قصة قصيرة

أوراق قدموسية .. 27 .. 28 .. 29 .. 30 بقلم..محمد عزوز

أوراق قدموسية .. 27 .. 28 .. 29 .. 30 بقلم..محمد عزوز

1734 مشاهدة

أوراق قدموسية
(27)
ولا أزال أتهمه

لم ندر ماالذي دفعه لهذا الجنون دفعة واحدة ، كان هادئاً وادعاً ، يمشي خلف بقراتنا كعادته وأذناه مسبلتان ، وعيناه خفيضتان .. وأنا أعتلي ظهره العاري ، وخلفي أخي الأصغر .
...
كنا صامتين تماماً ، وليس من عادتنا كثر الكلام .
فجأة ، رأيت أذناه ترتفعان ، حرن قليلاً ، نهق ، ثم بدأ يعدو رافعاً قائمتيه الخلفيتين .. وكان من الطبيعي أن أرتمي وأخي أرضاً ، ولم يكن الدرب معشوشباً ، بل تتزاحم حصى وحجارة كثيرة في وسطه وأطرافه .
نهضت وإياه على عجل ، وبدأت أصرخ في وجه أخي ، واصفاً إياه بأقذع الصفات ، وأنا أتهمه بأنه السبب فيما حدث ، وهو ينفي التهمة ، ويعلن ببراءة غير خفية أنه لم يفعل أي شيء ، ويحاول أن يلصق التهمة بي بشيء من الخجل .
لم أتحمل اتهامه ، فنسيت وجع وركي وبعض أجزاء أخرى من جسدي ، وأمسكته من ياقة قميصه ، وجهزت كفي للطمه ، لكنه كفَّ يدي ببكاء أعلن معه مجدداً براءته المطلقة من أي فعل .
كل ذلك والحمار يعدو ، ليصل إلى أطراف أرض مزروعة ، فاطمأن أن لا أحد يتبعه أو يراقبه ، وبدأ يقضم الزرع في عجالة ، ولحقت به البقرتان والعجل الصغير ، بعدما اطمأنوا إلى ابتعادنا هم أيضاً .
كنت لا أزال أتهمه ، وهو ينفي ، ويتلمس كلانا مواضع الرض في جسده . والقطيع الصغير يمعن في اختلاس لقيماته الغضة ، وصاحب الزرع يصيح بنا من أطراف القرية .
ومضى زمن ، مات فيه الحمار بعد أن امتد به العمر طويلاً ، وباع أبي بقرتيه إلى جزار البلدة ، بعد أن هرمتا ، وصعب عليه العناية بها لوحده .
وصرت وأخي نلتقي في فترات متباعدة ، دون أن ننسى أن نتبادل فيها الإتهام بأن أحدنا فعل شيئاً ما ، جعل الحمار يفعل فعلته تلك .
محمد عزوز

أوراق قدموسية
(28 )
صور دافئة
ريح تعصف في الخارج ، وحبات البَرَد تقذف بها الريح إلى نافذة مشرعة على الشمال ، أتذكر طفولتي وأخاف ، ولكن الصوت يدفعني إلى النافذة كي أراقب المشهد عن كثب ، مشهد لم تره عيني بهذا الشكل منذ طفولتي التي كنا ننزوي بها في إحدى الزوايا ، خوفاً من العاصفة في الخارج ، وطلباً للدفء وابتعاداً عن دلف السقف في الداخل ، دفء تشيعه مدفأة لاتنفك تطلب المزيد من جذوع السنديان وجذوره ، المعدة مسبقاً في أكداس خلف البيت .
وهذا الصديق ( أحمد ) الذي أسميته أزلياً ، لأنه رافقني منذ سنوات الطفولة إلى الجامعة التي تخرجنا في إحدى كلياتها قبل مايقارب الثلاثين عاماً ، فرقنا العمل وجمعنا الود المتأصل في القلوب ، ود قوامه أيضاً الوطن والنقاء الذي لم نعرف سواه ، وها هي القدموس تجمعنا بكل ألقها من جديد .
يصل بعد عبور مسافة تفصل بيته عني ، ليصل إلي محملاً في كل مرة بدفء المحبة ، وبأشياء معمدة بالدفء هي الأخرى ، تماماً كما تفعل الوالدة لي أيام التين الشتوي والعناب والزعرور وحب الآس ...
وفي زاوية لا تختلف كثيراً عن زوايا بيتنا الطيني العتيق ، نجلس ، وأمام هذا العصف في الخارج ، تحضر صور تعيد الدفء إلى عمر أصر البعض أن يجتثوا الدفء منه .
ولأنه شريك الطفولة ، صار يساندني ، ويسعف ذاكرتي بما تغفل عنه ..
أتحدث عن ( السفيلة ) التي كانت مأوى بقراتنا شتاء ، وقلق والدي المتنامي من ذاك النبع الذي تتفجر مياهه في مثل هذه الأيام ، فلا يجد له من وسيلة إلا بحفر مجرى يدفع بمياهه خارجاً .. ويظل خائفاً من غزارة تخرجه عن المجرى ، فأرافقه إلى هناك ، نبدد العتمة بفانوس قوام إشعاله زيت وفتيل ( بصبوص ) ، وأستمتع بمشهد لا أراه دائماً ، المتبن (مكان جمع التبن ) حيث يحجز العجل الصغير عن أمه ، المعلف الذي يملأه أبي بالتبن والشعير ، البقرات اللواتي كن يستبشرن بطعام وفير مع وصول رائحة قدومنا ..
ويساندني أحمد ، فتحضر صورة مشعل السهرات الذي كان ينير دروب السهر. والأرمل العجوز (أبو أحمد ) بفانوسه المميز ، وفي السوق تحضر صورة (يوسف الأعرج ) وهو يخيفنا بعيون تميل ورأسه الكبيرة مع منفاخه في ورشة الحدادة . وصورة ( أبي رشيد ) وهو يحدو البغال في الطرف الآخر ، (أبو كامل ) بنظارته وهو يصلح بوابير الكاز ، (أبو ونوس ) وهو يغزل شعر الماعز بمغزله الذي كان يحلو لنا مرآه ونحن نشتري التمر من زنبيلته ..
صور خلف كل منها حكاية ، فيها من الألم الكثير ، لكن لذة التذكر تغلب الألم ، وتدفعك إلى صور تترى واحدة بعد أخرى .
ونخرج ولو لبعض الوقت من هم العاصفة التي يشتد عودها ، وهم الصداع الذي أهدي إلينا على غير انتظار ، صداع انفجر بعد حين ألماً ممضاً في الصدور .
محمد عزوز

 

أوراق قدموسية
(29)
حدّي
أفقت على وجودها بهذا الاسم ( حدّي ) ، وعرفت متأخراً أنها كانت تعني ( حادّة ) ، وظلت ترافقني في سني طفولتي التي أعيها تماماً ، إلى أن قرر والدي أنه يجب أن يبيعها ، لأنها هرمت ، فهي لم تعد تلد ، كما أنها لم تعد تستطيع مجاراة زميلتها ( شرّابي ) في حراثة الأرض . ولأنها بقرة عجوز ، لم يعد من الممكن أن يجد لها أي شارٍ سوى جزار البلدة .
وانقبضت وأنا أجد ذاك الجزار بشاربيه المتهدلين يجرها خارج الحظيرة ، وهي تمانع بقدر ما بقي من قوتها ، وكأنها كانت تعرف مصيرها بعد هذا الوهن الذي أصابها ، مع تقدمها في العمر .
استنجدت بي بعينيها ، فلم أستطع فعل شيء بعد أن صار قرار البيع والذبح واقعاً لا رجوع فيه .
وفي صباح اليوم التالي ، عاد أبي من السوق ، ورأيته يهمس لأمي متألماً :
-
لقد ذبحوا حدّي .. المسكينة استسلمت لمصيرها .
وداريت دموعي عنهما كي لا يردعاني .
وفي طريق مدرستي ، رأيت رأسها مركوناً على باب دكان الجزار بعينين مفتوحتين على اتساعهما ، وقرأت فيهما عتاباً قاسياً ، رغم أنهما كانتا جامدتان تماماً .
وبكيت ، وأخفيت دموعي عن أترابي في الصف ، لكن معلمتي التي أصرت يومها أن أخرج إلى السبورة لأحل مسألة الحساب ، لاحظت دموعي وسألتني :
-
خير محمد .. فيك شي ؟
-
كلا آنسة ..
(
أجبتها مختصراً كي لا أنفجر بالبكاء )
في طريق عودتي ، اختفى رأسها ، لم يكن حيث رأيته في رحلة ذهابي ، كدت أسأل الجزار عنه ، ولكن خجلي وارتباكي دفعاني إلى الرصيف الآخر مبتعداً .
وقرأت أمي كلاماً في عيني ، فسألت ، وسمعت صوتي مختلطاً بنوبة بكائي :
-
زعلان ع حدّي .. شفتها اليوم مدبوحة عند الجزار .. والله العظيم كانت عم تتطلع فيي .. كانت زعلانة مني كتير ..
هدّأت من روعي ، ولكنها لم تستطع أن تمحو من ذاكرتي صورة رأس ( حدّي ) وهو مركون بعينين جاحظتين على باب دكان الجزار ..
ولا أزال أرى بعد كل العمر الذي مضى في كل رأس مركون على باب دكانه رأس ( حدّي ) وعيون ( حدّي)

محمد عزوز

 

أوراق قدموسية
(30 )
ماكر ولو مات
صاحت أمي بكل صوتها ، بعد أن رأته يحاول الإقتراب من البكيرة (1(:
-
الجقل .. يا بو عوض .. الجقل ..(2)
وترك أبي صمد (3) الفلاحة ، وتناول حجراً من الأرض ، وعدا صوبه .. وكانت الضربة الأولى والقاضية ، أصابت رأسه ، فهوى صريعاً .
ولم أكترث لصياح أمي ، بل تماديت في عبثي . لكن اجتماعه ووالدتي تحت التينة البرطاطية (4) أثارني ، فعدوت صوبهما .
كان أبي يحمل الجقل من قائمتيه الخلفيتين ، وقد بدا صريعاً لا حراك به ، خفت منه في البداية ، وخمنت أنها لعبة من ألعاب الثعلب المعروفة ، لكن والدي طمأنني ودعاني للإقتراب أكثر .
كان الثعلب ميتاً فعلاً بعينين مفتوحتين ، دون أن يكون هناك أي أثر لدم في أي جزء من جسده ..
علقه والدي من ذيله الطويل في غصن من أغصان شجرة التين ، ولم أجرؤ كثيراً على الإقتراب منه ..
حاولت لمسه بعصا كنت ألهو بها ، لمست بها عينيه وفمه ومؤخرته ، فما تحرك ، وتيقنت عندها أنه ميت .
وبدأت أعبث مستمتعاً بملمس فروه الناعم الجميل ، خاصة أنها المرة الأولى التي أقترب منه بهذا الشكل ، فقد كنت ألمحه في دروبي يعدو بسرعة الخائف ، أو متربصاً قرب البيوت ينتظر حصة ينالها في غفلة من سكانها .
ولأنه لم يؤذني في شيء ، فقد ظل مصدر خوفي منه مرتبطاً بدروس قرأتها في كتبي المدرسية ، تتحدث عن مكره ، أو بحكايا الأمهات اللواتي لوعهن باقتناص دجاجات البيوت من الخم ، بحيل التصقت به .
أمضيت نصف يومي مستمتعاً بعبثي به ، بينما عاد أبي وأمي إلى عملهما دون أن يبالوا بما حدث .
في صباح اليوم التالي ، أسرعت إلى المكان ومعي بعض أترابي الذين رويت لهم قصة الحجر التي أودت به ، وبالغت في وصف فروه الجميل وذكاء عينيه اللتين بدتا وكأنهما لم تنطفئا بعد .
وصدمتُ .. وأنا أرى غصن الشجرة خالياً منه ، سألت أبي مستفسراً ، فما اكترث .. ومع إلحاحي أجاب بملل جلي :
-
ربما أكله وحش عابر ..
وسخر أصدقائي من حكايتي ، وظنوا أنني تماديت في حبك حكايتي ، وأنا أؤكد لهم الفعل بكل حروفي ..
غادروا غاضبين مني ، صمت برهة ، عدت إلى نفسي وأعلنت أمامها أنه فعلها ، وجسد أعلى حالات مكره كما تعلمت في كتاب القراءة ، تظاهر بالموت وتحمل غلاظتي ، كي يحصل على غنيمة ما ويفر ..
(1)
البكيرة : البقرة الفتية التي لم تلد بعد .
(2)
الجقل : الثعلب .
(3)
الصمد : المحراث الخشبي القديم .
(4)
البرطاطية : نوع من شجر التين .

محمد عزوز

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية