دراسات أدبية

الأديب القاص نزار نجار .. دراسة في رواية جورة حوا للروائية منهل السراج

الأديب القاص نزار نجار .. دراسة في رواية جورة حوا للروائية منهل السراج

2612 مشاهدة

 

 

●رواية جورة حوا●

 

نزار نجار

 

 

      * الكاتبة: "منهل السراج" تخرجت من كلية الهندسة بدمشق عام 1988، نشرت مجموعة قصصية بعنوان "تخطي الجسر 1997" ورواية بعنوان "كما ينبغي لنهر" ورواية بعنوان "على صدري". فازت بعض قصصها بجوائز متعددة..

 

      *الرواية: "جورة حوا" في سبعة وثلاثين فصلاً، وفي مائتي وخمس وتسعين صفحة من القطع المتوسط، من منشورات دار المدى عام 2005.

 

      * زمن الرواية: سورية في التسعينات من القرن الماضي.

 

      * شخوص الرواية:

       ثلاث نساء: مي وكوثر وريمة (وقد جمعهن مقعد الدراسة في عهد التلمذة)

 

      الشخصية الأولى: مي وهي رسامة موهوبة تعيش في حماة بين أبوين عجوزين، تحدث نفسها:

- ألم يحن الوقت لرؤية اللوحات المعروضة في المتاحف العالمية المترفة، أتخيل هذه اللوحات تشدني على بعد مئات الأمتار..

ومي لا تحب الاستقرار، لا تقر على حال، تقول لها صديقتها ريمة:

- المرأة خلقت كي تقر وتستقر، ابحثي عن عريس مغترب في فرنسا أو في أمريكة!!

 

     ومي نفسها لا تفهم نفسها، عالمها بيت الفنانين، كلماتها فيها سخرية مريرة، بل سخرية مبطنة بالثورة.. (السلام عليكم، عليكم هذه توحي بالرائحة.. رائحة غنم.. بينما صباح الخير فيها رائحة الماء، رائحة الفضاء بلا ألوان، رائحة الله..) ورأي كوثر في مي: (أظن أن مي لا تتورع عن شيء ولا تخشى شيئاً، غرائزها هي التي تقودها).

 

    تقول مي: (سأبقى أجرب، أن أعيش وأجرب، وأن أرسم وأجرب، أن أفرح وأجرب، أن أتألم..) و(تهاجمني الألوان، في الشارع، وتستلبني في البيت، تصفعني.. متى أتحرر من استعمارها لي)!!

 

     تبقى مي (غير شكل) بين أهلها وأخواتها اللاتي تزوجن، تبقى تحب الألوان، وتتساءل:

- لم لا أنجح في العيش مثل أخواتي ومثل ريمة، ما معنى أن يسيطر اللون على زماني وعلى مكاني؟ لم كان العقل إن لم ننجح مثل ما تقول ريمة، ولم لا أستطيع أن أمسك الحياة من قرنيها!..

 

      ومي بحاجة دائماً إلى أن تستمع إلى الموسيقى.. (موسيقى ياني) وترى أن الناس بعيدون عن الفنّ، عن قلب الحياة، ولذلك فهم معقدون.. (هكذا) ولا وقت لديها، فالألوان تناديها، وبياض اللوحة يجذبها كي تمرغه بحواسها!!

 

      تجيء حادثة الكسوف، ولكن مي تتحدى الكسوف، وتخرج لترسم في هذا اليوم بالذات، تذهب إلى بيت الفنانين، على الرغم من أن الناس قد لاذوا في بيوتهم، والشوارع أقفرت من أي عابر..

 

     في بيت الفنانين، تتعرى مي، بل ترقص، وسط الباحة، ويصيح بها واحد من جيران البيت:

- ماذا تفعلين يا قليلة التربية، ترقصين بالشلحة، وتنامين وسط الباحة، ألست مسلمة!..

 

تفكر مي: حساب الله أصعب أم حساب أهل المدينة!

      لقد انتشر خبرها، وبدأت شتائم نساء المدينة وكذلك الرجال على مي الفلتانة (ص 155).

 

   تأخذ مي قرارها.. عليها أن تنصاع وتسافر.. عليها أن تهرب من وجوههم، (ما الضير في ذلك، أنا من أحبت التجريب فلأجرب!)

 

 

 

 

     وهكذا تسافر إلى السعودية، وتتزوج من عبد الرزاق (وهو يعمل عند أخيها وفي مؤسسته) وفي السعودية تفشل في الوصول إلى شيء.. تحطم ثلاث لوحات، ثم تعلن أنها ستكف عن الرسم.

 

      في الحرم، أيام العمرة، تلتقي مي برجل يشدها إليه، بقوته وشخصيته وجمال قدميه ووقفته، تلتقيه في العجمي، ثم تتلقى قبلته فوق العباءة، وتتطور العلاقة إلى لقاءات سرية خاطفة، تقارن بينه وبين زوجها عبد الرزاق، تحس بقرف خفي من الزوج المغفل، صار لـ(ربيع) حضور باهر في حياتها، فانشغلت به عن بيتها وزوجها، (حضور الحب، شيء سماوي، رملي، متمهل، حلمي، زاهد، أبيض، صاف، شفاف، وعميق، ملون بألوان خاصة بي وحدي.. كألوان قطعة حلوى.. لقد نسيت الرسم!) وتتبادل مي الحب مع ربيع، (سنلون السقف، والجدران، تنبت الأشجار، تنطلق العصافير، تنبعث الينابيع، هذا هو الحب) ومي (سوف تستدعي لمسات ربيع، تستدعي قبلاته، وستبادله الحب باستمرار..)

 

      أما عبد الرزاق (الزوج المخدوع)، فسيكتشف الخيانة، على بتلات الورد، وسيظهر أخوها، ليضربها، ثم ليسلمها إلى أول بولمان متجه إلى حماة، مع حقائبها، وهي.. طالق!!

 

      تعود مي إلى البيت من دون استقبال، وقد عزمت أيضاً أن تعود إلى الرسم، إنها تلملم جراحاتها، وتبحث عن عمل، ربما يليق بها أن تصبح مندوبة توزع الأدوية الطبية، وحين ترجع إلى البيت تبدأ برسم لوحة ترضى عنها، بعد رضاها عن لوحة الكسوف، تداعيات كثيرة وقد بدأت من جديد.. بدأت تؤدي دعاء الفن، (أعبدك أيها الجمال، علي أن أتلو دعاء الولادة.. لست أماً.. أنا ألد في كل لوحة.. بل في كل لون وخط، سوف أجعل الأحمر للحلم، والأصفر للحسم والاختيار، والأخضر للراحة..)..

 

     الشخصية الثانية: كوثر، شخصية مناقضة لمي، وكانت آمنة أمها تظن أن تديّن كوثر الزائد سوف يسمح لها بإيجاد عشرات العرسان، لكن ما حدث هو أن أحداً لم يقتنع بها، وكان خالد (من بيت الفنانين) يقول لآمنة:

- علميها كيف تضحك مثلك وستجد المئات!!

 

     وكوثر لها معلمة (على الرغم من أنها ترسم في بيت الفنانين) ومعلمتها هي التي ترشد وتوجه وتطلب الالتزام بالحجاب والتقى، لكن كوثر تعاني من لطخة سوداء في جبينها، هي مبعث قلقها وتهويماتها المدهشة.. كوثر تعاني من مرأى القط الذي يسرح في الدار، ومن الإثارة الجنسية، تعاني من تداعياتها مع رجل الباص الذي التصق بها، ثم مع العصفور في قفصه:

- يا رب لم اعد أحتمل الحرمان أكثر، منذ ثلاثين عاماً، وأنا أعارك جسدي!

 

      لذا تتردد كوثر على بيت المعلمة، وتأمل بعريس جيد، لكن عقدتها (الغائبة الحاضرة) في تلك اللطخة السوداء التي تتخيلها تفضي بها إلى الكبت والحجاب بل لا تعرف أحياناً ماذا تريد؟.. هل تريد الآخرة؟!..

 

      حياتها اليومية وخروجها من دارها الصغيرة في جورة حوا ومشوارها إلى بيت الفنانين ومرض أمه (آمنة) بالربو، وقسوة حياتها والحلم بعودة الأخوة الذين ذهبوا، وفقرها، ومشكلة خطبتها الفاشلة، على الرغم من دعاء المعلمة لها بالزوج الذي يناسب، وانشغالها برسم لوحة مميزة، ذلك كله جعلها معزولة ووحيدة، تنام قسرياً، وتلجأ إلى سقيفة الدار، تجترّ أحزانها ومتاعبها مع اللطخة وألم أسفل البطن، غير أن خالد يقطع على نفسه عهداً بأن لا يتخلى عنها، إكراماً لذكرى آمنة (التي ماتت) وكان قدوم بناته الصبايا إلى دار كوثر يحول البيت أكثر إشراقاً، ويعيد إلى كوثر توازنها النفسي، وتتحسن حالتها، وتعود إلى القراءة والتفاعل مع ما تقرأ، لقد عرفت دينها عن طريق الكتب التي قرأت لا عن طريق المعلمة.

 

      الشخصية الثالثة: ريمة، مهندسة، لكنها لا تشتغل، وكان شرط حيان (زوجها) قبل الزواج أن لا تداوم في المكتب، فهو يريدها أن تتفرغ لتربية الأطفال، وريمة ماذا تريد أكثر من بيت فخم وزوج ثري وطفلة جميلة و.. سيارة!..

 

      كانت ريمة مجدة، لا تقبل إلا بالدرجة الأولى، في دراستها، لكنها اليوم لا ترى إلا في الجمعيات الخيرية النسائية أو المشاوير، تفكر ريمة:

- مي تريد الحياة، أما أنا فأريد الدنيا، وكوثر تريد الآخرة!

 

      والزوج تاجر غائب، وهي الزوجة الجميلة التي تبذر أمواله على لباسها ومظهر بيتها وسيارتها، تقول ريمة:

- مي لا تقارنيني بك، أنا امرأة واقعية، أريد أن أعيش حياتي دون متاعب، إذا كان هناك من يتعب عنك فلم تتعبين!

 

       وريمة تعيش حياتها كسولة، تغرق مع زوجها بالفعل في البذخ والهدايا والتظاهر بالثروة والألبسة بل إنها تتجاوب مع دروس الدين للدعاية و الشهرة في الوقت الذي تسهر في أفخر أماكن المدينة ومطاعمها.. حتى تجيء السكرتيرة بسمة فتقلب حياة زوجها، وتغير حياتها، لتصير مطلقة، مع طفلتها لولو!!

 

        لقد منيت ريمة بالخيبة، وحصدت الريح، وحيان زوجها تزوج من السكرتيرة، فماذا ينتظرها غير أن تعيش حياتها الجديدة وتستعد للعمل في الهندسة، وتلتفت إلى تربية ابنتها، وتخطط للأيام المقبلة!..

 

 

● شخصيات مساندة:

 

      خالد، وهو فنان، يرسم في بيت الفنانين، ويعشق آمنة أم كوثر، يراها في أحلامه ويرسمها في لوحاته، وآمنة عنه لاهية بمتاعبها وقسوة حياتها وبحثها عن لقمة العيش.

 

      والزوج عبد الرزاق، زوج مي، الذي فتن بها، وانصرف يلبي رغباتها ويتحمل نزواتها، ثم اكتشافه أخيراً خيانتها، وهو رجل لا يعرف غير بيته وعمله، وحبه لزوجته..

    

      وآمنة أم كوثر، التي تعيش على ذكرى أولادها الذين غابوا في الحوادث، تعيش على أمل أن يرجعوا، ولكن.. هيهات.. هيهات.. لقد قضت في دارها وختمت حياتها ختاماً محزناً.. تاركة كوثر لقدرها، وخالد لأحزانه وأحلامه الضائعة!.

 

       وبعد: إن المتأمل في رواية "جورة حوا" يمكن أن يكتشف موازاة هذه الرواية بالروايات الحديثة التي امتلكت حساسيتها الجديدة وخصوصيتها الحاضرة..

 

      وعلى الرغم من وجود فراغات احترازية، على الرغم من أن الكاتبة تعمي فيها المكان، وتعمي الزمان لحساسية ذلك، بل تعوم بعض الوقائع وتهمل الوقوف على التفاصيل، لكنها تقف وقفات شفافة وتدخل في تفاصيل الحياة الداخلية لشخوصها، فمي هي المسيطرة على الرواية، ورسم الكاتبة المتقن لها، وهي تتحرك أمامنا بتوقها ورحابتها وانفتاحها، يجعلنا نحبها ونحترمها، بل نتابع بشغف أحلامها وتطورها، وهي امرأة رسامة، محبة، عاشقة للألوان، وهناك صوفية ما مع الرسم والألوان، وقد سقطت في الحب ومنيت بالخذلان، لأن الحب كان من طرف واحد، وربما تعاطفنا مع كوثر التي تعاني تشتتاً وانهياراً في حياتها وتعاستها، تعاني من تهويمات ولطخة سوداء ومع خالد الذي يحاول أن يحررها من أوهامها ومن ضغوط المدينة، وخوفها، لقد اشتغلت الكاتبة على شخصية مي وكوثر بدقة، اشتغلت على لوحات كل منهما وألوانها، وبدت الشخصيات بعامة مأزومة مع ذاتها، مع مجتمعها، مع الآخرين، كل شخصية تتحصن بثقافتها وخصوصيتها، وقد نجحت الرواية في إبراز الإحباطات لكل شخصية، التي أدت إلى الإحساس بالخيبة وسط واقع مهين و.. مهان!..

 

     أبرزت الكاتبة جورة حوا (أحد أحياء حماة) وأبرزت معه حارة الطوافرة وسوق الدباغة ومعالم ثانوية غيرها يمكن أن تكشف حالة من المحاكاة للواقع، وقد بدت قدرتها على التعبير عن اللحظات الحميمية في حياة الشخصيات وسط هذه الأماكن فكان هناك سرد وهناك حوار وهناك مونولوج، وهناك معاناة وشخصيات ممزقة بين الحب والغربة والفقر والكبت، ومي بطلة الرواية هي التي تتحرر من شرنقة المجتمع المغلق، على الرغم من أنها تعيش حالة من الانعدام، انعدام الحرية، حالة من الخوف، حالة من الازدواجية والهزيمة النفسية، وقد تمرأى لدى الشخصيات الأخرى نفاق تجاه الذات، وضياع للهوية ومما يسجل للكاتبة منهل السراج نجاحها في إبراز التقابل الخفي بين المكتوم والظاهر.. على الرغم من تحدي شخصياتها المأزومة لكل التصورات المسبقة.. وقد بدا أن فن الرسم (صنع اللوحة) هو طقس صوفي مجاهد يحاول بعزم شديد أن يحتفظ بصفاء الروح في مواجهة ضجيج مذهل يفسد الانسجام، أو كأنه صلوات مؤمن يستعين به على شرور الحياة، ويستنفر بوساطته مكامن القوة والهدوء، في أغوار النفس ليستطيع مواصلة الرحلة.. ويبقى الفن بعامة هو أداة التعبير عن الذات الإنسانية، وعن توقها وأحلامها دائماً..

 

---------------------------------------------

المؤلفة: منهل السراج

الرواية: جورة حوا

الناشر: دار المدى للثقافة والنشر

الطبعة الأولى- 2005م.

 

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية