة المتداولة، فخرجت لهجة يصعب إلى حد ما على أي سامع أن يفهم فحواها .. كأن يقول لك : قدش مقاربة بمعنى اقترب أو قدش مراوحة بمعنى روح .. أو يستخدمون كلمة فشاح بمعنى اذهب أو شمول بمعنى كل ( للطعام ) أو شلك بمعنى عليك وجفان بمعنى نقود وسناوي بمعنى غير جيد وعش أي جيد
هي مجرد ابتكارات اتفقوا عليها واعتمدوها، وصار أهل البلدة يتغامزون بها أمام الطفل أو الغريب لإخفاء طبيعة الحديث عنه ..
أثارني الموضوع مرة، وحاولت أن أفتش عن أصول لهذه الكلمات فلم أعثر على شيء، مما أكد أنها مجرد اجتهادات خاصة لا تستند إلى شيء ..
وانقرضت المهنة بالتدريج، تحولت أواني النحاس والألمنيوم إلى البلاستيك والستانلس والميلامين وغير ذلك ..وتحولت ورشات البياضه إلى أعمال أخرى، ولكن اللهجة لم تنقرض ولا زال أهل البلدة يتغامزون بها، ونسمع كلمة من هنا وهناك .. أضحك في سري وفي علني، أعود بذاكرتي إلى قصة انبثاق الكثير من اللهجات واللغات في العالم عن لغات أم .. وأتساءل :
-
 ترى إلى أي حد تتشابه الغاية والأسلوب في ظهور هذه اللهجات ..؟

محمد عزوز
فصل من السيرة الذاتية ( أنا والقدموس ذاكرة فقر ومواجع ) برسم الطبع

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية