قصة قصيرة

أوراق قدموسية 26 جزء 2 ..محمد عزوز

أوراق قدموسية 26 جزء 2 ..محمد عزوز

1658 مشاهدة

أوراق قدموسية
(26)

الأسفار الأولى
ب - دمشق :

...
لم أكن أحلم في أيام طفولتي الأولى بزيارة دمشق التي كنا ولا نزال نسميها الشام، ولا نستخدم دمشق إلا في الكتب المدرسية . لكن هذا الحلم دنا من الواقع عندما أعلن أخي علي أنه سيصحبني في آخر إجازته إلى هناك لأمكث عند أختي مريم بضعة أيام، ثم يتدبرون أمر إعادتي إلى القدموس .
طار صوابي من الفرح، وتمنيت لأول مرة أن تنتهي إجازته بسرعة، بينما كنت أتمناها في العادة أن تطول، لأنني كنت متعلقاً به، وقد حزنت كثيراً عندما دعي لأداء الخدمة العسكرية، وتركني أشارك بعض أصدقائه سهرتهم في بيتنا لوداعه، ولا أزال أذكر ذلك الصوت الرخيم لسليمان طاهر وهو يغني في تلك السهرة .
غاب أشهراً، ثم عاد في إجازة، وصارت تطول غيبته، ولم أكن أعير فرحتي لأحد في حضوره .
فاجأني مرة برسالة أرسلها لي إلى المدرسة، وكل ما أذكره أن الأستاذ علي استدعاني وقتها قائلاً : لك رسالة من أخيك ... تجاوزت حدودي وقتها وخطفت الرسالة من يديه .
كان الحدث مفاجئاً لإدارة المدرسة، ففتحوا الرسالة، إذ أنه ليس من المعتاد أن تصل رسالة لتلميذ في الصف الرابع .. لم يكن في الرسالة غير التحيات والوعد بزيارة قادمة، وكانت الزيارة قريبة، زيارة رافقته فيها إلى الشام ...
عرفت أننا توجهنا إلى مصياف ثم حماه، ومن هناك ركبنا أحد الباصات الكبيرة الذي كان يشبه باص ( أبو مطرب أو أبو بازو)  اللذين كانا يأتيان أحياناً إلى القدموس .. وفي الليل كنا في قلب الشام ..
فتحت عيني، تغلبت على بعض الصداع وبقايا نوم الطريق، نظرت للأعلى، كان هناك أضواء كثيرة تشتعل وتنطفئ ..
سألت بطفولية ساذجة فاجأت أخي :
-
 علي .. هل هذه هي سفينة الفضاء ..؟
أجابني دون أن يكترث لإندفاع طفولتي :
-
 لا يا أخي .. هذا جبل قاسيون .. لكن العتم لم يدعك تراه بوضوح .. وهذه الأضواء تعلو قمته ..خجلت من استنتاجي ومشيت إلى جانبه ، ولم أعد أذكر كيف صرت معه في منزل أختي مريم في حي المزه ..
في الصباح اكتشفت أنني قريب من مشفى المواساة وأحد فروع نهر بردى، ولا يزال سيل الماء المندفع فيه يعود إلى ذاكرتي بين الفينة والفينة، كما تعود ذكرى ألعابنا في دائرة عشبية أمام باب مشفى المواساة، وبعض ألعابنا مع أطفال الحي القديم هناك ..
عاد أخي علي إلينا بعد يوم أو يومين، اصطحبني إلى صالة سينما، كنت مبهوراً بكل شيء، لم أكن قد رأيت السينما بعد، لم أضحك كما فعل الآخرون على فصول غوار وحسني في الفيلم، لأنني كنت في عالمي الآخر، أراقب كل التفاصيل كي أرويها مع بعض الزخرفة لأهلي وأصحابي في القدموس ، لأن الكبار فيها كانوا غرباء عن هذه التفاصيل، فكيف بالصغار مثلي الذين لم يخرجوا بعد من حاراتهم التي لم يدخلها الإسمنت والكهرباء بعد ...

محمد عزوز
فصل من السيرة الذاتية ( أنا والقدموس ذاكرة فقر ومواجع ) قيد الطبع

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية