دراسات أدبية

البنية المكانية في بناء النص الروائي  عند الكاتب حسين عبدالكريم  بقلم الناقد : علي الصيرفي

البنية المكانية في بناء النص الروائي عند الكاتب حسين عبدالكريم بقلم الناقد : علي الصيرفي

3005 مشاهدة

البنية المكانية في بناء النص الروائي

                   عند الكاتب حسين عبدالكريم

بقلم الناقد : علي الصيرفي

 

      تقوم الرغبة في الكتابة التي تعبر بالحب عن نفسها على أساس من طبيعة الكتابة ذاتها والحقيقة أن الكتابة لاتلتصق بالعالم المحسوس وحسب بل إنها تتعلق بالعالم المعقول , لأن الكتابة مستمرة وتسعى إلى البقاء من أجل تحقيق وجودها .

      ويرى الأديب حسين عبد الكريم أن الكتابة تبرهن أن المعرفة لايمكن تفسيرها إلاّ إذا كانت النفس قد تأملت الحياة بكل معطياتها , فإدراك الأشياء المحسوسة يدفع النفس إلى التعرف على كل الأدوات الموجودة والمعقولة في الماضي والحاضر والقفز إلى المستقبل , ورواية شجرة التوت للكاتب المبدع حسين عبد الكريم لم تكتبْ إلاّ لتزخر بموضوعات حدثيّة تكون الطبيعة بها مبدأ شبيهاً بالعقل , والحقيقة أن العقل يتميز بالعمل الدائم من أجل غاية ما , والطبيعة تعمل هي من أجل غاية ما ، لذلك نجد الكاتب قد اندفع معلناً أن العقل هو المبدأ الكلي للنظام القائم في الأشياء , ويربط الفعل الروائي بهذه الأشياء , لذلك كان العقل عنده موجوداً في العالم على صورة الطبيعة التي هي حاضرة في كل مكان وفاعلة في أغلب الأحيان إن الكتابة التي تتجسد في تلك الأفعال الروائية التي استخدمها الكاتب نقلت ذلك النظام الرائع الذي يظهر في أجزاء عالم الأديب , فكل شيء متعلق بالفعل الروائي المنظم , فالرواية ليست مركباً من قطع ونتف على نحو ما لكن الحدث يختلف ويتلون ويتصاعد مرتبطاً ببعضه ارتباطاً متسقاًَ وينوع ذاته ويسهم في جمال الرواية , ولاشك أن الأديب حسين عبد الكريم عرف أن غائية الطبيعة متعلقة بمثال أعلى مفارق, ويعرف كيف تميز الطبيعة ذاتها , ويمدها بنوع من الفعالية الخلاقة التي تسعى إلى التطور والارتقاء , وهذا السعي هو جوهر الفعل الروائي عنده , أنه ينفذ داخل الحدث ويخلع عليه الصورة والحركة في وقت واحد..

       فاستمرار الحركة المنبعثة من شجرة التوت, وذلك التنوير الذي يخلق من الفعل ضوءاً يسقط في ظلمات الحياة التي يتنقل من خلالها شخوص الراوي وتعمل في زخ قوي تتجمع خلفه رؤية دقيقة التطلع ترسم صورة المجتمع البسيط البعيد عن قسوة المدينة ومتطلباتها , إنها الحياة المتعلقة بالطبيعة بالإصغاء إلى صوت ما تحمله الرياح وتنقله العصافير ، والوجوه الصلبة التي قرحتها الحياة بالكثير من البثور والمحبطات ، فالكاتب يحاول تفسير تدفق الأفعال بالاتفاق مع ثوابت البيئة التي يعيشها، لذلك نجده متفقاً مع المكان ، إذ أن لكل شيء علة وتلك البيئة هي خالقة الأفعال ، ومع ذلك فهذه الأفعال ترتبط بالنفس والبدن في وقت واحد وهي علاقات النفس مع الغير وتلك الحالات المتحققة بالأفعال هي حركات على نحو من الجرأة دون أن تكون هناك أية حادثة تثير التراجع أو التردد ، فالحركة تحدث في المكان ، والمكان عند الكاتب مرتبط بالنفس الإنسانية ولكي يؤكد أن النفس في حركة يبين لنا حالات النفس من حزن وتأمل وغضب وخوف وكلها تظهر عنده من خلال تحرك الفعل الروائي.

" قالت سمر في سرها : شجرة التوت تتصدر أفق القرية بأغصانها وعصافيرها وزهوها وفتنة الجلسة إلى جوارها وأبو يوسف قامة تزرع الدروب بهجة ومعاشريه شعوراً بالارتياح قرب شجرة التوت يلتقي الجيران ومن أمامها تمر الدروب وأكثر من هذا هي ذاكرة لا تنسى شيئاً وعلامة فارقة في تاريخ القرية وأحداثها وتغيراتها"ص 16 الرواية شجرة التوت .

      فالأهمية بمكان أن نميز الفعل الروائي والعقل الجمعي الذي هو الأنا الأعلى في ذلك المكان الذي اختاره الكاتب ، فالانفعالات والإحساس والذاكرة ،بل حتى الفكر الاستدلالي تصب كلها في تلك العملاقة التي حفظت ذكريات الأجيال التي مرت تحت ظلالها وهمست في حنايا جذوعها وعرفت أسرار الصغار والكبار ،  حتى الحيوانات نامت وهي تحتمي بقوتها ومكانتها " شجرة التوت " إنها النفس في ذاتها وهي غير متحركة لأنها تمثل العقل غير المنفعل الذي لاتتناوله الحركة وهي ليست عرضة للدمار والفناء فقد عايشت الأجيال مفتخرة بصمودها وحبهم لها ، إن الشجرة شاخت غير أنها جعلت الأنفس تتعلق بها فلابد للشباب من مناجاتها ولا تحلو الجلسات إلاّ بمصاحبتها فهي في حالة مشتركة بين المكان والأشخاص ، لقد عمل الكاتب على تحريك العالم المحيط به ليبث الحياة في تلك الكائنات المتعبة ويعمل على تبسيط أمورها لأنها تنشد السعادة ، فهو يدرك أن كل سعي إنساني ، وكل عمل يهدفان إلى خير ما، فكلما تنوعت الأعمال والأفعال تنوعت الخيرات كما ترتبط مشكلة التناغم بين الشخوص برباط المعرفة وفهم إسقاط الأفعال والتأثر بالجمال المتوفر في بيئة الأديب , وهذا لايمكن أن يصدر إلا عن تنوع كبير من الأشكال البسيطة , وفضلاً عن ذلك فإن كل نوع من الأشكال عند الكاتب يقتضي عدداً غير متناه من الأمكنة والحيوات , فكل ما يحاول تأكيده هو أن الفعل الروائي الجزء الأصغر في العمل ولا يمكننا أن نتصور الأمور الكبيرة دونه فالفعل الفرد في شخوصه مكوّن من عدد متفاوت من الأجزاء , التي توصل الحدث إلى غايته وكأن الحدث قد تركب من تجميع هذه الأجزاء ، فالأحداث في حركة وهذه الحركة موجودة دائماً ، فكلما ارتسمت الحواف الصعبة اندفع الأديب إلى الأحرف الصعبة للعمل فالقرية التي احتفظت بكينونتها وبشخوصها تقذف من جوفها عصارة الهم والتمرد وأشكال الهرب حيث يعاني الجميع من كسر العظم وقتل الأزهار المتفتحة فـ / سمر / تهرب وتقع في فخ القدر الظالم وتجلب لنفسها الهم بدلاً من دخولها إلى عالم الحياة الجديدة , فهي غير قادرة على تجاوز هذه المحنة والعودة إلى سلمان , فكيف يتم قبولها ثانية .

      إن الإرادة المستضعفة لا يمكنها أن تغير في سير العجلة بل ستنهار تحت رحاها وتغلق كل الأبواب دونها .

      وصورة " أبي يوسف " تتراقص في أحداث الفعل الروائي وتضيء عالم الكتابة وتعمل على إشعال قناديل الحدث , وتلك الوجوه المتسارعة في الحركة تنشط في جو الإلفة وسهولة التعامل ، فعلبة التبغ ولفافاتها وإبريق الشاي وتلك الجلسات الجميلة , ويبقى القلب ينبض بالحب وينتظر الفرصة كي ينثر ما لديه من ولهٍ واحتراق , فسلمان بقي المحب النقي لسمر , وسمر عرفت أن غلطها لا بد من إصلاحه , فهي تحب سلمان وتعيش حالات من الأحلام تبدو في كثير من الأحيان ذات ألوان مخيفة إلاّ أن الحب يزيل كل الأوهام ويدفع بالقلوب إلى التلاقي .

      " يوسف بوحمود امتزج شعوره بالسعادة لسماعه الإطراء على حبيبة روحه " شياله " امتزج بالغيرة عليها فأحس بمطر خفيف يداعب عطشه " ص102

      وتستمر اللواعج وتنساب عاطفة الحب متقدة في كل الأماكن فالروح تسمو خلف أحزان الماضي لترمم ما يمكن ترميمه في سراديب القادم وسلمان وسمر يدفعان بنفسيهما إلى مقدمة الأحداث, فالحب بينهما طغى على خطيئة سمر فتنساب كلمات سلمان غديراً هادئاً تحمل معها روح العفو والطيبة التي تمثل بها .

      " ـ حين تكونين يذهب الظلام ... أنت يا سمر كضوء بيت أبي يوسف يخاف منك الظلام ... قرميد لم يفهم كلام سلمان "   ص108

      تلك الحالات الرائعة من الحب يعكرها الكثير من الخوف والتهدم في بناء العلاقات فالكاتب يرصد تحرك الشخوص الذين تركوا الحرقة والغصة في قلوب الآخرين فزهوة تلعق مرارة الأيام وجسدها ينزف من تلك القروح التي ظهرت ندباتها على جسدها فهي تربط أحزانها بالأرض التي أخذها ابن الحسن وتألمت عندما تذكرت لحظات الحب التي كانت تنتابها كلما اقتربت من شجرة التوت , فالإنسان يمكنه بطبيعته العاقلة أن يحيا في وفاق مع العالم وأن يسعى نحو السعادة وهذا الهدف يمكن أن يصل إليه كل إنسان حتى لو كان أكثر الناس ضعة وبساطة ، فالحياة الأخلاقية التي أرادها الأديب أنارت المراحل التي يسير خلالها الفعل الروائي .

      ومن تقديم كل هذه التصورات نرى أن  الكاتب حسين عبد الكريم انتقل بخياله إلى كل الأماكن التي أحب زيارتها و أظهرها بحنان وقداسه.

فهي المكان الذي يمتد عبر المساحات الجميلة في حياته وما الشخوص الذين اصطفوا عبر حوارا ته إلاّ أناس حبهم و شعر بتنامي ارتباطه بهم إنهم حلقات مجتمعه الصغير بما يحويه من طيبة ، وحب وتبادل مشاعر ، لقد استجمع حسين عبد الكريم بيئته و خلق منها جواً روائياً راقي التطلع كثير التفصيل ، وعتقت تلك الأماكن بالعفوية والأحبة حتى باتت تمتزج بعروق دماء الأديب ، فهو يرى كل الأحبة في هذا الامتداد البيئي امتداد شجرة التوت . .  .

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية