دراسات أدبية

البعد الذاتي في البناء الروائي عند الكاتب الياباني ناتسومي سوسيكي

البعد الذاتي في البناء الروائي عند الكاتب الياباني ناتسومي سوسيكي

2627 مشاهدة
البعد الذاتي في البناء الروائي عند الكاتب الياباني "ناتسومي سوسيكي "
 
بقلم الناقد: علي الصيرفي
 
على الرغم من أننا سنقيد أنفسنا بحدود الأدب ، وبالأدب العالمي فإنه لن يكون باستطاعتنا المضي إلى أكثر من القول بأن وجود بعض القيود أثناء عملية دراستنا لما يقدمه الكاتب ناتسومي هو افتراض لما يتم البت به ،وإلا فما هو مبرر وجوب أن ندرس بإصرار والتزام ما يقلقنا من انحراف وأن كنا متأكدين بأن العلاقات الإنسانية هي سلوكيات لأدوار الجنس البشري من جيل إلى جيل فالموضوعات السائدة عند جميع الكتاب هي إمكانات مثل الحرية ، واتخاذ القرار والواقعية ، وهي تشكل جوهر البنيان الشخصي لأن ما يميز الإنسان عن جميع الكائنات ممارسته للحرية ، ولقد أكد ذلك الأديب الياباني ناتسومي سو سيكي ، لقد أوضح ذلك بعمق في تلك الحركات النفسية الانفعالية التي هي استجابات أولية تثيرها التغيرات المفاجئة والمباشرة،وتظهر الاستجابات النفسية والفيزيولوجية بعصبية وتوترات حركية ترتسم على توترات نفسيات أبطاله . ربما خلص ناتسومي إلى أن اتخاذ القرار هو حق تقرير المصير لدى الفرد حيث خبأ حكايته في عمق الرمل البحري ،ورسم طقوس حياته في سلسلة أعراس فطرية تتطاير في عالم الشرق المليء بالأسرار . إنه يقف وسط الطبيعة التي جعلها الليل عدوة ، تقف وجهاً لوجه أمام نفسه حيث يشعر بالخوف إنه يتمنى أن تشرق الشمس لتبدد رعب الليل الواقعي ، وبالتدريج ينتقل نا تسومي إلى فكرة الصعود حيث تثير لديه شعوراً بالغبطة والفرح . لقد عبر الأديب بإيحاءات ذاتية شأنه شأن الإيحاء الذي يأتي من الغير فهو يجدها وسيلة لتربية الإرادة والسلوك فالإيحاء يخزن في اللاشعور طاقات جديدة وهي وسيلة لنمو الشخصية وتعزيزها ، حيث يصحح القصور الوجداني فالإيحاء عنده هو صورة من صور التأمل ، لا صورة من صور التركيز ،حيث آلاف الناس في عالمنا المتعب ينهضون من فراشهم ليلاً وقد انتابهم شعوراً من الخوف والشك من كل شيء حولهم ،فإذا كنا نجهل عمق الرؤية الأدبية فقد يكون من الصعوبة أن يسبب لك هذا الكتاب الصدمة ،ومع ذلك فأنا على ثقة بأن الإعياء أمام هذا العدد الكبير من صور الشقاء سيحل محل عاطفة الحب من جهة ومن جهة أخرى سيكون لمواجهتنا تلك المفردات الشديدة الوضوح مدلولات معينة ، فأفكار الأديب ناتسومي هي مصطلحات للحرية تتطلب أن تبعث لعلاج واحد هو تحرير الفرد من المخاوف اللاشعورية التي تدفعه أن يمارس سياسة النعامة ، فالموروث السيئ انطلاقاً من تربية شائنة تعطي على الدوام استجابة واحدة هي استجابة شريرة ، فكل ما يتعلق بالخطيئة عند الكاتب هو ضرب من الشعور بالإثم الذي ينخر حياته برمتها ويكاد أن يفسدها ولكن المقصود هو الخطيئة المتحكمة بالموضوعات ، وهذا ما يريد أن يصل إليه الكاتب حيث يريد أن ينقل الإثم من ميدان الخطأ إلى الميدان الصحيح ليخلص البشرية من وطأته ( وبقدر ما كانت تلك المأساة مؤلمة بالنسبة للمعلم فإن زوجته لم تكن قد عرفت أي شيء عنها ،ولا بد أن المعلم سوف يموت وهو يحتفظ بسره وبدلاً من أن يدمر سعادة زوجته كان يفضل تدمير حياته الخاصة )ص54 إذن سواً كنا نفكر في البشرية ككل أو إفرادي فإن الممكنات البشرية توجد دائماً في إطار واقعي ويمكن لهذه الأطر أن تختلف على نحو ملحوظ فهي في بعض الأحيان التزام يراهن فيه الفرد على مستقبله ، فهو يعد وعوداً ويدعم سياسات معينة ويتزوج ويكون أصدقاء وما إلى ذلك لكن ما ينتقيه المرء عل المدى الطويل هو ذاته ، فالذات تندفع من هذه القرارات التي يتخذها ، وهي ليست محصلات جاهزة منذ البداية ففي مقابل سلسلة الأفعال غير المترابطة لا يمكن أن تصدر منها الذات الموحدة التي تحتفظ بتعهداتها وخططها . ( حقاً عندما بكن الإنسان في قلبه حباً سعيداً ،فالواقع أنه يصبح لصوته نبرة أكثر حرارة ! ولكن أصغ إلي جيداً إن الحب جريمة ،فهل كنت تعرف ذلك . وقفت مذهولاً ، لا أجد ما أجيب به على هذا السؤال )ص55 إن زمان التوقيت يرمز عند ناتسومي إلى صلة الأنسان بالخلود إن الميلاد والموت يحددان البداية والنهاية لكل موجود بشري والبشرية نفسها تمتد في الزمان بين هذه الحدود ، وفضلاً عن هذا فإن لظاهرة الهم أساساً زمانياً ،هو الإمكان والواقع والسقوط وأية لقطة من هذه اللقطات ترمز إلى الزمان فالتمكن يشير إلى المستقبل – والواقعية ترتبط بما حصل فعلاً في حين أن السقوط ، يرمز إلى الاستغراق في الحاضر . ( ذلك هو العبء الذي أخمل وطأته منذ طفولتي ، وما الذي سأحمل دون شك ثقله ووطأته حتى موتي ،لأني طالما أنا على قيد الحياة فإنني لن أنسى ذلك أبداً ومع ذلك فلم أفعل شيئاً حتى الآن كي أنتقم و أثأر لنفسي لقد امتنعت عن ذلك ، وبدلاً منه فإني أفعل الآن ما هو أفضل بكثير من الانتقام الشخصي ،نعم إني أقوم بما هو أفضل من كراهيتهم واحداً واحداً ، فقد تعلمت كراهية الكون بكامله الذي يمثله بنو البشر وكانتقام ، فإن هذا يكفيني على ما أعتقد )ص120 إن الإنسان يرى الظروف عبر حالته في ذلك شأن محطة استقبال لا تلتقط سوى الموجات التي وجهت إليها ، ليس من الممتع أن يشكو الإنسان من الحياة بل من الممتع أن يستخدمها استخداماً أفضل فليس للحياة عينان لتنظر ، وأذن لتسمع إن قوام الإيحاء هو إبداع فكرة في ذهننا ،ودفع هذه الفكرة في اللا شعور عند المتلقي وبصورة آلية ، إن التربية عند" ناتسومي " تسقط أفكاراً فتصبح هذه الأفكار غيبية في الغالب تجبره على التصرف من خلالها إنها أفكار تتصف أكثر فأكثر بالصفة الشخصية والشعورية . ( إذا كان بعض التشويش الذهني هو السبب في عدم تمكنك من إفهامي معنى بواطن الأمور فإني ألومك على ذلك ولكن إذا كنت أنت نفسك لديك مفهوم واضح لكل شيء ومع ذلك تتعمد بألا تتكلم بوضوح فإن ذلك بالحقيقة يزعجني ويسبب لي صدمة قوية )ص122 إن هذه الملاحظات عن التفكير كما فهمها ناتسومي تثير فيه قضية المنطق وهي تبرز بصورة جديدة مشكلة اللاعقلانية في الحياة حيث أن المنطق قبل كل شيء يزودنا بقواعد التفكير والحياة حيث لا ترعى عنده تلك القواعد ومثلما هناك أنماط متعددة للتفكير فإن هناك ضروب كثيرة للمنطق ،وإن التفكير عند ناتسومي يتسم بالدقة والوضوح ،وإن تفكير نا تسومي يحيط به خطر دائم لذا فرض عليه أن يتحول فكره إلى فكر غير منظم يحل فيه الانفعال والإقناع الشخصي محل البرهان ،فيرى الغموض على أنه عمق للذات . (الحقيقة أني لم أفكر بعد بمستقبلي ، بل ليس لديه أية خطة تتعلق بمهنة المستقبل ، بل ليس لدي أية خطة تتعلق بمهنة المستقبل ولا حتى الرغبة بوضع مثل هذه الخطة ،وقبل كل شيء أية مهنة بين كل المهن المختلفة هي أفضلها ، وأيتها أسوؤها ،إن الحكم في ذلك أمر صعب للغاية .بالنسبة لمن ليس لديه تجربة شخصية في مثل هذه الأمور ،ولذلك فإن مجرد التفكير بأن علي أن أختار مهنة يسبب لي كثير من الحرج والارتباك ) ص130 إنه من الصعب بمكان أن تبرهن عن تسامحك حيث تفقد ذلك في اللحظة التي تقول فيها أنك متسامح فالمتسامح مخلص ،مقنع ،غير أن حب الذات عند نا تسومي هو شعور بجدارته الشخصية وسواء وضع حب الذات في موضع حقيقي أم لا فهو يشعر بالدونية والضعف ويحس في كثير من الأحيان بأنه مهدد . ( عندما أموت ، عندما أموت ) هلا انتهيت أخيراً من ترديد هذه الحماقة ،أرجوك كف نهائياً عن ترديد هذه العبارة عندما أموت في تجلب الشؤم ،وعندما تموت إيه فإنني سوف أنفذ رغباتك كلها ، وألتزم بها في كل المجالات إني أعدك بذلك وها أنت راض الآن على ما أظن ) ص139 إن بذال الجهد الإرادي عند "ناتسومي " يدل عل ضعف في الإرادة حيث أن الإرادة تتطلب أن يسعى الإنسان بقوته نحو هدفه بإحساسه السوي وعقله وذكائه ،فإذا كانت ميوله متناقضة فإنه لن يمضي نحو هدفه إلا بجز بسيط من ذاته ، لأن الرغبات المتناقضة تجزئ وحدة شخصية ناتسومي فهي تجزئ إرادته ملونة إياها بتشنجات متعارضة متجهة نحو درئيات لا تظهر إلا بجزئياتها ، إنه مصمم على النجاح ويستخدم كل الوسائل المتاحة ،لكن خلطاً بين التشبث الذي يوازن بين عناده وعجزه يطفو فوق السطح وإن روح التصميم لا تحتاج إلى مغالاة في التردد ولا إلى اجترار عقلي . (وكما يبدو لي أن والدي َّ حتى بعد موتهما كانا يحمياني ، كما لو أنهما ما زالا على قيد الحياة ،أهو اعتقاد خرافي ،أود أن يكون الأمر كذلك خاص ة وأن الآراء والأحكام لم تكن تنقضي في تلك الفترة ،ولكن ما العمل إذا كان أجدادي هم الذين أورثوني هذه المعتقدات الخرافية وأن قوتها التي لاتقهر تسري في دمي ولا شك أنها مازالت كامنة فيه ) (ص238-239) إن العودة إلى المنابع البدائية عند نا تسومي ليست انحطاطاً وإنما هي امتداد رائع يبدو لديه كل شيء واضحاً في هذه الحالة وهو يترك نفسه لعفويتها ليرى أجداده لا زالوا خلف نافذة عقليته جاهزة للدخول إلى مخه دون استئذان ،إنه يحتمي من كل تشوه سيكيولوجي ومن كل لوم مختبئاً وهارباً إنه لا يدخل معركة من أجل أن يتجنبه الناس بل يتحاشى أي عمل يتطلب منه رجولة خوفاً من أن يتعرض للامتحان إنه مدحور منذ البداية . (كانت حماقتي تتجلى في ذلك التناقض بين محبتي للفتاة وشكوكي وسوء ظني بنفس الوقت بأمها ولكن لو لم يكن هنالك سوى ذلك لكنت قبلت أن أكون ذلك المغفل دون أن أخزن لهذا كثيراً ،أما ما كان يسبب لي قلقاً حقيقياً فهو ذلك الشك وخشيتي من أن الفتاة هي أيضاً مثلها في ذلك مثلها مثل أمها ،ليست سوى متأثرة وحائكة للدسائس والمؤامرات ) ( ص 264) إن المشاعر عند نا تسومي كانت دائماً موضوع تفكير ،بوصفها عملاً عقلياً على وجه الدقة فهو يخفف عن نفسه الانفعال ويسعى إلى الفهم الهادئ للأشياء ،رغم أنه سمح لوجود الانفعالات في معظم قصه الروائي ( ومنذ اللحظة التي جلست فيها إلى المائدة قرأت على وجه الأم أن كل شيء سار سيراً حسناً ولكن ماذا لو أنها أخذت تخبر(ك) بهدوء وبحضوري بكل شيء وهي المرأة التي يمكن أن تفعل ذلك ،وأنا كيف سيكون موقفي ؟ لقد كنت أرتجف خوفاً ،ولكن (ك) لحسن الحظ كف عن أسئلته كما أن الأم من جهتها توقفت عند هذا الحد ) (ص 370 ) من هنا نرى أن الحرية البشرية لدى نا تسومي ليست حرية مطلقة بل هي مسورة بسياج من المفاهيم ومحددة بخرائط لا حصر لها ، لقد عرفت المأساة طريقها إلى نفسه بأشكال مختلفة تراها صداماً بين تطلعاته وحريته ملتصقة بإبداعه الروائي وبين تصوره للنظام الكوني الذي هو أكثر جبروتاً وإحباطاً للإنسان . (فقد شعرت في قرارة نفسي إلى أي درجة تستحق البشرية الاحتقار ولكني وأنا في الوقت الذي كنت فيه أظن الشر ببقية بني البشر وأحذرهم كنت ما أزال أحتفظ في قرارة نفسي بيقين وحقيقة مؤكدة : مهما كان الآخرون سيئين فإني أنا ،كنت أقدر نفسي وكان لي ثقة بنفسي ولكن هذا الإيمان الوحيد الذي بقي لي قوضه سلوكي وتصرفي الخاص حيال (ك) ودكه بل ومسحه تماماً )( ص390 ) إن حالة الواقع عند نا تسومي هي حالة شيء معطى وهي صفة وجوده من حيث هو معطاء ،لقد كون نا تسومي معتقدات حول أصله ومصيره ولقد ذهب إلى أنه تلقى ضروباً من الإلهام وقد تكون إبداعاته معتقدات صحيحة توحي له بحقيقة وجوده وقوة إبداعه في خلق جو روائي عالمي .

علي الصيرفي/ سوريا .حمص
البريد الإلكتروني :
aliserafi@maktoob.com

 

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية