أوراق قدموسية
(27)
ولا أزال أتهمه
لم ندر ماالذي دفعه لهذا الجنون دفعة واحدة ، كان
هادئاً وادعاً ، يمشي خلف بقراتنا كعادته وأذناه مسبلتان ، وعيناه خفيضتان .. وأنا
أعتلي ظهره العاري ، وخلفي أخي الأصغر .
... كنا صامتين تماماً ، وليس من عادتنا كثر
الكلام .
فجأة ، رأيت أذناه ترتفعان ، حرن قليلاً ، نهق ، ثم
بدأ يعدو رافعاً قائمتيه الخلفيتين .. وكان من الطبيعي أن أرتمي وأخي أرضاً ، ولم
يكن الدرب معشوشباً ، بل تتزاحم حصى وحجارة كثيرة في وسطه وأطرافه .
نهضت وإياه على عجل ، وبدأت أصرخ في وجه أخي ، واصفاً
إياه بأقذع الصفات ، وأنا أتهمه بأنه السبب فيما حدث ، وهو ينفي التهمة ، ويعلن
ببراءة غير خفية أنه لم يفعل أي شيء ، ويحاول أن يلصق التهمة بي بشيء من الخجل .
لم أتحمل اتهامه ، فنسيت وجع وركي وبعض أجزاء أخرى من
جسدي ، وأمسكته من ياقة قميصه ، وجهزت كفي للطمه ، لكنه كفَّ يدي ببكاء أعلن معه
مجدداً براءته المطلقة من أي فعل .
كل ذلك والحمار يعدو ، ليصل إلى أطراف أرض مزروعة ،
فاطمأن أن لا أحد يتبعه أو يراقبه ، وبدأ يقضم الزرع في عجالة ، ولحقت به البقرتان
والعجل الصغير ، بعدما اطمأنوا إلى ابتعادنا هم أيضاً .
كنت لا أزال أتهمه ، وهو ينفي ، ويتلمس كلانا مواضع
الرض في جسده . والقطيع الصغير يمعن في اختلاس لقيماته الغضة ، وصاحب الزرع يصيح
بنا من أطراف القرية
.
ومضى زمن ، مات فيه الحمار بعد أن امتد به العمر
طويلاً ، وباع أبي بقرتيه إلى جزار البلدة ، بعد أن هرمتا ، وصعب عليه العناية بها
لوحده .
وصرت وأخي نلتقي في فترات متباعدة ، دون أن ننسى أن
نتبادل فيها الإتهام بأن أحدنا فعل شيئاً ما ، جعل الحمار يفعل فعلته تلك .
محمد عزوز
أوراق قدموسية
(28 )
صور دافئة
ريح تعصف في الخارج ، وحبات البَرَد تقذف بها الريح
إلى نافذة مشرعة على الشمال ، أتذكر طفولتي وأخاف ، ولكن الصوت يدفعني إلى النافذة
كي أراقب المشهد عن كثب ، مشهد لم تره عيني بهذا الشكل منذ طفولتي التي كنا ننزوي
بها في إحدى الزوايا ، خوفاً من العاصفة في الخارج ، وطلباً للدفء وابتعاداً عن
دلف السقف في الداخل ، دفء تشيعه مدفأة لاتنفك تطلب المزيد من جذوع السنديان
وجذوره ، المعدة مسبقاً في أكداس خلف البيت .
وهذا الصديق ( أحمد ) الذي أسميته أزلياً ، لأنه
رافقني منذ سنوات الطفولة إلى الجامعة التي تخرجنا في إحدى كلياتها قبل مايقارب
الثلاثين عاماً ، فرقنا العمل وجمعنا الود المتأصل في القلوب ، ود قوامه أيضاً
الوطن والنقاء الذي لم نعرف سواه ، وها هي القدموس تجمعنا بكل ألقها من جديد .
يصل بعد عبور مسافة تفصل بيته عني ، ليصل إلي محملاً
في كل مرة بدفء المحبة ، وبأشياء معمدة بالدفء هي الأخرى ، تماماً كما تفعل
الوالدة لي أيام التين الشتوي والعناب والزعرور وحب الآس ...
وفي زاوية لا تختلف كثيراً عن زوايا بيتنا الطيني
العتيق ، نجلس ، وأمام هذا العصف في الخارج ، تحضر صور تعيد الدفء إلى عمر أصر
البعض أن يجتثوا الدفء منه .
ولأنه شريك الطفولة ، صار يساندني ، ويسعف ذاكرتي بما
تغفل عنه
..
أتحدث عن ( السفيلة ) التي كانت مأوى بقراتنا شتاء ،
وقلق والدي المتنامي من ذاك النبع الذي تتفجر مياهه في مثل هذه الأيام ، فلا يجد
له من وسيلة إلا بحفر مجرى يدفع بمياهه خارجاً .. ويظل خائفاً من غزارة تخرجه عن
المجرى ، فأرافقه إلى هناك ، نبدد العتمة بفانوس قوام إشعاله زيت وفتيل ( بصبوص ) ، وأستمتع بمشهد لا
أراه دائماً ، المتبن (مكان جمع التبن ) حيث يحجز العجل الصغير عن أمه ، المعلف
الذي يملأه أبي بالتبن والشعير ، البقرات اللواتي كن يستبشرن بطعام وفير مع وصول
رائحة قدومنا
..
ويساندني أحمد ، فتحضر صورة مشعل السهرات الذي كان
ينير دروب السهر. والأرمل العجوز (أبو أحمد ) بفانوسه المميز ، وفي السوق تحضر
صورة (يوسف الأعرج ) وهو يخيفنا بعيون تميل ورأسه الكبيرة مع منفاخه في ورشة
الحدادة . وصورة ( أبي رشيد ) وهو يحدو البغال في الطرف الآخر ، (أبو كامل )
بنظارته وهو يصلح بوابير الكاز ، (أبو ونوس ) وهو يغزل شعر الماعز
بمغزله الذي كان يحلو لنا مرآه ونحن نشتري التمر من زنبيلته ..
صور خلف كل منها حكاية ، فيها من الألم الكثير ، لكن
لذة التذكر تغلب الألم ، وتدفعك إلى صور تترى واحدة بعد أخرى .
ونخرج ولو لبعض الوقت من هم العاصفة التي يشتد عودها ،
وهم الصداع الذي أهدي إلينا على غير انتظار ، صداع انفجر بعد حين ألماً ممضاً في
الصدور .
محمد عزوز
أوراق قدموسية
(29)
حدّي
أفقت على وجودها بهذا الاسم ( حدّي ) ، وعرفت متأخراً
أنها كانت تعني ( حادّة ) ، وظلت ترافقني في سني طفولتي التي أعيها تماماً ، إلى أن قرر
والدي أنه يجب أن يبيعها ، لأنها هرمت ، فهي لم تعد تلد ، كما أنها لم تعد تستطيع
مجاراة زميلتها ( شرّابي ) في حراثة الأرض . ولأنها بقرة عجوز ، لم يعد من الممكن
أن يجد لها أي شارٍ سوى جزار البلدة .
وانقبضت وأنا أجد ذاك الجزار بشاربيه المتهدلين يجرها
خارج الحظيرة ، وهي تمانع بقدر ما بقي من قوتها ، وكأنها كانت تعرف مصيرها بعد هذا
الوهن الذي أصابها ، مع تقدمها في العمر .
استنجدت بي بعينيها ، فلم أستطع فعل شيء بعد أن صار
قرار البيع والذبح واقعاً لا رجوع فيه .
وفي صباح اليوم التالي ، عاد أبي من السوق ، ورأيته
يهمس لأمي متألماً
:
- لقد ذبحوا حدّي .. المسكينة استسلمت لمصيرها .
وداريت دموعي عنهما كي لا يردعاني .
وفي طريق مدرستي ، رأيت رأسها مركوناً على باب دكان
الجزار بعينين مفتوحتين على اتساعهما ، وقرأت فيهما عتاباً قاسياً ، رغم أنهما
كانتا جامدتان تماماً
.
وبكيت ، وأخفيت دموعي عن أترابي في الصف ، لكن معلمتي
التي أصرت يومها أن أخرج إلى السبورة لأحل مسألة الحساب ، لاحظت دموعي وسألتني :
- خير محمد .. فيك شي ؟
- كلا آنسة ..
( أجبتها مختصراً كي لا أنفجر بالبكاء )
في طريق عودتي ، اختفى رأسها ، لم يكن حيث رأيته في
رحلة ذهابي ، كدت أسأل الجزار عنه ، ولكن خجلي وارتباكي دفعاني إلى الرصيف الآخر
مبتعداً .
وقرأت أمي كلاماً في عيني ، فسألت ، وسمعت صوتي
مختلطاً بنوبة بكائي
:
- زعلان ع حدّي .. شفتها اليوم مدبوحة عند الجزار ..
والله العظيم كانت عم تتطلع فيي .. كانت زعلانة مني كتير ..
هدّأت من روعي ، ولكنها لم تستطع أن تمحو من ذاكرتي
صورة رأس ( حدّي ) وهو مركون بعينين جاحظتين على باب دكان الجزار ..
ولا أزال أرى بعد كل العمر الذي مضى في كل رأس مركون
على باب دكانه رأس ( حدّي ) وعيون ( حدّي)
محمد عزوز
أوراق قدموسية
(30 )
ماكر ولو مات
صاحت أمي بكل صوتها ، بعد أن رأته يحاول الإقتراب من
البكيرة (1(:
- الجقل .. يا بو عوض .. الجقل ..(2)
وترك أبي صمد (3) الفلاحة ، وتناول حجراً من الأرض ،
وعدا صوبه .. وكانت الضربة الأولى والقاضية ، أصابت رأسه ، فهوى صريعاً .
ولم أكترث لصياح أمي ، بل تماديت في عبثي . لكن
اجتماعه ووالدتي تحت التينة البرطاطية (4) أثارني ، فعدوت صوبهما .
كان أبي يحمل الجقل من قائمتيه الخلفيتين ، وقد بدا
صريعاً لا حراك به ، خفت منه في البداية ، وخمنت أنها لعبة من ألعاب الثعلب
المعروفة ، لكن والدي طمأنني ودعاني للإقتراب أكثر .
كان الثعلب ميتاً فعلاً بعينين مفتوحتين ، دون أن يكون
هناك أي أثر لدم في أي جزء من جسده ..
علقه والدي من ذيله الطويل في غصن من أغصان شجرة التين
، ولم أجرؤ كثيراً على الإقتراب منه ..
حاولت لمسه بعصا كنت ألهو بها ، لمست بها عينيه وفمه
ومؤخرته ، فما تحرك ، وتيقنت عندها أنه ميت .
وبدأت أعبث مستمتعاً بملمس فروه الناعم الجميل ، خاصة
أنها المرة الأولى التي أقترب منه بهذا الشكل ، فقد كنت ألمحه في دروبي يعدو بسرعة
الخائف ، أو متربصاً قرب البيوت ينتظر حصة ينالها في غفلة من سكانها .
ولأنه لم يؤذني في شيء ، فقد ظل مصدر خوفي منه مرتبطاً
بدروس قرأتها في كتبي المدرسية ، تتحدث عن مكره ، أو بحكايا الأمهات اللواتي لوعهن
باقتناص دجاجات البيوت من الخم ، بحيل التصقت به .
أمضيت نصف يومي مستمتعاً بعبثي به ، بينما عاد أبي
وأمي إلى عملهما دون أن يبالوا بما حدث .
في صباح اليوم التالي ، أسرعت إلى المكان ومعي بعض
أترابي الذين رويت لهم قصة الحجر التي أودت به ، وبالغت في وصف فروه الجميل وذكاء
عينيه اللتين بدتا وكأنهما لم تنطفئا بعد .
وصدمتُ .. وأنا أرى غصن الشجرة خالياً منه ، سألت أبي
مستفسراً ، فما اكترث .. ومع إلحاحي أجاب بملل جلي :
- ربما أكله وحش عابر ..
وسخر أصدقائي من حكايتي ، وظنوا أنني تماديت في حبك
حكايتي ، وأنا أؤكد لهم الفعل بكل حروفي ..
غادروا غاضبين مني ، صمت برهة ، عدت إلى نفسي وأعلنت
أمامها أنه فعلها ، وجسد أعلى حالات مكره كما تعلمت في كتاب القراءة ، تظاهر
بالموت وتحمل غلاظتي ، كي يحصل على غنيمة ما ويفر ..
(1) البكيرة : البقرة الفتية التي لم تلد بعد .
(2) الجقل : الثعلب .
(3) الصمد : المحراث الخشبي القديم .
(4) البرطاطية : نوع من شجر التين .
محمد عزوز
التعليقات