قصة قصيرة

أوراق قدموسية 20 محمد عزوز

أوراق قدموسية 20 محمد عزوز

1478 مشاهدة

أوراق قدموسية
(20)
ختيارة الحارة

لا أذكر ولادة أختي ابتسام رغم أني كنت في الثامنة من عمري، ربما لأن الأمر كان يتم دون أي ضجة، فلا أذكر أنني سمعت صراخ أمي في الليل أو في النهار، كنت أفيق أو أعود من مكان ما خارج البيت لأجد أن أفراد أسرتنا قد زادوا واحداً .
في ذاكرتي طفلة جميلة تنام في سرير معدني صغير إلى جوار عنبر القمح في الغرفة الغربية / هكذا كنا نسميها / إذ أنه لا يوجد غرفة جلوس أو معيشة أو نوم أو ضيوف أو سوى ذلك .. غرفتان دون مطبخ أو حمام أو حتى تواليت .. المطبخ في هذه الغرفة لوجود لوازم الطبخ فيها، هذا في الشتاء، أما في الفصول الأخرى فيصبح المطبخ في أرض الدار التي لم تكن واسعة بما يكفي، خاصة أننا اضطررنا في بعض السنوات لربط البقرتين فيها .
الحمّام في هذه الغرفة أيضاً، تسخن أمي الماء على موقد في أرض الدار، وقوده الحطب أو الجلة .. في طفولتنا المبكرة كنا نستحم في طشت ( إناء من نحاس أو حديد لغسل الأيدي أو غسيل الثياب ) وبعدما كبرنا انتقل حمامنا إلى عتبة الغرفة (هكذا كنا نسميها ) وهي القطعة الإسمنتية الوحيدة في الغرفة المرتفعة قليلاً عن أرضها الطينية، تسيل الماء منها إلى أرض الدار، لتغل في مكان ما وتختفي . وفي أيام الشتاء الباردة تضطر أمي لإغلاق المنافذ المفتوحة على الخارج بين الباب والجدار بثياب قديمة لتحمينا من برد القدموس القارس .
الحمّام كان وبالاً علينا في الشتاء، وقضاء الحاجات يتم في خرائب مجاورة، تبتعد أكثر تبعاً لسنوات عمرنا .
الغرفة الشرقية كانت أكثر أناقة، تحتفظ أمي فيها بخزانة ملابس الأسرة وبعض الأغراض الأخرى ذات المكانة المميزة، ولكنها كانت باردة أكثر في الشتاء، ولم تكن تعتني بتدفئتها كثيراً إلا في السنوات اللاحقة من طفولتنا، تخصص لدراستنا وللضيوف على ندرتهم ولسهرات ضيوف أخي الأكبر القادم في إجازات من خدمته العسكرية أو من عمله في لبنان أو في أي مكان آخر لاحقاً .
سرير ابتسام كان في الغربية طبعاً، كانت جميلة جداً، لا تزال ضحكتها ترن في أذني، وأمي سعيدة بها، تعتني بنظافتها، وسهام الكبرى تغار من اهتمام أمي بها أكثر ..كنت كثيراً ما أحملها، أناغيها، أقبلها فتمتعض .. ، ولكن صفاءها يعود بعد أن تلقمها أمي ثديها ..
اعتل ثدي أمي، ظهرت فيه دمامل، صار ينز قيحاً بألوان مختلفة .. استصعب أبي أمر أخذها إلى الطبيب، لم يكن هناك طبيب في القدموس أصلاً، الدكتور يوسف كان يعمل في مصياف، يأتي إلى القدموس في العطل والأعياد ويطبب الناس مجاناً .. ومع ذلك تقاعس والدي وسكتت أمي .
أخذ هو ووالدتي بنصائح هذه وتلك، وكان رأي ختيارة الحارة ( ملكه ) أن ترضع أمي الصغيرة من الثدي المريض، لأن في ذلك فائدة للإثنتين .. ولم تعارض أمي .
وبدأت الصغيرة تذبل، وكيف لا تذبل وقد أرضعوها بدل الحليب قيحاً وصديداً، وصفوا لها علاجاً هو السم الزعاف .
وبعد أيام ماتت، نعم تصوروا هذا ببساطة، ماتت .. لم أصدق ، بكيت كثيراً، كان عمرها ستة أشهر فقط ..
ولعل نوبة بكائي تلك كانت الأقسى في طفولتي، وهي التي كانت تذكرني بابتسام ومرضها، وتقاعس والدي في الخروج من دائرة وصايا الأهل والجارات .. والدي الذي لم يكن يؤمن كثيراً بدور الطب في مسائل بسيطة كهذه، وأمي التي رضخت لرغبات الجميع .. ماتت ابنتها، أخذها أبي ومعه الشيخ داؤد من بين يديها جثة هامدة ليدفنوها في ( خشخاشة ) بيدر رمل .
وتفاقم وضع أمي أكثر، أخذها والدي أخيراً إلى مصياف، وأدى الدكتور يوسف دوره كطبيب، لائماً أبي وأمي على تقصيرهما، وبمقصه فتح الورم القيحي ونظف كل ما حوله .
عادت أمي، تعافت بسرعة، ولكن ابتسام كانت قد ماتت، وظلت ختيارة الحارة (ملكة ) تقدم نصائحها كخبيرة في الطب والحياة .

محمد عزوز
فصل من السيرة الذاتية ( أنا والقدموس ذاكرة فقر ومواجع ) قيد الطبع

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية