قصة قصيرة

أوراق قدموسية 21 محمد عزوز

أوراق قدموسية 21 محمد عزوز

1548 مشاهدة

أوراق قدموسية
(21)
الجدة ( أم تميم )

وعيت على الدنيا وهي في حياتي، امرأة عجوز بملابس قروية تميزها الأثواب المزركشة والمنيدل الأبيض، ولم تكن تجعدات الوجه علامة مميزة، فهي حالة عامة لكل العجائز، ولم أكن أعي لأصف كل التفاصيل في شخصيتها ..

كان علي أن أرغم دائماً لذراعها القوية وهي تقودني إلى بيتها الملاصق للعلية التي ولدت فيها، والتي تركناها بعد سنوات عدة إلى غرفتين صغيرتين اعتنى الوالد ببنائهما واعتبر أن نقلتنا إليهما شكلاً من أشكال النزوع نحو الأفضل .
وعلى اعتبار أن هاتين الغرفتين لم تكونا بعيدتين عن بيت الجدة أم تميم، فقد كان سهلاً عليها أن تقودني بذراعها القوية تلك كي تطعمني على طريقتها، فتدهن لي بعض السمن على قطعة خبز يعلوها عفن أزرق اللون واضح للعيان، ولم يكن ينفعني احتجاجي الذي يتحول إلى بكاء في كثير من الأحيان ..
ولعل إذعاني كان يرتبط بإغراء منحها لي قطعة نقدية ( 5 غروش ) بالغين وليس بالقاف، وهو فرنك كبير الحجم كانت تسميه ( نحاسه ) وتدفعني لطلبه بهذه التسمية .
والأهم من ذلك كله أنها كانت تسميني ( محمود ) على اسم الوالد باعتباره صغير إبنيها اللذين لم يسلم لها من حمولها سواهما من الذكور والإناث .
وعندما كانت تكتشفني وقد ابتعدت قليلاً عن الحي، تعدو إلي فتحملني على كتفيها، تسب وتلعن ثم تقودني إلى أمي لائمة إياها على تركها لي أسرح على هواي في الزواريب ..
ولعل الحادثة الأميز كانت عندما اصطحبت أحد أولاد الحارة إلى أمي لاعتقادها أنني هو لمجرد أنه كان يرتدي الصدرية ذاتها فقد كان كل صبيان الحارة يرتدون في أغلب الأحيان لباساً متشابهاً فمصدر القماش واحد والخياطة ذاتها والعمر متقارب، كنت أراقبهما من بعيد وأنا أضحك، ولم أتدخل لفرحي بالنجاة من عقابها بإعادتي إلى البيت ..
عاد الصبي المسكين من مراتع لعبه على كتفيها باكياً، وعندما أنزلته أمام أمي، اعترضت :
-
 هذا ليس محمود يا أم تميم ..
تفرست الجدة في وجه الولد الباكي وبربرت وشتمت وتركته يعدو خارج البيت خائفاً مسروراً بالنجاة من ذراع العجوز .
لكن ذاكرتها بدأت تتراجع بسرعة، وتفاقم داء الخرف لديها، ولم يكن يعتبر هذا الداء مرضاً قابلاً للعلاج، فالخرف ملازم للشيخوخة في أغلب الأحيان .. صارت تهيم على وجهها في زواريب البلدة مما ألزم أبي وعمي في أحيان كثيرة لترك أشغالهما واللحاق بها .
وأفقت ذات صباح ربيعي جميل من عام 1965 على أصوات الأهل والجيران :
-
 لقد ماتت أم تميم ..
اندفعت تسبقني دموعي السهلة إلى بيت عمي المجاور لبيتها، حيث كانت ممدة بلا حراك، لم يزجرني أحدهم، استطعت أن أراها قبل أن يضعوها في ذاك الكيس الأبيض الذي بت أمقته منذ ذلك اليوم، كنت أرى قطناً بين أصابع قدميها، ولم أجرؤ على السؤال عن معنى ذلك
وانسحبت وأنا أبكيها بدموع طفل بريء ، بينما لم يكن يترك موت عجوز ثمانينية أي أثر كارثي على الأسرة كبارها وصغارها ...

محمد عزوز
فصل من السيرة الذاتية ( أنا والقدموس ذاكرة فقر ومواجع ) برسم الطبع

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية