قالت الصحف

إدريس قرقوة.. خدم المسرح الجزائري في واحدة من فتراته سياسة معيّنة

إدريس قرقوة.. خدم المسرح الجزائري في واحدة من فتراته سياسة معيّنة

3459 مشاهدة

الثورة الجزائرية لا تزال موضوعاً للأقلام بمناسبة وبغير مناسبة

إدريس قرقوة.. خدم المسرح الجزائري في واحدة من فتراته سياسة معيّنة

جريدة السفير اللبنانية

26/2/2011

انور محمد

إدريس قرقوة ناقد وكاتب مسرحي وأستاذ جامعي صريح وجريء، التقيناه في الجزائر في إطار فعاليات «مهرجان المسرح الدولي» في هذا الحوار:
[
نلاحظ في معظم العروض المسرحية الجزائرية غلبة الإيديولوجيا والهمّ القومي عليها.
ـ الهمّ القومي سِمةٌ طبعت أعمال مسرحيين جزائريين كثيرين، على اعتبار أنّ الهموم العربية مشتركة. هذا أمر ضروري. لعلَّ أبرز الكتَّاب المسرحيين الجزائريين التصاقاً بهمِّ الإنسان العربي كاتب ياسين، حيث نجده غارقاً في الهمِّ الوطني والقومي إلى أخمص قدميه، هو الذي عاش مجازر الثامن من أيار 1945 التي اقترفها الاحتلال الفرنسي في مدن سطيف وقالمة وخراطة في الجزائر، ودفع الشعب الجزائري خلالها أكثر من 45 ألف شهيد. قد تكون نظرة الكاتب الإيديولوجية الشمولية للوضع العام وراء هذا التوجه.
لم يكن كاتب ياسين وحده. هناك عبد القادر علولة وولد عبد الرحمان كاكي وأمحمد بن قطاف وبوقرموح وغيرهم.
لماذا الإيديولوجيا؟
في مرحلة من مراحل المسرح الجزائري، أُطلق على المسرح في بلدنا اسم «المسرح المنولوغ». لعل السياسة العامة للبلد بعد الاستقلال كانت وراء انسياق العديد من الكتَّاب والمخرجين إلى تبنِّي خطاب السلطة في أعمالهم المسرحية، خاصة مع سياسة التأميم التي نهجتها الدولة مع مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. أمَّمت «مؤسَّسة المسرح» و»الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني» التي كانت تعمل في تونس خلال ثورة التحرير، والتي عادت إلى الجزائر بكامل طاقمها الفني والإداري لتنشط باسم «فرقة المسرح الوطني»، وتعمل في إطارٍ عام رسمته الدولة الجزائرية عبر قرار التأميم الصادر في العام 1963، الذي جاء ضمن لائحته بخصوص المسرح ما يلي: «أصبح المسرح في الجزائر التي تبقى الاشتراكية ملكاً للشعب وسيبقى سلاحاً لخدمته. فمسرحنا اليوم سيكون معبِّراً عن الواقعية الثورية التي سيحارب المسرح كل الظواهر السلبية التي تتنافى ومصالح الشعب».
المسرح الموجَّه
[
هل أفهم أنَّ الدولة الجزائرية هي من كرَّس الإيديولوجيا وبقرار رسمي؟ أي على المسرح أن يكون ذا خطاب سياسي موجَّه؟
ـ بالتأكيد. بإمكانك أن تسمّيه «المسرح الموجَّه». فربطه بالاشتراكية ودوره في خدمة مبادئها ركَّز عليهما قرار التأميم، الذي ألحَّ على أن يبقى المسرح مسايراً، أو عليه أن يساير التحوّلات الجديدة التي شهدتها الجزائر مع بداية مرحلة البناء والتشييد، فأعيد إنتاج مسرحيات «أبناء القصبة» لعبد الحليم رايس و»أفريقيا قبل الواحد» لولد عبد

الرحمان كاكي و»البوّابون» لرويشد ومسرحيات كاتب ياسين و»المايدة» لعبد القادر علولة، التي تناولت الثورة الزراعية والتسيير الاشتراكي للمؤسّسة الفلاحية في إطار ما كان يُعرف بالإنتاج والإنتاجية. مثل آخر هو مسرحية «حوت ياكل حوت»، التي قيل عنها غداة عرضها إنها إنجاز ثوري يتميَّز بالرزانة والجمال والموضوعية في تناولها القضايا المعاصرة. ثمَّ مسرحية «الخبزة».
علينا التأكيد هنا أنَّ المسرح الجزائري خلال فترة من فتراته خدمَ سياسة معيَّنة: الثورة الزراعية، الطبّ المجاني، محو الأمية، التسيير الاشتراكي للمؤسّسات العمومية وغيرها.
[
هل هذه السياسة لا تزال قائمة؟ وهل لا تزال لثورة التحرير آثار على المسرح؟
الثورة الجزائرية من أعظم الثورات العالمية، فقدنا فيها أكثر من مليون ونصف مليون شهيد في مواجهات مع مستعمر استيطاني بقي فوق أرضنا مدة 132 عاماً. أعتقد أنَّه من المستحيل على جيل الاستقلال والأجيال الثلاثة التي تلته أن تنسى ذلك. لذا، خلَّد مسرحيون عديدون مآثر ثورة التحرير في كتاباتهم وأعمالهم المسرحية، كـ»نحو النور» و»أبناء القصبة» و»الخالدون» و»دم الأحرار» و»132 سنة» و»حسن طيرو» و»حسن الفدائي» و»الغولة» و»العربي بن مهيدي». لا تزال أقلام مسرحية شابة عدّة تكتب في هذا الاتجاه، بمناسبة وبغير مناسبة. وربَّما أكون واحداً من هذه الأقلام، فمثلاً لي عملان مسرحيان بصمات ثورة التحرير واضحة عليهما: «وقامت الجزائر» و»أوبريت على خطى الأجداد»، جاءتا بتركيب شعري شعبي بالملحون، والأخيرة حصلت على جائزة أحسن عرض في «مهرجان مدينة سطيف للمسرح المحترف» في العام 2005.
[
هل استفاد مسرحكم أيام ثورة التحرير في الأربعينيات والخمسينيات من جماليات المسرح الأوروبي، خاصّة الفرنسي؟
ـ في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كانت الجزائر لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي. لا شكَّ في أن الحركة الثقافية والفنية ككل تأثّرت بالحركة الثقافية الفرنسية، والمسرح باعتباره يشكِّل جزءاً من المنظومة الفنية الجزائرية، احتكَّ بالمسرح الأوروبي عموماً، وتحديداً من خلال العروض في قاعات المسارح التي شيَّدتها فرنسا في المدن الكبرى، التي كانت تؤدّيها الفرق الفرنسية التي كانت تزور الجزائر بين الفينة والأخرى. هذا بالإضافة إلى الثقافة المزدوجة (العربية والفرنسية) للنخبة الجزائرية، التي مكَّنتها من الإطّلاع على المسرح الأوروبي وجمالياته. كان أبرز المستفيدين من هذه الجماليات محي الدين بشطارزي في مسرحه الشعبي الضاحك، كـ»النائم المستيقظ» و»فاقو» و»ابن عمي في إسطنبول» و»عميل البوليس». كذلك علالو في «جحا». كما أنَّه خلال ثورة التحرير، برز مسرحيون أمثال مصطفى كاتب وعبد الرحمان ماضوي وعبد الحليم رايس.
[
لكن، بحسب قراءاتي ومتابعاتي المسرح الجزائري، أرى أنَّ أبرز من تأثَّر بهذه الجماليات مصطفى كاتب وعبد الرحمان كاكي؟
ـ مصطفى كاتب كمخرج مسرحي محترف يتقن مهنته ويحدِّد هدفه سلفاً. أنا معك .

فقد كان أكثر من تأثَّر بالجماليات الغربية في أعماله، خاصة بالمسرح الكلاسيكي بديكوراته ومشاهده وإكسسواراته وتقنياته، وبدا ذلك في مسرحيات كـ»الحياة حلم» لكالديرون (اقتباس مصطفى قزدرلي)، و»دون جوان» لموليير و»القاعدة والاستثناء» لبيرتولد بريخت و»احمرار الفجر» لآسيا جبار. أمَّا ولد عبد الرحمان كاكي فقد كان ثورياً أكثر في طروحاته الفكرية والإيديولوجية، من خلال مسرحه الذي قدّمه خلال حياته الفنية. كان بريختياً أكثر من بريخت نفسه. طبَّق تقنية التغريب، وكسرَ إيهام المتلقي في أغلب أعماله المسرحية. بل إنَّ الخشبة لم تسع عروضه، فجعل الصالة كلّها مكاناً للعرض وللفرجة المسرحية. اتَّخذ من المسرح الملحمي مطية لتبليغ أفكاره، ولإثارة المتلقي ودفعه إلى التفكير في واقعه. ظلّت مسرحياته خالدة في «الربيرتوار المسرحي الجزائري»، كـ»ديوان القراقوز» المنتمية هذه إلى ما يُعرف بالمسرح داخل المسرح، حيث أن الفرقة تعرض على الجمهور الحكاية وتشكّلها أمامه، حتى أنه في النهاية يتقدَّم المعلم الذي هو شخصية في المسرحية من الجمهور ويقول مخاطباً: «إذا كانت الحكاية لم تعجبكم، فنغني لكم أغنية القراقوز. كما بدأناها نكملها». النص الأصلي بالعامية الجزائرية، استلهم فيه كاكي مدّاح الساحة العمومية، أو ما يعرف بالحكواتي، لسرد أطوار الحكاية والتعريف بشخوص المسرحية. فالمعلم فيها يشبه إلى حدّ كبير دور رئيس الجوقة في المسرح اليوناني. أشهر أعماله «القراب والصالحين»، المقتبسة عن مسرحية «الإنسان الطيب لستشوان» لبريخت، التي استقاها هو أيضاً عن حكاية صينية، وإن كان ولد عبد الرحمان كاكي أدخل عليها تعديلات جذرية على مستوى البناء والشخصيات والحوار واللغة، موظِّفاً الحكواتي والأمثال والأشعار الشعبية الجزائرية، ومقرَّباً إياها من الجمهور الجزائري، ومن وجدانه.
بريخت
لكن كاكي اجتهد أكثر من كاتب ياسين، ونقل بريخت إلى المسرح الجزائري، ما يعني أنَّ مسرحكم في حالة كاكي عادَ وغمَّس خبزه بالإيديولوجيا؟
ـ قد تكون لنشأة ولد عبد الرحمان كاكي في حي شعبي في «تحديث» في مدينة مستغانم أثر في كتاباته وإبداعاته المسرحية، إذ عاش وترعرع في جوٍ تراثي حيث الشعراء والملحون والمداحون، ومحاولة المستعمر الفرنسي طمس معالم الهوية الوطنية، فتولَّدت لديه الرغبة في مقارعة الاحتلال، وبالتالي البحث عن أدوات وسبل تتيح له هذا التوجه، فكان المنهج البريختي ملاذه الأخير، أو العودة إلى تغميس المسرح بالإيديولوجيا كما سمَّيت أنت، لما فيه من التغريب والتحريض وإثارة المتلقي، خاصة أنَّ كاكي في انطلاقته المسرحية سعى إلى تفعيل تلك العلاقة الملتبسة بجمالياتها واتساع نسقها الإبداعي، وقدرتها على استيعاب أهدافه، انطلاقاً من الموروث الشعبي واتكاء على النهج البريختي بما يحمله من مضامين فكرية وإيديولوجية.
لكن بريخت وإن نقله كاكي فلأنَّ فترة الخمسينيات في أوروبا، خاصة في فرنسا، فترة سيادة مسرحي الطليعة وبريخت؟
ـ بالطبع. لكنَّ كاكي لم يكن وحده مَنْ نهل مِنَ البريختية. هناك كتَّاب مسرحيون

عديدون في الجزائر وفي دول المغرب العربي نهجوا نهجه، مثل عبد القادر علولة في «الأجواد» و»اللثام» و»الأقوال»، وزيان شريف عياد في «قالوا العرب قالوا».
[
بعد نجاح ثورة التحرير، زار إرنستو تشي غيفارا الجزائر. وعندما حضر عرض «132 سنة» لعبد الرحمن، قال إنه شاهد مسرحاً ثورياً عربياً في الجزائر. بماذا تفسِّر ذلك؟
ـ مسرحية «132 سنة» لكاكي أقرب إلى المسرح التوثيقي أو التسجيلي كما يسمّيه البعض، حاول خلالها تقديم لوحاتٍ عن الشعب الجزائري في إطار ملحمي متناسق وجميل. ولعلَّه وُفِّقَ في اختيار موضوع المسرحية، حيث جعل ركيزة الحكاية نظرة أسرة جزائرية متمسِّكة بعاداتها وتقاليدها وموروثها الحضاري إلى الاحتلال الفرنسي. وشمل عرضه فسيفساء من الحكايات الشعبية والشعر والملحون والأمثال والأزجال الشعبية، أي أنه أعطاها خصوصية وطنية جزائرية. أو بمعنى آخر «جزّأرها». استعان كاكي بالمداح الشعبي والحكواتي، اللذين أضحيا لا يفارقان مسرحه في شخص الدرويش، الذي كان يسرد قصة الشعب الجزائري ومعاناته من حادث المروحة إلى الغزو الفرنسي للجزائر في العام 1830، ودخول المستعمرين واستيلائهم على أراضي الفلاحين الجزائريين بالقوَّة، وما تبع ذلك من جوع وقهر وحرمان عاناه أبناء الشعب الجزائري، وكيف قاوم الاحتلال في ثوراته الشعبية المختلفة، على الرغم من عدم تكافؤ القوتين. ثمَّ ما تلا ذلك من ممارسات قمعية، إلى قيام ثورة التحرير في الأول من تشرين الثاني 1954. مسرحية «132 سنة» ملحمة شعبية جزائرية، صوَّرت معاناة الشعب الجزائري طيلة قرن وربع قرن من الاحتلال الفرنسي حتى الاستقلال. أعتقد أنَّ هذا بعض الأسباب التي دفعت غيفارا إلى وصف المسرح الجزائري بالمسرح الثوري.
[
أخيراً، ماذا تقول في رجل برأيي يصنع للمسرح الجزائري عقله: ماذا تقول في محمد بن قطاف؟
ـ محمد بن قطاف أكثر من فنان مسرحي. إنسان غيور على المسرح الجزائري. همُّه الوحيد الارتقاء بهذا المسرح، والبحث عن مكامن الضعف والقوَّة فيه، وإعادة الاعتبار له ولفنانيه. عرفته كاتباً مسرحياً محنَّكاً في «جحا والناس» و»قف» و»يا ستار ارفع الستار» و»حسنا وحسان» و»الجيلالي زين الهدات» و»فاطمة». كما في اقتباسه «إبليس الأعور» لناظم حكمت، و»باب الفتوح» لمحمود دياب و»العفاريت الزرق» و»الشهداء يعودون هذا الأسبوع» للطاهر وطار و»جحا باع حماره» لنبيل بدران. أيضاً في التمثيل، أدّى أدواره بجدية واحترافية، حتى أضحى رمزاً من رموز التمثيل في الجزائر، ومخرجاً رائداً لا يبخل بنصائحه للشباب المبتدئين مشوارهم المسرحي. عندما سنحت له الظروف بتولّي إدارة «المسرح الوطني»، ولو أنَّها متأخِّرة، قدَّم ولا يزال يُقدّم خلاصة تجربته كمفكِّرٍ مسرحي عقلاني للمسرح الجزائري. ثمَّ إنَّه ساهم في تأسيس العديد من المهرجانات المسرحية، وجمع الممارسين المسرحيين، هواة ومحترفين وأكاديميين في بيت واحد هو «المسرح الوطني محي الدين بشطارزي». في سبعة أعوام، قدَّم وأنتج وحده في «المسرح الوطني» في العاصمة أكثر من أربعين مسرحية لكتَّاب جزائريين وعرب

وأوروبيين، وفتح الباب أمام مخرجين شباب عديدين في اعتلاء خشبة «المسرح الوطني» وإنتاج أعمالهم المسرحية. مهما قلنا عن رجل المسرح محمد بن قطاف، لا أظن أننا نفيه حقَّه. أقل ما يمكن أن يقال عنه إنَّه وسام شرف على صدر المسرح الوطني الجزائري.
(
الجزائر)

 

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية