قصة قصيرة

أوراق قدموسية 35 - 36 - 37 - 38 ..بقلم محمد عزوز...

أوراق قدموسية 35 - 36 - 37 - 38 ..بقلم محمد عزوز...

3392 مشاهدة

أوراق قدموسية
(35 )
شو ما بدّي ..؟ لا .. بدك ..

عبثاً أحاول أن أعتذر عن الركوب إلى جانب السائق في السرفيس العامل على خط ( سلمية – القدموس ) وذلك لأن السائق كان يؤكد إصراره ، ويحلف بأيمان مغلظة أنه ترك هذا المحل خصيصاً للأستاذ محمد ..
وأنا رغم أن المحلات الأمامية تكون أكثر راحة لظهر أتعبته السنين ، إلا أنني كنت أفضل الجلوس في المقاعد الأخرى ، ومن هنا جاءت محاولة الإعتذار ، لأنها تنجيني من ثرثرة لا طائل منها ، يصر عليها السائق ، بينما كنت أفضل الصمت والتمتع بمشاهد الطبيعة في الخارج ، وخاصة بعد أن تتضح معالم الخضرة والجمال فيها . وربما رغبت بإغفاءة قصيرة أريح فيها رأسي المتعبة ، أو التحاور مع ركاب صرت أعرفهم بحكم السفر المستمر ، أو بحكم قدموسيتهم المزمنة .
وفي كل مرة ألزم فيها بالجلوس إلى جانبه ، تبدأ أسطوانته المعتادة :
-
شو أستاذ .. ما اشتريت سيارة ..؟
-
لا والله لسا ..
-
شو لسا ..!؟ ما بيصير .. صار لك عمر بتركب سيارة ، مو معقول تضل هيك ..!!
ولما كنت أعرف أنني لن أقنعه بالعدول عن رأيه ، سايرته ، وحاولت أن أدبج حججاً تقنعه ، وكان يعدد لي أنواعاً لا أعرفها من السيارات الحديثة ، موقناً أنني أستطيع اقتناء واحدة منها ببساطة ، وأنا أسايره بالإستفسار عن مزايا كل نوع .
ولم يكن الوحيد في ذلك ، ولأن الناس اعتادوا أن يروني في تلك السيارة الحكومية التي كانت عروس زمانها ذات يوم ، فقد ظللت أسمع عبارات مثل :
-
شو أستاذ .. وين السيارة ؟
-
شو بعتها .. ناوي تجدد ..؟ ( وهؤلاء لم يكونوا يعرفون أنها حكومية(
-
دير بالك بكرا بتنسى السواقة ..
وكان علي أن أشرح لبعضهم أني تقاعدت من عملي الوظيفي وأعدت السيارة للجهة التي كنت أعمل بها ، ولبعضهم الآخر أن طبيبي الخاص نصحني برياضة المشي في هذا العمر ، ولذلك أخرت أمر شراء السيارة أو ألغيته . ويعلن بعض ممن يظنون أن جيوبي متخمة أن تأجيل الإقتناء أفضل في مثل هذه الظروف السياسية والإقتصادية .
أما الخاصة الذين يعرفون (اليير وغطاه ) ، فهم لا يسألون ، بل يشجعونني على الإستمرار في برنامج المشي .
وتذكرت جواب صديقي الأستاذ الجامعي المخضرم الذي لم يقتن سيارة حديثة بعد أن أتعبته سيارته القديمة ، بعد سؤاله : أملك كل هذه السيارات ، وأستطيع أن أحركها كيفما أشاء ، ويتلمس جيب بنطاله .
صدقوني الأمر برغبتي وقناعتي ، وقد نسيت الأمر تماماً ، ولكنهم لا يريدون أن ينسوا ، وكأن لسان حالهم يقول :
-
شو ما بدي ..؟ لا .. بدك ..

محمد عزوز

أوراق قدموسية
(36)
متة مريّطة

لم يكن البيت سوى غرفة واحدة واسعة ، مكونة من ( صيباطين ) ولا أعرف إن كانت كتابة هذه الكلمة صحيحة لأني لم أقرأها يوماً في مكان ما ، ولا أعرف لها أصلاً معجمياً ، ولعلها جاءت محرّفة إلى لهجتنا المحلية من لغة أخرى ، ومفردها صيباط وهناك صيباط فوقاني وآخر تحتاني .
ولم أكن في طفولتي قادراً على تفسير وجود هذين الصيباطين ، ولكني بعد بعض الوقت عرفت أن التحتاني كان يخصص للدواب في الشتاءات القارسة ، والفوقاني لأهل البيت .
بداية استغربت أن يبيت أهل البيت ودوابهم في غرفة واحدة ، ثم قدرت الأمر ، وعرفت أنه كان عليهم أن يحموا دوابهم من البرد والوحوش الضارية ، والقدموس منطقة شتاء طويل وصعب .
ومن التحتاني وبعد أن تجتاز جرة ماء الشرب في موضعها خلف الباب ، تستطيع أن تهبط إلى ( السفيلة ) حيث الحَبُ والتبن والعجول الصغيرة المحجوزة عن أمهاتها ، كي لا تنفرد بحليبها فتحرم أهل البيت منه وتؤذي نفسها . ومن ثم هناك باب صغير يؤدي إلى أرض الدار التي تتزاحم فيها شجيرات صغيرة ، وفي زاويتها موقد النار ثم الجبّ الذي تعلوه ( خرزة ) حجرية منحوتة بعناية .
ولم تتزامن طفولتي مع دوابهم التي صار لها أمكنة أخرى ، أو ربما تم الإستغناء عنها للتحول في جيل لاحق إلى مهن أخرى . لكن الصيباطين ظلا موجودين . وكان ( الساموك ) وهو عمود خشبي ثخين وقوي تتكئ عليه أخشاب السقف في المنتصف ، فالمساحة واسعة ، ولا تصل هذه الأخشاب إلى الجدارين المتقابلين .
الأرض كما السطح ترابية ، تعشش فيها البراغيث النشطة ، والشتاء مفعم بالدلف الذي تردعه عمليات ( العرجلة ) ، وشباك البيت يطل على الزاروب وإلى جواره رف خشبي عليه مذياع خشبي ، يصل صوت إذاعة لندن منه إلى أطراف الحارة .
وسهرات الشتاء تعمر في البيت حول مدفأة الحطب ، وعمادها حديث لا ينتهي عن هموم مهنة البياضة التي كان يرويها ( أبو علي ) بكثير من الحرفية ، أوحكايات ترويها إحدى العجائز ، وننصت نحن الصغار كما الكبار إليها بشغف ، ورغم أن الخيال كان يشطح بها كثيراً ، إلا أننا كنا نصدق كل حرف فيها .. حتى حكاية الجنية التي رافقت الحطابات إلى الحرش ، وقبعة الإخفاء التي ليس من الصعب الوصول إليها ..
ومشروبنا الأوحد ( المتة ) التي يعدها أبو علي بمهارة فائقة ، حتى صارت له شهرته المميزة ، ولم نكن قد اعتدنا بعد على إعداد كأس واحدة لكل شارب ، تدور كأس واحدة على الجميع ، وينتظر الواحد منا دوره بكثير من الشغف . وشهرة متة أبو علي في أنها لا تقطع ، أي تبقى محافظة على رغوتها ( ريطتها ) حتى يعلن الجميع كفايتهم ، وقد يضطر أحياناً لإصلاحها أي استبدال جزء منها إن كان عدد الحاضرين كبيراً ، ولا يصح بأي حال من الأحوال وعلى يديه أن يتم استبدالها كلياً .
وظلت شهرة متة ( أبو علي) ترافقه طوال عمره الذي جاور الثمانين ، ولكنه قبل أيام اعترف لي بلسانه ، وأنا أذكّره بالمتة المريطة في سهرة بمنزله الذي تحول إلى شقة سكنية حديثة :
-
والله يا أستاذ المتة ما عادت متل متة هديك الإيام ، والناس قال شو .. كل مين بدو كاسة لحالو .. شو بيعرفني .. والله كنا نشرب كلنا بمصاصة وحدة .. ولا مرض ولا من يحزنون .. الله يرحم هديك الإيام ..
وأنا أردد معه دون أي تردد :
-
الله يرحم هديك الإيام .. مو بس مشان المتة المريطة ..

محمد عزوز

أوراق قدموسية
(37)
دق حجار

كنت أراقبه وهو محني الظهر ، يداه تعملان بلا كلل ، يمسح بين الفينة والفينة عرق جبينه بطرف نقاب اختلطت ألوانه . وكنت أحاول الإبتعاد عن محادثته وأنا قريب منه ، لئلا أدفعه إلى الإنتصاب ، فأحس معه بتعب ظهره الذي اعتاد على الإنحناء زمناً ، وربما لم يعتد على الإستقامة إلا قليلاً .
رأيت فيه صورة والدي الراحل منذ عقدين من الزمن ، لأنه كان يمارس ذات المهنة في أوقات تمنحه فيها الأرض إجازة قسرية من الفلاحة أو الرعاية أو الحصاد والجني ..
( دق الحجار ) هكذا كنا نسمي هذه المهنة ، والعمل يعني العبارة تماماً ، لأنه ببساطة هو تشذيب للحجارة المقتلعة من المقلع وفق قياسات معينة ، لتصير جاهزة للبناء .
معدات بسيطة ترافقه ، ونثرات من تلك الحجارة تتطاير أو تهوي إلى جواره ، مشكلة لوحة تشكيلية جميلة . والعمل شاق لأنه في النهاية تعامل مع حجر قاس ، ومحاولة الحصول منه على شكل ملائم .. هو أشبه بعمل متواصل لنحات حقيقي ..
ولكن من حوله لم يكونوا يعترفون له بقدراته الفنية ، لأن منتجه لن يظهر إلا بعد أن يصير في واجهة بناء ما ، ويصير المدح متعلقاً بجمالية البيت ومهارة البنّاء ، ولا أحد يتحدث عن جهد بذله هذا النحات المتواري .
وأقرأ في انحنائه صورة مطابقة لانحناءة الوالد ، ولتعب انتصابه ، التعب ذاته ، وكأن اليد ذاتها تسند الظهر ، وأرى ابتسامة والدي وهو يسمع تحيتي ويرى الزوادة في يدي مصرورة بعناية ، وأسمعه يرحب بي مهللاً :
-
الله يعافيك يا عبود ..
(هكذا كان يناديني في أحيان كثيرة ) وربما أعقبها بسجعية جميلة ( ياعبود يابو الشوارب السود ) رغم أن شاربي لم يكونا قد بزغا بعد .
ثم يفيء إلى ظل شجرة قريبة ويمازحني مكرراً لازمته ، ويفتح صرة أرسلتها أمي ، وعندما يبدأ فكاه بالتحرك ، أترك مراقبته وأروح لأتأمل أكوام الحجارة التي شذبتها يداه ، وأعلن أمام نفسي بصوت يكاد يسمع :
-
والله إنك لفنان حقيقي يا أبي ..!!
كثيرون هم أولئك الذين انتقدوا استدعائي لذاك العجوز الذي يمارس مثل فعل أبي ، ويشذب أحجاراً ، هي من بقايا البيت المتهدم الذي اقتنيته ، وصممت أن أجعل منها واجهة لبيتي الجديد .. ولكنهم عندما شهدوا اللوحة في الواجهة ، صار قراري بنظرهم سليماً ، بل قوي الحجة ..ولم أكن أستطيع أن أضيف إليهم دفء مشهد آخر ، مشهد كنت أحاول أن أرى فيه أبي في صورة رجل يشبهه ، له ذراعان قويتان ، ورؤية فنان .. وذات الإنحناءة ، حتى أنني كنت أسمع الآخ نفسها ، أسمعها عند نهوضه ليرد التحية ، ويتناول ضيافته ، لكنني لم أكن أسمع لازمته :
-
الله يعافيك يا عبود يا بو الشوارب السود .

محمد عزوز

( الصورة واجهة بيتي القدموسي بحجارته المدقوقة)

 أوراق قدموسية
(38)
نقيفة

رأيتها مرمية في طريقي ، فخمنت أنها سقطت سهواً من أحدهم ، تناولتها ، تلمست أجزاءها متفقداً ، نعم إنها هي ذاتها ( مطيطة – عود مطيط – نقيفة ) تسميات مختلفة لوسيلتنا الأهم في صيد العصافير أيام الطفولة وأول الشباب .
وحضر حنيني لتلك الأيام والأفعال ، رغم أنني لم أفلح في أي صيد عبر مسيرة طفولتي بعد أن مر ردح طويل منها ، وكان علي أن أتحمل سخرية أترابي واتهامهم لي بعدم الدقة في التصويب ، أو برداءة تصميم ( نقيفتي ) ، وأنا أتألم وأحاول أن أفعل شيئاً دون جدوى .
كانت حصاتي المندفعة تذهب سريعاً إلى حيث يقف ذاك العصفور ، لكنها كانت تخطئه في كل مرة .
وكنت أنظر إلى النماذج الأخرى في أيدي أترابي وأنا في ضيق شديد ، أطلب إحداها للمقارنة ، فأكتشف ببساطة أنها لا تختلف عن نموذجي .
وفي غفلة عن الباقين خلوت بأمهرنا في صنعها ( زاهر ) وطلبت منه أن يصنع لي واحدة كالتي معه ، مقابل ربع ليرة كاملة ، هي كل خرجيتي عن خمسة أيام كاملة . وافق على العرض ، وذهب إلى شجرة سنديان قريبة ، فتش في أرجائها حتى عثر على ضالته ، واقتطع قوساً وأخذ يشذبه بعناية ، وفي اليوم التالي كانت ) النقيفة ) جاهزة في يدي .. جربها أمامي ، ومن محاولته الأولى ارتمى أمامنا صريعاً دوري سمين .
ولم أنل مرادي ، إذ لم تصل أي حصاة مهما راعيت حجمها واستدارتها في الوصول إلى جسد أي عصفور .
ولم ينفع احتجاجي أمام تجاربه التي كان يكررها أمامي ، فيحظى بصيد وفير ، إذ تتحول نقيفتي في يده إلى مهارة حقيقية ، بينما هي ترتجف في يدي ، وتخطئ عيني التصويب الدقيق ، فتتنامى خيبة أملي يوماً بعد يوم . أتمرن في غيابهم ، أشد يدي وأمعن أكثر ، ولا أحظى بشيء .
وكان علي في نهاية كل يوم أن أخفيها في مكان ما قبل دخولي إلى البيت ، كي لا ألام من أبوي ، أو تصادر ليمزقها أحدهما ، وهما يكرران على مسمعي قصة قلع عين جارنا ( أحمد ) في عبث طفولي بها غير مقصود .
وظللت أيام ذاك الصيف كله ، أعيد الكرة ، لأعيد ثقتي بنفسي ، إلى أن فعلتها ، لا تستغربوا .. فعلتها ، ولا أعرف كيف ارتمت أمامي بلا أي حراك .. ولم أثق في البداية من فعلي ، وظننت أن أحد ما هو الذي أصابها .. ولكن انفرادي في المكان أكد لي أنني صاحب الطلقة ( الحصاة ( القاتلة ، انتشيت واقتربت من العصفورة ، رفعتها بيدي ، كانت حصاتي قد أنهت حياتها على الفور .. صغيرة الحجم هي ، ليس في جسدها شحم أو لحم ، عظام وبعض الريش ورأس صغير وقلب توقف عن النبض ، فماذا أفعل بها ؟ وقدرت أن أمي ستلومني حتى لو قلت لها أنها من صيد أترابي ، وسترميها لقطة الجيران .
قلبت الأمر في ذهني ، تنامى ألمي مما فعلت ، وعاد إلى أذني صوت غنائها في أعلى شجرة البلوط قبل قليل ، قادني غناؤها إليها فأسرعت ورميت وقتلت .. وانتابتني نوبة ندم فظيعة ، دفعتني لبكاء هستيري .. ووجدت نفسي أنكش التراب الغض في المكان ، ثم أتحول إلى نقيفتي أكسر عودها بعصبية غير مشهودة مني ، وأمزق مطاطها ، أوسع الحفرة أكثر وأدفن القتيلة وحطام النقيفة فيها ، وأشتم في سري وعلني ( زاهر ) الذي صنع لي مثل هذه النقيفة التي صارت أداة قتل حقيقية ، لا أداة لهو وعبث ..
توجهت بعد ذلك إلى بعض أترابي ، وأعلنت أمامهم دون أي ذكر لتفاصيل فعلتي ، أنني لن أعود لمثل هذا الفعل من جديد ، وسط ذهولهم ، وهم الذين كانوا يشهدون إصراري على إتمام فعل الصيد بعد رحلات فشلي المتكرر ..
وظل الأمر يطفو على سطح ذاكرتي، بأي تحريض بسيط قوامه مرأى أي عصفور ، أو أي شيء من لوازم صيده ، وكتم غنائه .

محمد عزوز

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية