قصة قصيرة

أوراق قدموسية 31 - 32 - 33 - 34 بقلم محمد عزوز...

أوراق قدموسية 31 - 32 - 33 - 34 بقلم محمد عزوز...

1687 مشاهدة


(31 )
لأنه الثلج

كل شيء في صمت مطبق هذا الصباح
بياض .. في بياض .. في بياض
لا حس ولا حركة لأي إنسان .. رغم أن وقت الحركة قد آن ..
تلاميذ المدارس يستسلمون لدفء الفراش والمدافئ العامرة ..
وما من أم تحث أولادها على النهوض هذا الصباح ، فالطريق إلى المدرسة رغم قربها غير سالكة ، ولا يصح لمن كان في عمرهم أن يعبر .
العجائز الذين يوقظهم سعالهم وآلام الشيخوخة الأخرى .. استسلموا لدفء البيوت والتصقوا بمدافئها ..
الكل يستسلم لصمت الثلج وبرده وبياضه ، ولأنه البياض ، يبقى هو الأمل لأيام قادمة أجمل ، لكن طقس الثلج يستوجب هذا الصمت ..
وحدها العصافير ، تعلن عن نفسها بضجيج سافر جميل ، وكأنه سمفونية لهذا الصباح الآخاذ .
تقترب من البيوت ، تبحث عن شيء تأكله ، تتجرأ أكثر ، تصل إلى حواف النوافذ والأبواب ، فكل شيء خلا تلك الزوايا مغطى بالبياض المتراكم .
استمتع بمرآها من خلف الزجاج ، وهي تقترب من قطع الخبز التي أصرت والدتي على عادتها أن تضعه في القسم الخارجي من نوافذ البيت ، منذ بدأ الثلج يتساقط بعد ظهر البارحة ، وزعتها كيفما اتفق ، ولم أحتج ، لأن احتجاجي لن يفيد ، ولأني أعرف أنها ستقرعني وتتهمني بالقسوة وقلة المعرفة .
يقترب الواحد منها على عجل ، يلتفت يمنة ويسرة ليأمن المكان ، ثم يلتهم بسرعة فائقة ما يحتاجه ويطير ليعود آخر ، بتناسقية عجيبة ، وقد يجتمع إثنان أو ثلاثة على مائدة واحدة .
كان المشهد رائعاً ، وكنت أستغرب كيف يتقاطرون بهذه السرعة ، بل كيف يعرف جمعهم بهذه الوجبة المتوفرة في هذا المكان .
أنتشي لمتابعتهم ، وأحس معهم بشبع ما أحسسته يوماً بعد جوع ، وأعود بذاكرتي إلى أيام طفولتي ، وكيف كنا نستغل عموم الثلج المتراكم ودنو العصافير من فسحة دارنا الواسعة أمام غرفنا الطينية ، ونحتال لصيدها بمنخل البيت ، لكنه صيد أبيض كالثلج ، حيلة بسيطة ، نشد الخيط المربوط بالمنخل المرتفع قليلاً من الداخل ، ونسجن العصفور تحت المنخل .
ولأن غايتنا لم تكن تتجاوز اللعب ، كانت عصافيرنا تعود إلى حريتها سريعاً .
لكني لا أزال حزيناً على حالة الرعب التي كنا نتركها بها عند سجنها والإمساك أو العبث بها .
ولأنه الثلج ، لأنه البياض ، كنا نعبث بها ، عبث البراءة والطفولة ، ثم نطلقها دون أذى ، ودون طلب فدية ..

محمد عزوز
القدموس
آذار 2012

أوراق قدموسية
(32)
عند العقرب لا تقرب

( سعد الخبايا بتضهر فيه الحيايا ) ، والحيايا بلهجتنا المحكية هي الحيّات (ج حية ) ومعنى ذلك أن الشمس تصبح دافئة في أيامه بحيث تسمح لهذه الحيّات بالخروج من سباتها الشتوي ، والتنعم بالدفء اللذيذ لشمس شهر آذار .
قول حفظته منذ بدأت أعي مثل هذه المسائل ، وتوارى في ثنايا الذاكرة عندما أقمت في مدن أخرى ليحل محله قول آخر أكثر جمالاً ( سعد الخبايا بتفتل فيه الصبايا ( ، ثم عاود سابقه إلى الظهور معلناً عن نفسه بقوة ، عند حلول موعده في السابع من آذار من كل عام ، تذكرني به مفكرة المكتب الماثلة أمامي ، وتعود معه كل القصص التي تتعلق بهذا الكائن الذي أخافني منظره ، دون أن ينالني منه أي أذى يروى عنه ، أنا أو أي طرف آخر تشارك معي في جمع ذكرياتي العمرية التي لم تعد قصيرة الأمد.
ولأني صرت أقيم في مدينة سلمية التي تجثم على أطراف البادية السورية ، والتي تكثر فيها العقارب أكثر ، يحضر قول آخر ، طالما رددناه بعدما سمعناه ممن سبقنا ( عند العقرب لا تقرب ، عند الحيّة افرش ونام ) . ودلالة هذا القول قوية ، وهنا لب القصيد .. إذ أن ما طغى على سطح ذاكرتي من قصة تلك الحيّات يؤكد فعلاً أنها لم تكن تؤذينا في شيء ، بل هي لا تنفك تهرب مسرعة عند رؤيتنا أو الإحساس بوجودنا . ونحن لم نكن نراها في آذار أو نيسان لتأخر شتاءات القدموس ، وإذا صادف ذلك فتكون قد ظهرت كي تنعم بدفء الشمس المفتقد ، وتسير ببطء شديد ، يكاد يجعلها في مرمى أحجارنا إن تجرأنا وفعلنا ذلك ، بينما تفر في الأشهر الأخرى بسرعة كي تختفي في جحر أو حرش .
السواد هو لونها الأكثر انتشاراً ، والهروب بجلدها هو الحالة الأعم .
ففي الحصاد رأيتهما تتصارعان في دوارة كرم الآغا ، صرخت منبهاً والدي ، الذي حمل أقرب حجر ، ولكنهما كانتا أسرع في ترك الصراع والهرب .
وفي غفلة من والدتي التي كانت تحضّر فطائر اللحمة ( السمبوسك ) في أرض الدار ، تمكنت إحداهن من الإقتراب ، والهجوم على الفطائر ، محاولة أن تظفر بفتات اللحم المختبئ في طياتها . ومع قدوم الوالدة وصراخها ، هربت مختبئة في جحر بأرض الدار . وظهرت بعد ذلك في سقف البيت الترابي ، وهنا تنامى خوفنا ، مما استدعى طلب النجدة من جفت جارنا طلال ، الذي لم يقصر ، لكننا لم نتأكد من إصابتها بطلقة جفته .. إلا أنها لم تظهر بعد ذلك .
أما ابنة العم التي نامت معها ليلة كاملة في الفراش ، فتمثل حالتها ذروة الغرابة في حكاياها، وتؤكد القول المتناقل الذي يدعوك للنوم معها دون وجل .
قتل منها الرعاة الكثير ، ورأيناها تسعى في دروبنا عجولة ، ولم يصلني أي نبأ مؤكد عن لدغة ممرضة أو مميتة في رحلة عمر امتدت طويلاً .
فهاتها يا سعد الخبايا ، رغم أن منظرها لا يروق لمرأى العين ، ويزرع الخوف في النفوس ، لكنها لا تؤذي في النهاية ، ولن تفعل فعل العقرب التي تلسع بمجرد ملامستها في أرض تكثر فيها ، وتتخفى بسهولة في أثلامها وزواياها ، بينما لا تملك تلك الحيّات أي قدرة على اختفاء مماثل .

محمد عزوز

أوراق قدموسية
(33)
الآن بدأت

مللت من أسئلتهم التي تنهال علي بعد أن عرفوا أنني تقاعدت من عملي بشكل مبكر ، وقد كنت أحتل مركزاً وظيفياً مهماً :
-
وماذا تعمل الآن ؟ أو ماذا تنوي أن تعمل ؟
-
لا شيء ..
-
كيف لاشيء .. أنت لا تزال شاباً ؟
ولم يكن من السهل أن أشرح لهم أنني سأتفرغ للكتابة ولأعمال أخرى أتوق إليها ، أعمال تراكمت في مخيلتي طويلاً ، لأنني سأنعت بالجنون أو ما شابهه من الصفات التي ستدفعني لغضب كبير .
ويتطاول البعض ليسألني عن ثروة مفترضة جنيتها بعد كل هذه الخدمة ، وعن المشروع الذي أنوي المباشرة به ، فأضطر هنا لرفع حرارة إجابتي محاولاً أن أكون أكثر توازناً ، خاصة أن محدثي ليس قريباً مني بما يكفي ليعرف جنى العمر :
-
والله يا أخي مشروعي الذي تقصده أنت هو أن أتوجه في نهاية كل شهر للصراف الآلي لقبض راتبي التقاعدي الذي أسدد عجزه عن مواكبة حاجات أسرتي من مكافأة نهاية الخدمة التي لا فائدة ترتجى منها سوى ذلك ، ولن يمتد ذلك طويلاً ، لأنها ستنفد خلال أشهر قليلة .
أقرأ عدم الرضى عن إجابتي ، ولكني رضيت أنا بها وانسحبت .
فالتقاعد في نظرهم أنني يجب أن أكون مريضاً في فراشي ، حتى تنطبق هذه الصفة علي . بينما يعرف معظمنا أن كثيراً من الأشخاص في دول قطعت أشواطاً في التقدم ، يعتبرون أن مباشرة حياتهم الحقيقية تبدأ في سن التقاعد التي تزيد قليلاً عن سن التقاعد عندنا ، ويبدأون برحلات ونشاطات نستغربها نحن عندنا نعرف عمرهم الحقيقي .
وهذا يذكرني بعبارة أطلقها صديق لي مهتم بالمسرح تقاعد أو بالأصح أحيل إلى التقاعد في الستين من عمره ( صفري ) وقد بدأ نشاطاً معهوداً له ، بهامش واسع من التحرك ، متنقلاً إلى دمشق وعواصم عربية وأجنبية أخرى .
وعندما عدت أنا إلى القدموس ، ظن الكثير من الأصدقاء والمعارف أنني انكفأت بعودتي إلى معقل الطفولة والطبيعة البكر . ولم يكونوا يدركون أنني إنما حملت في ذاكرتي مشاريع ثقافية وإجتماعية ، بدأت بعضها ، وتريثت ببعضها الآخر حتى تستقر أحوال الوطن ، وتسمح لي بهامش أوسع من التحرك .
نعم أيها الأصدقاء ، أنا تقاعدت كي أبدأ .
وإذا صدف وكنت في هذا الموقع أو ذاك ، فأنا لا أتعمد التنزه فقط ، بل أتزود بنقي الهواء والناس وأعطي للذهن فرصته للتطهر من أدران ربما تكون قد علقت به ، كي ينطلق بشكل أفضل .
أنا لا أقول هذا الكلام لأصدقاء يعرفونني عن كثب ، بل لأصدقاء لا تزال تخطو صداقتي معهم نحو أفق أرحب ، وأنا واثق من تسارع خطوها ..
دمتم أحبتي ، مع وافر التحية

محمد عزوز
قدموس

لأنها أم أولاً ، وأسطورة ثانياً ، وقدموسية ثالثاً ، كانت هذه الورقة

أوراق قدموسية
(34 )
المرأة الأسطورة

لم تبكني ( أم باسل ) عطفاً أو حزناً ، بل أبكتني فرحاً وإعجاباً واعتزازاً .
ولم تبكني وهي تشرح لي بعض صعوبات حياتها ، بل أبكتني وأنا أكتشف فيها امرأة ناضجة الوعي والثقافة ، تمتلك من الطيبة ما يكفي أهل الأرض كلهم .
امرأة وجدت نفسها زوجة وهي في السادسة عشرة من عمرها ، وعندما استفاقت ، لم تستسلم لدور الزوجة ، وتحدت الواقع . حصلت على الثانوية العامة ، ودخلت الجامعة ، دون أن تعيقها أمومتها التي ولجت سريعاً هي الأخرى .
كل ذلك والبيت لم يزد عن غرفة واحدة ، تقيم فيها مع زوجها وأولادها الثلاثة .
والآن هي في السنة الخامسة بكلية التربية / إرشاد نفسي بجامعة تشرين ، متفوقة ، تعد أطروحة تخرجها .
تسير مع أولادها الثلاثة وكأنها أخت لهم ، وتتعامل مع رفاق دروبها وكأنهم أخوة أعزاء ، تنسى الإساءة ، وتقدر جميل الكلام خير تقدير .
هي تخطو نحو الأربعين ، جامعتها ديدنها ، وقد منحها إصرارها على الشباب ، شباب حقيقي .
وعندما حدثتني عن معاناتها مع بعض من حولها ، وعن تقدير العارفين لها ، عادت دموعي تركض إلى مآقي ..
قد تقولون لماذا الدموع ..؟ معكم الحق ..
أنا يا أخوتي هكذا خلقني الله ، عندما أشهد البكاء أبكي ، وعندما أسمع زغرودة امرأة أبكي ، وعندما يفرح طفل أمامي أبكي ، وربما كان في بكائي نجاة لي من عواقب فرط التأثر .
ولكل واحد فينا طريقته في إبداء تأثره ، فلي صديق يقدس الإبداع والتميز ، وعندما يشهد حالة مشابهة ، يبدأ جسده بالإرتعاش ، وتحس بالبكاء في عينيه وما هو ببكاء .
أما ( أم باسل ( فلها كل التقدير لأنها امرأة قدموسية أصيلة ، تذكرني بقدموس الفينيقي الذي ذهب ليسترد أخته أوروبا ، فأقام في طيبة ( ثيبة ) اليونانية يعلم الناس الأبجدية .
أم باسل أسطورة قدموسية بل وطنية ، وليعذرني أحد مدرسي أولادها ، الذي قال لابنتها يوماً ( أمك أسطورة ) فقد استعرت العبارة منه لأنني آمنت بها .
جربوا أن تتعرفوا إليها ، وستؤمنون بما أؤمن به ، صدقوني ..
لا تسألوا .. ليس في بيتها جهاز كمبيوتر .. وليس لها حساب أو صفحة في الفيسبوك .. معروفة في كليتها بأم التسعين .. والمقصود علامات موادها ..
فلها ولزوجها الذي وقف إلى جانبها كل تلك السنين كل التحية والتقدير.

محمد عزوز

)
كُتبت هذه الورقة قبل نحو عام .. وأم باسل اليوم خريجة تنتظر فرصة لعمل أو متابعة الدراسة العليا(


التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية