دراسات أدبية

الذاكرة الجمالية والمؤولات الدلالية في جمالية الخطاب الشعري

الذاكرة الجمالية والمؤولات الدلالية في جمالية الخطاب الشعري

586 مشاهدة

الذاكرة الجمالية والمؤولات الدلالية في جمالية الخطاب الشعري

#في ديوان "سفر البوعزيزي" ل: نصر سامي

 #الدكتورة _زينب _لوت / ناقدة من الجزائر  

#يثير الشِّعر رحلة الوجود، ولغةً لواقع التّواجد الفني، وتَوَقُعٌ يستأنس بلذة الكِتَابة، ومؤانسة الموجودات خلف رمزيتها، وترميزها الخافت للخطاب، تتفق على تواشُجِ المعنى، وتتوافق على إيقاع يجس نبض القارئ نحو الخفي خلف كل كلمة، والمتخفي من فتق حدود التركيب المنتعل جسد شاعر، وحرقة إنسان، وابتهاج جملة من الفنون العميقة الثاقبة للوجودية المكانية والزمانية، يشير إلى صخب الصراعات المؤشرات الدرامية مع الواقع، والمثيرات التقنية مع تجنيد الطبيعة لمواجهة الإنسان في تحدياته، وإصراره العابث بمكوناتها، وينقلنا "نصر سامي" في ديوانه "سفر البوعزيزي" عبر قنوات تصويرية، بين الأنبياء ومعجزاتهم وحكاياهم المقدسة، والأساطير والشخصيات الأدبية الثائرة، في لغة اختراق التقلص والتضاؤل والتراجع إلى فضاء الاتساع والامتداد والانفجار خارج نواة الذات كما فعل بطل ثورته (محمد البوعزيزي) خارج المألوف ليهز رتابة العالم من حوله. يُعزِزُ "الوطن" عند الشاعر قِيمَة إنسانية، وجسدا يحترق ليُنِير دُروب الآخرين ومعايشاتهم، فيصبح طرازا انفعاليا، واكتشافا لقوانين فيزيائية حسية فيزيولوجية بين الذات والموضوع ، تلوح على أطرافها الحياة المطلقة للغة عبر الفعل المتبادل بين الخيال والذاكرة والحس. "ستصبح لغة الوجود مثلما الغيوم هي لغة السماء"، لغة ضبابية هاربة وفي ذلك وضوحها، إنها لغة القلق التي تهمس في انفتاح الوجود على معناه ، حيث لا يمكن التغلغل إلى ثغرات النص دون التّحوُلِ إلى جسد ضبابي، وتحويل مساماته إلى أياد ناعمة تلامس ذاكرة الشاعر "نصر سامي" في مجموعته الشعرية (سفر البوعزيزي). يرتفع خلف نوتة الحدث، ويرسم شفراته، وجزءا مهما من معايشته اللحظة الانتحارية ليس نقلا للمشهد التّصويري بل محايثة لإمكانات الحدوث، وإحداث الممكن توقعه من تلقائية الخطاب المحمل باللَّذَةِ اللُغَوِية. يُتَمِمُ هذا السفر العالم العجائبي، عبر إرساء مخملية المجاز البلاغي الّذي يخيط سبائك حضوره التّخيلي المخضَّب بهاجس سببية الموت، تدور حوله مجالات مختلفة، الانتهاء/ القمع /الجور/ الغبن /التهميش... المرادفات المنفعلة في سطح النص، (وبي جوع قديم في دمائي) ، (صددت الموت) ، (يريق دمائي) ، (أسقي المدى بدمائي) ، (عرق يضخ الدم في كل الثنايا) ، (ذاك شعبي الحرّ ذاك التّونسيّ ملهم الثورات، بانيها، ومسرى .......... تنثر صورة الدماء أريج المأساة، وارتخاء صفات المادة الخام في تشكيلها لدى الشاعر، وتجربته اللغوية، مع حمولتها المعرفية، أدوات تقتنص لحظة إنتاج الجمال (بأن طبيعة التجربة الجمالية تجسدها دوما مصاحبة التأثر الجمالي لتفسير الطبيعي، وما ينجم عن شعور النفس بالجمال، بعد إدراكه و الاستمتاع بنشوته وما يرافق ذلك كله من محاولات التعبير من خلال أشكال إفصاح الطبيعة ووسائل التعبير الفنية) فالدماء، والثورة، الضياء والليل، جوع وعرق واكتفاء ذاتي بالمواجهة، وصبغ العالم المحتبس بأصباغ الإبداع والوعي، استجابة لمثيرات الطبيعة المستعدة أمام مخيلة الفنان، وهو يهيمن بإعادة تركيبها صفة للتّحرر، وقُدرة التحرير. تنفتح مجالات الطاقة الشعرية وتتكرر الرؤية الثابتة للموت والانصهار والتحرر تمسكا بقضية ذاكرتية راسخة، ويتشكل الكائن (البراق) مصاحبا لرحلة الشاعر، ليشيد مسافات الحرية، ومحطات الروحانية، سفر غياب وحضور، يثبت ركائز العمل الجمالي الصاخب، المُضطرم باستراتيجية الصورة المحورية، الّتي صنعت الدافع الإسقاطي، لتصويرِ يحَمِلُ كلَّ الأبعاد الميثولوجية، والشخصيات التاريخية، والمثل الحضارية خلف إحراق، (طارق الطيب محمد البوعزيزي) نفسه قرب مبنى الولاية أمام مرأى الجميع. يرثي الشاعر وطنه (تونس) الخضراء في موت ابنها، ويترك النص الشعري يغلف آلاف الخطابات الذاتية في جسد الشعوب والذاكرة الإنسانية، ويستحضر العامل المتحول من التعبير إلى المعبر عنه، والمثول أمام تداعيات المعنى، وتشاكل الدلالة، وتفاعل الثنائيات، والإضاءة الخفية والظاهرة والمضمرة داخل النص لتيمات تتجلى، في "الحياة والموت"، "التجلي والخفاء"، السقوط والتعالي" حيث تنضب الازدواجية لترفع درجة التوتر الإيديولوجي. يبدأ سفر البوعزيزي بفهرس سماه المؤلف المائدة، فصّل فيه العناوين، واختارها في دقة إيحائية، واستقر فيها على اختيار عتبات نصية متنوّعة، جعلها تبدو واجهة للولوج إلى النص. (إنّ المناصة في عملية التفاعل ذاتها، وطرفاها الرئيسيان هما النص والمناص«Paratexte» تتحدد العلاقة بينهما من خلال مجيء المناص كبنية نصية مستقلة ومتكاملة بذاتها، وهي تأتي مجاورة لبنية النص الأصلي كشاهد تربط، بينهما نقطتا التفسير أو شغلهما لفضاء واحد في الصفحة عن طريق التحاور) حرص الشاعر "نصر سامي" على اختيار المساحات الخصبة للعب على وتر اللغة ورسم أفكاره باستقرار أثيلي. ومن العنوان نستخلص مقصدية المؤلف في اتساع مجال التراكيب الخطابية وتعدد منحى التخاطب: • تخاطب فني إبداعي • تخاطب للواقع الإنساني في حدوده العربية • تخاطب زمني استحضار أحداث ماضوية وعلاقتها بالحاضر • تخاطب للعلاقات الإنسانية وأبعادها • تخاطب نحو صورة مجتمع راهن . تمثل النصوص الشعرية لوحة مرئية، ودلالة تقتضي مكاشفات رؤيوية، تحاكي ما تلتقطه من صور، تماثلها بتشبيهات في ذهن الشاعر الذي يرائي مقصده منها، وينمي الأثر الساقط على النفس بالشيء المتخيل وقدرته على تحريك حواسها بحسن وضعها، وتواضعها المفاهيمي للمعنى، واقتدار رأيها في إيصال التأثير، وبلوغ الدُرر من الكلام (إن الكلام يقوم على أشياء ثلاثة: "لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم"... المادة واحدة وطرائق التعبير متعددة) لأن الفن في تعديه الإيحائي يمنح المتعة كقانون حتمي في نظمه، واقتداره. 1- الذاكرة الجمالية وابستيمولوجية المعنى: تثير فلسفة الذاكرة الجمالية mémoire esthétique توظيف الجمال المختزن على شكل يبين علائقية الجسد بالمكون الجمالي، تضخ الذاكرة الجمالية ديمومة الكشف عن المخزن الضمني، (فالذاكرة الجمالية المتكونة من عوامل لا (فسيولوجية) ولا (إبستيمولوجية)، وهي ذاكرة تتناغم مع أحداث سالفة وراهنة مكنونة بهذا التناغم علاقة ربط فلها أن تعطي لهذا الربط طبيعته خاصة الحزينة أو السعيدة (...) وكذلك بالنسبة إلى الشاعر والكاتب الروائي وكل من يحاول أن يعمق ذاكرته بواقعة خلال عمل ما فتلك الأعمال هي مقومات حفظ الذاكرة ومقومات تجلي الجميل على الدوام (...) فالذاكرة المنعطفة نحو الجميل تكون ذلك الجزء من فلسفة الجمال التي يترجم كل تفاصيل الذاكرة والحدث إلى معاني جميلة تسهم في تعزيز الوصف) ولعل ملامسة موضوع الذاكرة ليس لتعليل الظاهر لمكوناتها الفيزيولوجية مع أنها كامنة وتحقق اشتغالها، لكن الذاكرة الجمالية أو الحافظة كما سماها العرب القدامى تحمل المعاني، وتؤسس المحيط الجمالي، تكسب مهارات التعبير عن قضايا فكرية وإنسانية وجمالية، هي أشبه بالانعكاس الدائم نحو معطيات سابقة ولاحقة ومتزامنة، ( وليس الخيال نفسه إلا عملا من أعمال الذاكرة إذ لا شيء نتصوره لم نكن نعرفه بوجه ما، من قبل) تمنح مساحة كافية للتفاصيل والتوجيه المغري إلى مكانة الأشياء في النفس، وما حققته من أثر نفسي وروحي قبل انتقاله إلى الكتابة كأنها مادة تنغمس فيها اللغة لتكتب حال ذاتها ورؤيتها للوجود، وما يؤثر فيها ويستأثرها، هي المزيج الذي يشكل "إلهاما للخيال وللفكرة واللغة" ، وهي العلائق المكونة بطريقة جذرية للصورة. تمثل الذاكرة موضوعا خصبا للخيال في شحن طاقة التمثيل، وإدراك الموضوع الممثل وتصويره في هيئة ما تعنى بموضوع الصورة القبلية التي تعيها الذاكرة الجمالية، ونموذج "تولفينغ Endel Tulving 1995المتمثل في هرم يشكل آليات اشتغالها. المخطط(1) ترتبط العناصر حسب هرميتها، متناسقة في اشتغالها فتكون دالة على شيء، ثم مدركة لدلالتها، وتتمثل في نظام يسمح لها في إجراء ما تحتاج إليه الصورة بعدما يتمم المدرك بلوغه مرئية التصوير (ويقترح هذا النموذج التراتبي ذو الأنظمة الخمسة، هيكلة متناغمة للذاكرة الإنسانية، مرتكزا على عدد كبير من المعطيات النفسية والعصبية، التي تضاف إليها معطيات التصوير العصبي) كما يولي اهتماما بالذاكرة المرحلية لما لها من مؤهلات صريحة لتذكير الشخص بالتجارب المخزونة خاصّة فهي المهيأ الأساسي لتشكيل ظهور التصوير العصبي بعدها. 2 – المناص وبلاغة الكتابة الشعرية: أثر الواقع هو تجربة واقعيته، الذي ينفصل عنه الكاتب ويمارس عوالم اندراج المزايا الجمالية داخل تماهي النص الشعري تارة والشاعري في مواضع أخرى، يكتنف مقومات المجتمع هاجسه وراهنه، يتحدث عن الأوضاع ويمنحها أخيلة من الموسيقى الدلالية في تونس وفي العالم العربي، هي محور كتاب سفر البوعزيزي الذّي نحاول قراءة سفره، (يبقى، مهما اختلفنا حوله، في مشهدية الحلم علامة فارقة، لها رمزيّة عاليّة، إذ أنّه يحمل جميع ميزات ابن الشّعب الذّي أفرغه مجتمع التسلّط، والظّلم من معناه، فصار إنسانا عاريا من كلّ مقوّمات بشريته باعتباره إنسانا له حقوق، وتمت تشيئته، واحتقاره، وتتفيه وجوده، وصولا إلى إلغائه، واعتباره شيئا زائدا عن الحاجة يجب التخلّص منه وفعلا، ضمن هذا الفهم، أمعن النظام في القهر والإلغاء) يكتسب النص دافعية استقراء ما يمكن انبعاثه خلف الرموز، واستقراره داخل الصورة، هوية من الإنشائية تدور خلف بؤرة توتر، والعالم حولها يستقر حول المنفعل، في التكوين التواصلي للخطاب. يقوم التعبير الفني على استنطاق مدلول يصاحب القرائن اللغوية (فليس للتّعبير الأدبي معنى واحد، إنه لا ينقطع عن أن يتضاعف يتعدّد إذ يمكن، لكلمة واحدة مثلا أن تحمل معنيين، تقول البلاغة عن أحدهما بأنّه حقيقي، وعن الآخر، يتأسّس بين المدلول (Espace sémantique) بأنه مجازي. هناك إذن فضاء دلالي، المجازي والمدلول الحقيقي، وهذا الفضاء من شأنه أن يلغي الوجود الوحيد للامتداد، الخطيّ للخطاب) . توجه البلاغة مستوى آخر حيث تتحول الذاكرة من سجلات المُتَّخَيِّلِ الجمالي، الّذي يحيل الأشياء إلى خبرات التكوين الاستيطيقي، المرهون بالصور المخزونة إلى صياغة قوانين المفارقة والمواءمة، وإن كان للنص انزياح فإن زاوية الانزياح تؤكد مراتب الخيال وخفاياه، وحين ينسحب النص لمرجعيته يثمر عن محمول فكري يحقق ماهية تثقيف النص، ويستمر الإيقاع في تصوير المعنى كفاعل لمنفعل ذاتي هو اللغة. (فاعلية هذه المعاني في فهم مراد الصورة وجمالياتها، وندرس الصورة أيضا في ضوء بقية الصور الواردة في النص لنرى فاعلية الصور في تفسير بعضها البعض وفي تحقيق الترابط بين أجزاء النص وفي الدلالة على الدلالة الكلية للنص) وتتكامل المعاني حين تتناغم مع إثراء قضية تحولت من وحدة النص إلى وحدة أدبيته وعلم الأدب فن يؤسس اقترابا على نطاق واسع للرؤية وارتجاجا حيويا وصيرورة دائمة. يتميز الإيقاع بين القديم والحديث في طريقة الوضع، ومواضع تقنية التواشج الموسيقي، انتقالا من تعاقب صوتي إلى تعاقب معنى حديث، تعاقب لفظ دال إلى تعاقب مدلول مرتبط بعمقه بفكرة وجودية، حيث يورق بين سطورها (إيقاعًا يطرب الفهم لصوابه، وما يرِد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه ( وتوافق التناغم بين المفردات داخل النص أو تركيز في فكرة أو شعور أو رؤية تتخبط فيها آلة الكتابة وتثيرها عمقا كما يفسره الشاعر في ديوانه أنه (هاجس أحبّ أن أسميه الأفق العروضي، الذي تصبح فيه التفعيلات صدى غائرا وبعيدا داخل عمليات شديدة التّعقيد، بعضها يخص الجملة، وبعضها يرمي بعروقه في البلاغة، وفي التّصوير، وبعضها يترّدد باندفاع في تلك القيعان الأسطورية التي يحاول النص سبر أغوارها. .وهذا الأفق لا يزال ميدانا فسيحا للتّجريب) فالإيقاع متصل بمنحنيات متعددة داخل النص الشعري تتصل حينا ببلاغة المجاز ولحنه على أوتار التخييل، ومرة على تركيب أسطوري يتلاشى من وعي الواقع، وتنتقل الإيقاعات من وتيرة لأخرى في وجوه منفصلة ومتصلة في نفس الوقت تثير شمولية المعنى في تأثيث الصورة، والأجزاء في الشعر المعاصر ليست أجزاء تتساوى فيها السطور بل تعمل بالتكامل الإيقاعي بين الأشياء التي تصاحب الصورة فتنبض شجونا أو فرحا أو استثناءات إنسانية في جوف المستحيل، تنصب دلالتها متواشجة على أفق التعاقب مثلما يتأتى في النص الشعري الجدارية: )هذا الهوى الأبد لا الرّوح لا الجسد أحيا أواعده يا حسن ما أعد ما همّني أحد لا اللّوم لا الحسد أحيا أواعده والقلب يتّقد تتركب المقاطع القصيرة المتتابعة والمتوالية في جسد حر، يستقر الوَتَرِ الحَيَاتِي الدَافِق وينبض على وتيرة التسارع، التعالي الحِسِّي خلف كل مادي، والشعور المكثف بالصوت الذي يُصاحب خلفية المشهد، ويضج في صمته النفي المستمر لإثبات الذات في الجدارية ذاتها، ورغباتها، وضَخِّ التَّوتُر الداخلي حركة تتكرر لتعيد النَمَاء كما كان يعيد الجاهلي بالصوت ذاكرته السحيقة. يكون الفن متلازما بجاذبية المحاكاة المؤسس، داخل محراب الطبيعة، وخلف اللا موجود ينبعث شذر الوجود، من الصورة المبثوثة والمتمثلة في مشهدها التأثيري حيث (شكلت الصورة دوما مدار اهتمامات الإنسان بفضلها يتخيّل ويتصوّر ويتمثّل وعبرها يبني ويعيد بناء العالم وذاته، وبواسطتها يُؤَنسنُ الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية، ولا يحلم بعوالم أخرى مثلما لا يبني أوهامه واستيهاماته بدونها، بل يبدع فنا ولا ينظم شعرا من دونها) يمثله (سفر البوعزيزي) عبر تناوب المعاني وتتابعها، والذاكرة التي تلمع خلف الجسد المحترق، وطنا من التأويلات في فضاء يختبر الإحساس والمؤثرات الزمنية، وامتدادها، وزيادة طول ما ينثني خلف هذه الرغبة، في قول الشاعر: أكتب كي أزيد الوقت طولا وأكتب كي أمدّد في الهواء وأفتح فكرتي في الضّوء يمهد الضوء في النص الشعري (تذكرت البداية) الرجوع إلى الخلف حيث ينبعث النور فوق المشهد الذاكراتي، الصورة الغرائبية هي تعالق الوقت مع المكان، وأحيانا ينجلي التساؤل لماذا يتمسك بالامتداد الإشعاعي في زوايا تختلف بين أدوات الفكرة، تتبوأ التغيرات الممسكة لانفتاح كلي في قوله: وأفتح فكرتي في الضّوء وحدي فيدخلها مساء ألف راء إذا كان الغناء حمام قوم يمرّ بهم على شجر الضّياء أنا شجر الضّياء وتلك ريحي يعدّ التشكيل اللغوي من الخواص الأدبية الأكثر محايثة، فالإبداع مكابدة ذات قدرة نافذة في إعادة تسيير القوى إلى تأملات فكرية تحرك السكون الحاضر إلى غياب يستحضر قدرته على تَخَيُمِ تلك الأشكال التي ستسكنها بحاضر لغوي يفترش أنماطه البلاغية والبيانية وكل العلاقات التي تسند واقعها التخيلي على الابتكار والإبداع في خلق عناصر جديدة، هنا يمتثل أمام كينونة الضوء، وما ينجلي خلفه من عوالم مفرداتية (الضوء/ الضياء) حين تتسع زمنية الدلالة، ويستلهم من خلفية الأنا، وتصبح الريح بحركتها تثمر أرضية الذات والخصوصية والهوية (أنا/ ريحي/ يميني/ ورائي) تنبعث كثافة المكتنز، وتنعكس المرايا الذاتية/ الشعوبية/ وعلاقة الضياء/ الأنا هي متتاليات المواجهة/ المكابدة/ التحمل، في تدوير بين اليمين والوراء في تيمة الريح: وتلك ريحي أداورها يميني أو ورائي وأرسلها فراشا أو حماما التركيز على "الريح" كمصدر حركة، وتغير، وتحديد الأحوال، أو تبديلها من حال إلى حال، ومنعطف الريح رغم قلته في النص يبرز خلفه مستوى دلاليا مستمر التغيير المبدئي، وتمثل قيم المواجهة. ولعل وروده في القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة: 164 ما يكسب الريح تلك القوة والعنان في تسخير الأمور، ومفردة (ريحي) محاولة الشاعر استخدام تلك العينة من الظواهر، والقوى الصاخبة في الطبيعة. كما تتعلق (الريح) بالمسرات، وحين تقترن بالتّحول، تشتد قرينتها بالمعنى، وتكون فعاليتها لتواجدها خارج منطق الرتابة، كما وصفها الله تعالى في قوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الأعراف: 57 يحقق الانجذاب نحو الريح حين يكون هو ذاته تلك الريح (ريحي) لتنتج نوعا من العلائقية بين: يمكن أن الريح هي كلمة واحدة مقارنة بتعدد كلمتي الضياء، والضوء الذي سيطر على النص الشعري، لكن الحركة، تنجذب خلف تيمة (ريحي) التي تثير نواة المعنى ومركزية التحولات داخله بين كفتي الاختيار تكفي لاحتواء قوة التغيير خلف صورة الأولى من احتراق (البوعزيزي) المفعم بحرقة تراكم فيها الظلم والغبن والانكسارات الحياتية فتَحَمُل الشَّخصية البطلة عند الشاعر، يرصد زمنا من الارهاصات الموحشة، في روح المفتدى بنفسه، لتحريك جماهرية الشعوب، وتصاعد وتيرة التحدي وتحكير الاستبداد. يفتعل الشاعر "نصر سامي" وسيط المُعتَقَد الديني، والمُتعاقد الحسي والروحي واكتسى حلة البطل في مواجهة الآخر، من خلال انبساط الكون، واستبقاء جوانبه، واحتواء صفاته الحرفية (في ألفي ويائي) من بداية الترتيب الأبجدي لنهايته، وهو ما يُسيِّره باتجاه الفعل (أمدُ) في زمنه الحاضر، مستحضرا به عالما جديدا خاليا من بواعث الغبن في نصه الشعري الآتي: أمدّ الكون في ألفي ويائي وأبسطه وأحقنه دمائي وأشربه بلا مزج قراحا شراب الضّوء يشرب دون ماء وأدعو أن يصار إلى قصيدي فيشرب أو يعلّق في البهاء أدير الكأس لا أدري لماذا؟ أدير الضّوء أحسبه سمائي الفعل (أدير) ينقلنا لماهية الخارق في الأساطير اليونانية والبابلية وغيرها من المعتقدات الغيبية، وارتماء الطبيعة وأنسنتها المجازية (شراب الضّوء يشرب دون ماء) وهذ الفعل الذي يفصل الماء عن الضوء وكأن النور لا يحتاج لمثير آخر في التركيب الفني، والمعايشة الوجودية، وهو ينقل هذا الشراب من الكأس إلى ظنه أنه ممسك تجاويف السماء فتتحول إلى ذاتية أخرى يكتسها الشاعر (أحسبه سمائي) والفعل أحسب من أفعال الظن والقلوب، وشأن الكاتب في هذا المقام هو تحويل العالم من حوله، أو إعادة قراءته من زاوية نظره، وإدارة كنه الكون حوله على هذه التراتبية الجدية: نص يتقاسم الكون في أسراره، وتدور أفلاكه اللغوية تحت تأثير الدلالة (حقن اللغة الشعرية الكون فيحدث تلاقح بين الدماء واللغة والكون)، ما ينبئ بأن الفن لم يكن فقط تكوينا جماليا لمركبات لفظية طالما حولته بلاغة الإيجاز إلى التكاثف العجيب للمعاني، وفضاء تأمل واستقراء، كما يخيم المكون الطبيعي دون الإشارة لاتباع هذا الفن، ففي الشعر الحر للشاعر الإسباني "غارسيا لوركا " نصوص تتقاطع بوتيرة الكينونة السابقة في التركيب والإيقاع في جزئيات دون الكليات في قول لوركا Federico García Lorca : ثلاث دفقات دم وسقط على جانبيه وجهه نقود نادرة ويقول في منزلة أخرى: مع كل كلس الحقول الرديئة كنت أسل حبا، يا سمينا مبللا فالنص قد يتقارب مع السابق في إدماج الطبيعة، وما تحققه الذاتية الإنسانية المبدعة، من خلال شاعرية النص، كلاهما يتميزان بمنهج يتداوله أصحاب التيار الفني الوجودي، فالشاعر يمنحها لوحة مثبتة العناصر، لا يمكن حذف ولا إعادة تشكيل، حيث يتميز بانعدام تقديم أو تأخير المركب لأن التوازن المقطعي محكم البنية. 1- الصوروية في السفر البوعزيزي الرؤيا والدلالة: يُعبر بوند Ezra bound عن الصورة المحكمة بالصوروية imagism كاستـدعاء للوحة فكرية أو عاطفية، لذلك هذا التركيب الذي يعطي التواصل بين مستوى التقبل الذي تمارسه الأشكال المنتقاه (تجلي الكينونة بالنسبة لكينونة ما، حيث الوجود متضمن في فهم هذه الكينونة) لوضع أفعال الحلول والتقمص في عمل المؤولات، وتحميلها الرؤيا والدلالات وتوصيف مثيرات تعج بالحركة المتنقلة والباعثة والمراوغة، في جدلية المرئي، تنامي فضاء الانبعاث، إلى شعرية منفتحة إلى أوسع أفق للممارسة. تعد الكتابة الشعرية امتدادا للمخزون الجماعي، والمحمول الوجداني، وأفق اللّغة لتحميل معطيات الولوج في كينونة المؤول الدلالي في قصيدة (أقسم جسمي في جسوم كثيرة) حركة ثاقبة تتماهى (فلا نبالغ عندما نصرح أن الفن هو فعل الانفصال بالذات الإنسانية عن باقي عناصر الحياة والطبيعة، لأنه فعل إعادة التشكيل، وتجريد الخلق، والقفز على نسيج الرتابة القاتلة إلى توقيع جديد، يفصل بين حركة الطبيعة، وطبيعة الطبيعة، وبين حركة الفعل الإبداعي، وطبيعته باعتباره إعادة إنشاء وإعادة خلق وصياغة جمالية للكائن أو الشيء أو الظاهرة، أو الفكرة) وما يشدنا لنصوص "نصر سامي" هي الأنا المتكررة والتي تترابط بقوى الطبيعة والوجودية الصارخة في جوف التراكيب المتلملمة العاصفة والمتناقضة كما سيظهر في نصه الآتي: المستحيل أنا الذّي علّمته أن يستحيل وأن يريق دمائي لتفيض في وجه الزّمان سواحلي ويمدّ في جسم الظّلام ضيائي ما ممكن إلاّ ومني ماؤه نورا يساق من فتوق سمائي أستصحب الغابات وسط غنائها وأمدّ لبّ القول للشّعراء أمتدّ في الكاف التي في فكرتي ضوءا في الجسوم التي اختارها الشاعر إرهاق، وانحلال داخل الجسوم المتعددة الصوروية، المتسعة لانكفاء المعاني، وتدلي الخطابات الشاعرية داخل المتن تداخل مستمر لأفعال التغيير والحركة الفاعلة لذلك: تضبط الصورة وجودها من خلال تركيب من العلاقات ذلك ("بأن وقع العمل الأدبي شيء ومعرفة السيرورة شيء آخر") ، بتمازجها وتطعيم حركتها بالفعل اللغوي الذي يربطه 'هيدجر' (martin heidegger) بالذات فاللغة عنده نداء كينونة الكائن، وأن "الوجود الذي يمكن أن يكون مفهوما هو اللغة "عند 'غادامير' (hans georg radamer)، وإذا عكسنا تصور غادامير نجد أن اللغة صورة وجودية فهمها الفنان وطور تقنيات المعرفة الفنية من خلال الأسرار الكونية للمخلوقات (فالكلمات وممثلات الخصائص القبلية للأشياء في الذهن – الدلالة – هي موضوع الدلالية الشعرية داخل الوحدة الخيالية التي هي الصورة) ، التي تتسم (في كل ما يشكل وحدة فكرية وشعورية تعطي في لحظة زمنية مكثفة واحدة في إحكام) يتم فيها تجاوز الرتابة والجمود الآني للأشياء إلى حدوث تفاعل، يُمَكِنُ المعنى من الاستقرار في تلك الخصائص التي تعطيه مساحة، وتمنحه تجانسه مع الحركة المقدرة لتخريج جمالية الأثر. يبرز المصير المحتوم في تلك البؤر التي يفتحها الشاعر لاقتحام التساؤلات، واستنطاق المكبوتات، واحتواء المشهد من أطرافه، فالضوء والضياء مركب لاقتحام الظلمة التي أحس بها المظلوم حوله، هي مواجهة الاحتمالات الواردة في تفكير الملتهب في النار (البوعزيزي) ، (ومن اللافت أن يكون النموذج الفني، الذي يؤثره الشاعر في أمثولته نموذجا استعراضيا متحركا ، وأن تكون هذه الحركة الصامتة، هي مصدر نبله وفروسيته، حتى يصبح الصورة المعكوسة، للشاعر المتجه إلى الآخرين وهو يصنع إيقاعاتهم الوجدانية، والجماعية، فلغة الحركة الرشيقة المحسوسة، بدقة هي شعر اللاعب كما أن كلمة الشاعر هي لعبة موزونة) ، هو يمنحها ذلك الوزن الخفي من الدلالة والموسيقى والشاعرية، لإسقاط كل عتمة تحيط بها كما سيسيرها نحو التحرر العاطفي والجسدي والانبعاث من جديد ليصنع دائرة كونية بهذا النور/ الضوء حين ينبعث خافتا إلى أن يكسر براثن الظلام من حوله: يستبيح الضوء وجوده المهيمن، و تنبهه الحسي في تفاصيل الحياة ودقة الزوايا التي تسلبها مواقعها الكونية في مستهل النص الشعري (يمد في جسم الظلام ضيائي) حيث تختل القوى لصالحه، وهو يسيطر على العتمة بالضوء الذي يمنحه كل الصدارة والجلاء داخل الصوروية أو كينونة الصورة. 2- التعالي الخيالي في الوصف الجمالي: يتعالى الخيال باختمار جمالية المنجز، في قصيدة (هكذا حدث بروميثيوس) الذي يقتضب من حكايته سرقة النار لإنارة الكون، وتلاحمه مع الضوء، يشخص حجم التلاحم بين الأسطورة وواقع تلاحم بين قوة الضوء (النار) والكون (القضية التونسية / القضايا الانسانية) والكاتب (الشاعر/ البطل) فيقول في مقاطع متفرقة: أضيء حتى الضّوء أرضعه بحبر ليس تعرفه الملائكة في السّماء الشّمس تشرق في النّقاط وفي الحروف ألست تلمح ظلها في الهاء يكتنز الضوء في تحويله إلى مجموعة من التماثلات الخطابية: • استمرارية الخفاء الذي يحدث التجلي.(أضيء/ أرضعه /ألمع) • ارتطام الأشياء ببعضها (الضوء/ الحبر) • تحقيق شكل للتقاطع بين الأشياء (الشمس/ النقاط/ الحروف/ الهاء) • اكتناز الصفات وتواري الموصوف في المعنى (حتى الضّوء أرضعه بحبر/ ألمح ظلها في الهاء) • الحواس آلة بلاغة الومضة الشعرية • الأسماء تدير ركائز (الفعل/ الاسم / الشيء) الذي يعى صورته وثباته في تحديد الرؤية • الأشياء تقبل التقسيم والتغيير والتحويل من صفاتها في دلالة المعنى • الأشياء كنه عالم وتشكيل بصري للغة حول خواصها يعود لنفس النص ليصبح مؤشرا لتناقضات وانتفاء للمعطيات السابقة، حيث يغوص في نفسية (البوعزيزي) واضطرابه العاطفي بين كونه وطنيا، ولا يمارس وطنيته فيه: لا اللّيل ليلي لا السّماء سمائي ماذا ترى في الضّوء غير عمائي؟ أحيا لأرفع شرعة الأضواء في موج الرّدى وعواصف الظّلماء أعلو فيطويني العلاء كأنّني كالنّقطتين معلّق من يائي قلبي منارات الدّنى وأصابعي التّضاد المستمر داخل النص، ارتباط مباشر بالمسلمات الحسية، انحلال المباشر في عوامل اللا استقرار الفعلي، والفكري، وعدم رتابة العاطفة ومعاني الوجود القارة في الإنسان، اختلال توازن عميق في جسد (البوعزيزي)، اختناق شعوري، واحتِدَام الحس الإنساني في دائرة أخرى: تتوحد ركائز النص وتتنامى، تتفاوت في تشكيل لون من المساحة المكتنزة، المعقمة بتوظيف بدائل حديثة، وتعزز ما يكمن في لغة الهايكو" نحو المتلقي وتجهز فعاليته البلاغية (لم يكن المقصود ببلاغة النادرة استخراج وتفسير (..) فالبلاغة كما توخاها الكتاب لا تعني بالضرورة القاعدة البلاغية المقننة، بل تعني شتى الإمكانات الفنية أو الصيغ التصويرية، التي يسخرها النص للتأثير في القارئ والتعبير عن الإنسان) وبلاغة الخطاب تتصل مباشرة بالإمكانات تتوخى بالضرورة الأولى مسعى التأثير ومنبع المؤثر. يتصل نص (البراق) بتنظيم فريد للعلاقات داخل النص الشعري، ويتبدى ظهوره في حقيقة السفر الخيالي، وتحقيق منطلق عجائبي متعلق بحادثة الإسراء والمعراج والكائن الذي امتطاه الرسول: (يقف محمد البوعزيزي أمام مبنى الولاية. يتخيّل للحظة وهو يقف تحت الشّمس أمام عربته أنّ له حصانا. يفرك عينيه، يتأكّد أنّ الحصان أمامه حقّ،ا فيخاطبه قائلا: اللّعبة اكتملت. أعدني يا حصاني للشّعوب لكي أرتّب أولويّاتي مع الغيمات والسّمرات وأحجار الطّريق وردّني لطفولتي ، أتأمّل الغدران وألقط الزّيتون خلف الطّير. يضيع نجم كلّ ثانية هنا ويموت برق. كيف لي أن أفهم الطّاغوت أن الوقت فات؟ وكيف لي أن أقنع الظّلمات أن الخوف مات ولن يعود. خذني بعيدا حيث كنت إلى حروفي دون ضوضاء. أبادل نجمتي برسالة أو قبلة وأمدّ ضوئي في الظّلام) . يحتوي السفر أولويات كثيرة عند الشاعر، السير نحو الطفولة، ثم التأمل والتقاط الزيتون والمحفز في هذا الخطاب يحس بالنبوة وتعاقب الحدث فيها : ترتيب الأولويات طفولة/ تأمل/ التقاط/ إقناع/ رسالة)، ثم نلاحظ المترادفات الدلالية (الطاغوت/ الظلمات/ الظلام). والمتناقضات (ضوئي وظلامي) يستنذ على فاعلية الخطاب النبوي في إرساء دعائم الرسالة التي تبدأ بالتأمل وتنتهي بانفعالها وسط غياهب الحقائق لكسر الظلام والظلم، وانكفاء الضوء لنشر (أن أفهم الطاغوت) وهي الكيفية التي يتخذها المرشد لإفهام منطق الطاغوت، الذي يحبس الحقيقة بداخله، ويستبدلها بالظلم لتمتد سلطته. إرساء ظاهرة الإسراء والمعراج في شحنة المتبادل الوظيفي بين طواف سماوي، (إن الإسراء كان بالجسد والروح ما من ذلك من شك، وأن الله قد أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام وأراه آياته الكبرى، في السماوات العلا وأن الرسول قد رأى سدرة المنتهى وقد غشيها نور الله، وقد أوحى الله إليه الصلوات الخمس وقد انتهت الرحلة العجيبة عند بيت المقدس، ولو كانت قد تجاوزت المسجد الأقصى) والبراق اسم الدابة التي امتطاها الرسول، وربطها قرب الحائط عند نزوله، وما تثيره هذه المعجزة، في نفسية "نصر سامي" وتعلقه بهذا الرمز في أكثر من نص شعري يؤكد حرصه على الممكنات الوجودية، فمن يعتقد أن الحرية البشرية بعيدة المنال يجعلها افتراضه لوجودية (البراق) حقيقة يمكن التبشير على وجودها حلما ممكنا، بغير أشكال أو استعراض لحدود متداولة، بل تجرد الجسد نحو الاحساس الروحاني الذي قاد (محمد البوعزيزي ) للموت . يتكون الفضاء الدلالي للصورة من شكل زئبقي، يكون الماضي حاضرا ويستقر الحاضر في ماضي يتكرر وجوده بصورة أخرى تدعو للمماثلة وهذا ما يؤكده (اينشتين واضع نظرية النسبية أن ليس للزمن من حقيقة، قائمة بذاتها وأنه من خواص المادة، إن المستقبل قد يتصل بالحاضر وقد يلحق بالماضي، ففي كل لحظة نحن نقتطع من المستقبل جزءا نضمه إلى الماضي ففي كل لحظة نحن نقتطع من المستقبل ما يلتف على شكل دائرة وبذا يدخل في الماضي إذ الدائرة علامة أبدية) وإدراك الشاعر لهذه الحقائق، يرجح استعمالاته المكثفة لكل الوقائع التاريخية، والغيبية، وافتراش الصور المتعدد للأساطير ارتباطا بحادثة احتراق شخصية البطل لديه. 3- فائض المعنى في الخطاب الأخير لمحمد بوعزيزي: تساهم الحقائق الجمالية في ارتباط المعنى بدلالته أو تجاوزها لدلالات متصلة بالمؤولات، وتخمين القارئ لوجودها خلف هاجس النص، وتشكل الخطاب العالق بين الحقيقة والخيال، وتحرير الشاعر المستمر لروح (محمد البوعزيزي) وتقمصه أجسادا، أخرى مصاحبة كي يؤكد عدم موته وفي نفس الوقت يؤكد على أن جسده تحلل داخل التغيير الذي انتفض من أجله الشعب التونسي في تلك الفترة في قوله (لا لم تمت. ستظلّ حيّا ها هنا، في الأرض، نجما ساكنا في أمنيات الطيّبين . ومن رمادك سوف يولد ألف ضوء. يا محمد. لم تستعر فرسا لتعبر عن عالمك الجديد . ولم تطر . لم تنزل النيران من عليائها بردا لتحضن روح إبراهيم فيك.) . العالم الجديد المؤثر والمتأثر، والولادة من الرماد، وبالضوء تنمحي دائرة الحدود، فتتداخل المعجزات التخيلية، وتكتنز التقاء طرفي الواقع (احتراق: سيدنا ابراهيم عليه السلام/ ومحمد البوعزيزي) وانتقال البرد والسلام لروح (البوعزيزي) (ومن هنا تحول الفن إلى منشآت installations مجسّدة في الواقع وإلى صور محوّرة ومنتجة بكيفية آلية لا تكمن من تمييز الأصل فيها من النسخة ) بنشوء استيطيقي يراهن على الاتساع الجمالي، تحول الزمن إلى قبضة الشاعر فيدمج بين معطياته، يبتكر بين شقين التماثل، والامتزاج، والانسجام. إن أهم وسيط بين اللوحة وإطارها، وأدوات الرسم، واللون، والمساحة ودرجة التماثل ويركن على تفاصيلها، ذاكرة تعيد تشكيل الواقع، وتأجيج المتوقع ، في نص (الوشم) الذي يبدأ بمقطع الإنجيل: (أترون هذا كلّه؟ الحق أقول لكم: " لن يُترك هناك حجر على حجر، بل يهدم كله، ومن يثبت إلى النهاية يخلص") الثابت لا يتغير، والمتثبت يغير أكثر من أن يتغير، ولعل فكرة الثبات لها أصولها ومرجعيتها في التفكير البطولي للشاب ( محمد البوعزيزي) ليترك خامات من العراء الفكري، المخضب في رحيله، ثم يواصل في تساؤلات يلتقي فيها المؤقت والعابر، والجامد والتفكير، اهتزاز لفظي تحمله أيقونات مختلفة في الفقرات النصية الموالية: قال لي: )صديقي الآن بعيد جدّا. لا أدري أين؟ والإخوة صاروا أكثر بعدا. صار الخوف بلادا (. وارتدّ كي يتذكّر الأحباب . "ماتوا دون أن يرثوا الحقيقة أو يناموا في ظلال الأقحوان. ماتوا دون أن يمتدّ في أنساغهم ذهب الرّياح وفضّة الطّوفان. ماتوا على عجل، وها أحلامهم تذرى هنا في ليل هذا العالم المفتون بالنّسيان". وفي هذه الفقرة المفتوحة والمشروعة لكل الحقائق، والمنفتحة للنسبية والتعدد، والدهشة الغرائبية، وهو العالم المفتون، المنغلق بقدر انفتاحه، والمحصور بجلاء لا محدوديته، وهو يعيد قصص الأقوام التي نزل عليها الأنبياء، ولم يؤمن إلا قلة من الناس، هي نفسها الحقائق التي تمتد في قوميات مختلفة ترى الحق باطلا والباطل حقا، حتّي تؤجج روح، وتزهق بينهم وهذا ما يشير إليه الشاعر في (فضة الطوفان) الذي ارتبط بحادثة سيدنا موسي عليه السلام) لقوله تعالى: "وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) "، سورة الأعراف. )130-131-132-133) يتجاور الماضي والحاضر في لحظات ذاكرتية، نحو اكتشاف حركة جديدة تتحرر في المعنى، وتومئ بعمق وسائطي بين المكاشفة الثابتة للواقع، و انسياب التخييل في إعادته ثانية باللغة المعبرة عن الفكرة المحورية، فتنجذب إليها إسقاطات الذاكرة في فرز ما يحيل إلى الفهم الجمالي، والجمال الشاخص للوجود حوله. 4- ذاكرة المعتقد الديني وازدواجية الرحيل والعودة: يُمكن المقدّسُ الفن استراتيجية مهمة، في تعزيز ملامسة الفكرة، وإثارة المشترك الديني، العميق، المدمج، يُسَخِر الأَشياء الملتَّفَة بباطن الاعتقاد الثابت، إنها الثوابت المتواصلة في ذاكرة الجماعة (يرمز للأشياء الموجودة في العالم المرئي،أو هو أسلوب لتمثيل الأشياء المادية التي تتضاءل أهميتها، وتلغى معظم تفاصيلها) تنتقل الموجودات بقداستها نحو لغة بصرية لاضمحلال الجاهزية الأولى، وتجهيز عناصرها الكافية لانتقال تدريجي ومناسب لصورة (محمد البوعزيزي) (معنى التفكير؟ إن الإنسان لا يكون إلا بالقدر الذي يشير ويسمى هذا الذي ينسحب، بل الإنسان لا يكون إنسانا إلا لكونه ينجذب إلى هذا الذي يتوارى وينسحب) الانجذاب الواعي لصورة يقتضي منا ملامسة الرتوشات الخاصة في اللغة، وترميزها بموازاة الفكرة المنسابة والمتذبذبة تحولها إلى انطباع حسي، يؤثث لذاكرة الآخر هندسة تبحث في الكيفيات الواعية لتَّشَكُلِ والتّكوُن. استرجاع الشاعر لقصص الأنبياء والرسل يمنح إضاءة خاصة في تقنية البناء، التي خلقت الباحات الكبرى للدلالة، وتنظيم تعبيري في فضاء النص: في تضحية (إسماعيل) أثناء قبوله أن يكون أضحية طاعة لربه، تجسيد لقيمة الطاعة في نفس (محمد البوعزيزي) لكن المنعكس ليس إلا قبولا بمصير السكاكين التي تحيط بواقعه المرير (فرّشت روحي لهم مطرفا تحت سور الحديقة حيث أداروا السّكاكين كي يذبحوني. تنزّل ضوء مرارا لينقذني، ولكنّ عين الحجارة لا تبصر الضّوء. تنزّل نجم بهيأة كبش وخلّصني غير أن السّكاكين عمياء لا تبصر الضّوء . وها أنا ذا واقف تحت سقف السّكاكيين أفجّج في باطن الأرض وأحمي المدى . وها أنا ذا أفكر في نجمتيين لأصنع إلياذة في سماء الغياب) والمتجاوز في التقاء الصورتين هو نزول الكبش لكن دون احتساب ذلك بديلا لتضحياته، وعدم الاكتراث لوجوده، واحتقار إنسانيته، فالشاعر يقلب مواطن الحادثة حسب ما حدث، ويستحدث ركيزته بأن تضحيته ستولد الإلياذة التي تتصل بسياق الثورات العظيمة في التاريخ ( إلياذة هوميروس/ إلياذة مفدي زكريا) لتنير دروب غيابه الضياء للآخرين، وتجس فيهم رغبة التغيير والتحرر من قيود الغبن والظلم، ثم يوازي ذلك من محاولة إحراق سيدنا إبراهيم عليه السلام، ونجاته بفعل معجزة إلهية وتحول النار بردا وسلاما، ويتحول بعدها موته إلى سفر يماثل حادثة الإسراء والمعراج، إلى أن يومئ بحلم التجديد وحلول السلام بعد قحط السنين الماضية في حلم يوسف عليه السلام، وهذه التداخلات المرجعية لها خصوصيتها في إثراء النص، وتثبيت معانيه. 5- الذاكرة الميثولوجية وتعدد جماليات اللغة: يعنى المصمم الخطي بطبيعة الإبداع، ويتصل بحسه وانتقاله البياني في المعاني، يشد الرؤية وتتراءى المسافات، لتمنح كل مساحة حجما للمعنى أو فائضا له، يرتبط النص بالمستقر ولا مستقر، بالتغييب والحضور فهل الحضور كالغياب من حيث القراءة والتفسير، وأين تقع جمالية النص خلال أفق من التحميل اللفظي لقصد يكون غير ثابت بين مؤلف وقارئ ، ليس الأمر في نوعية تخطي رسم اللغوي لذات المبدع في مخياله الفني ، تتنوع السطور فتمارس الكتابية هندستها وتحقيق البعد الميثولوجي داخل النص كسر لمركزية الوجود والترميز لشعرية الكائن الجديد ومفارقة مرتقبة بين ماهية الأساطير، واحتواءها المستقر في المعنى المنتظر: واعتماد الشاعر على الأساطير ليس امتطاء لحكايا تسقط ربوبيتها الخرافية، وإسهامها الفاعل في إضافات بوادر رمزية، بل يجعها التحاما فعليا لاسترداد حق التواجد، و التزاما وجوديا حيث يكتب (لم تمكني القصيدة من حياة غير ما أحياه فيها! مكّنتي من سرير غامض في البرق ينأى . مكّنتي من تواريخ الفجائع في الأساطير القديمة والجديدة، علّمتني أن ّحرفا واحدا لن يستطيع إضاءة الدّنيا، قد يملأ الأكواب خمرا، ربّما قد يوقد الأضواء وهما، ربّما ... لكنّه زبدا سيذهب كلّما عصفت رياح الحرب بي ".قلت في نفسي. وهممت بالجسد الممدّد قرب جسمي ) تتلاقى الأرواح الأسطورية، وتتفاعل مع الجسد المقارب لذاكرة الشاعر، وهاجسه، وطائفة الإسقاطات الحياتِية، أشكال القهر الذي تعرضت إليه شخصيات الأبطال الأسطورية، والعقاب الذي لازم وجودها، والنهايات المريرة، ومع ذلك تركت للذاكرة حمولة صراع القوى وارتباطها الكوني. يحيل الشاعر إلى المستوى الفكري للأساطير، وارتباطها بالبقاء لسنين عالقة في ذهنية الإنسان، ومحاولتها في تحررها من سيطرة الآخر (أساطّيري هنا، وأنا وأحزاني أقيم، أمدّ ضوئي للسّلام ، ومديتي للحرب . في قلبي تنام الأرض. أسمع صوتها والدّود يعلك جلدتي فيها ويثقلني أنين الكائنات. أنا هنا ذكرى رحيل لا يملّ الارتحال؟ أنا البقاء اللاّنهائيّ القديم ؟ أنا صراخ المييتين وفرحة) يصرّح ببقائه اللانهائي في ذهن (البوعزيزي) الذي حرك المتغيرات من حوله، وانتفضت العقول من وهن صمتها وركونها، حيث يحتبس المرئي، ولا يتراءى ما يخلفه السكون من جمود، فتنفجر الفرحة من صرخة الميتين. وتتولد من خلالها المعاني، في مُولِد الاعتدال الوصفي لأي شكل أدبي يختلف محتواه لكن ينسجم نسيجه، وطريقة التقاء الأنسجة في تكوينه الإبداعي، وانزياحه المنسجم بالمتعة واللذة، وقد فرق الناقد بين طرفين يمثلان المرجع الفكري لموضوع الشعرية، وخصوصية العمل من جهة وعامل نشوئه ومن ذلك علة نشأته، ميكانزمات التوافق، والتوفيق الاصطلاحي في فهم المنشآت الفنية، وأسرار خلودها، ودلالات التوليدية والتحويلية للمعنى، وتعدد الخصائص الفنية: يكتفي الوهم باصطناع الواقع، وتجريد الهوية نحو البربرية، الجامحة نحو حريتها، التي لا تتخذ الأشكال لتحبسها (وتوهمت التحرير، تحرير الكلمات، لكنّ الكلمات ارتدّت راغبة في تحريري! نتبادل حرّيتنا، أنا والكلمات، نتبادل أغلى هبة في هذي الأرض، ونحاول أن نشرك في جنّتنا الأهل وأن ندعوهم لمباهجها. سيعود يوما طائر الفينيق من سفرته) فيختار "طائر الفنيق" ليتحرر من الجسد، ويصنع لنفسه سماء حريته، وحرية لسمائه، وأرضه التي يعدها حقا طبيعيا للتجلي والاكتفاء، والحرية الروحية، والتقادم نحو رحلة جلجاميشية مع صديقه ( أنكيدو ) ، بين أدغال الحياة وحواشيها دون المساس بحريتهما، و هو ينصهر مع (البوعزيزي) ينتقلان بين أفنية الحياة ضياء بين طرفي (الجسد/ اللغة) آهK يا سامي، يا أنكيدو العصر فيم حياتك تمضي؟ في عبث لا طائل منه تسمّيه الإبداع الرسم باللغة، والتشكل بالعواطف الحسية، وتوصيف الإطار يبرز المعالم التعبيرية (للكلمات طريقتها الشعرية الخاصة في محاكاة الحياة، وتجسيد حركتها) وشعرية الكلمات في دراسة المشهد عند "نصر سامي " تتصل تنأى خلف الهيمنة والفعل المتشكل في فضاء النص المتسع لكل نماء تخيلي يرفع قيمة المعنى الذي يبشر بالرؤيا: أرى رؤيا، أنا فيها، وأنزل إذ أناديها. وها تعطي أغانيها عطايا الهم وها تعطي أمانيها عطايا الدم وها روحي مسقفة بآلام ثقيلة تكركرها يد السيّاف. تنجذب الرؤيا حول مؤثرات الواقع، ووشائجه، والتشيؤ بمنازل الراهن الذي يٌشكل بنية النشوء الجسماني والروحي، والشاعر يثير ما يرصده من منطق وجوده (الهم/ الروح المثقلة/ السياف) وهو التفاف حول المحسوس الفعلي (السلطة والمواطن) وعلائقية التواجد بينهما، فهل حقا التحرر كفيل بتحقيق كل رغبات الإنسان في تبرير وجوده؟ لكن الفنان لا يزال يَرتَعُ في الموجودات حريته في التعبير وتشكيل اللغة وتلوين الحياة من حوله، وتحرير أقفاص المعنى، وتشييد مناجاته الفاعلة، ونداءاته التي حفزتها مناصات مختلفة من أبي العلاء المعري، وأبي القاسم الشابي، ومحمود درويش، وإليوت الشاعر الأنجليزي ، وحوارات نصية بين كتاب عرب تنمحي وحدة الشاعر، وتتفاعل العلاقات بين تناغم ينسج علاقات المبدع بأرضه ووطنه وقضيته خلف ستائر السياسة والاقتصاد والاجتماع والمعلوماتية... تنكفي لوحة أثيرية لرؤيا تتطلع رغم مثولها في قمع ذاكرتي تنشد السلام والحرية وكرامة الإنسان . الخاتمة: ترجمة الذاكرة الجمالية، هي تحفيز آليات اكتساب المعنى، وبراعة تركيبه خلف مخزون ذاكرتي يحمله الشاعر نصر سامي باقتدار، ويسيطر على مؤولاته، يستكين للحقيقة ويجهز السفر الرائع نحو جسد (محمد البوعزيزي) الذي ارتقى في مسارح البطولة، لكنه من خلال الخطاب الذي أقخمه على موت بطل تونس الخضراء، و تسامي روحه التي قادت ثورة التغير، نجده يمرر شحنة اليقظة الشعورية والفكرية، وتسطيح الحقائق، وتجويفها على مرأى النص الشعري: وهم من فصّلوا من لحمنا المنزوع منّا عنوة.. يوم الأحد. وهم من أرسلوا علّيسة بالثّور وحنّبعل بالأمجاد وابن خلدوف بالتّاريخ وهم من أطفؤو نيران قلب الكاهنة وهم من جعلونا فوق لحم الخارطة من فوق مثل مسمار الصّدأ. انتزاع الحرية الفكرية والثقافية، سقوط القرار وانتفاء الذات والهوية ما يؤرق الشاعر نصر سامي وما يجعله يؤجج نيرانا تجعلنا أقرب لفهم (البوعزيزي) وهو في قمة غضبه يحرق إنسانيته المضطهدة، الموبوءة بالخذلان، ما يشفره المنحى الجمالي لتَّرفُع عن واقعية الراهن، وترهين اللغة في استرسال مجازاتها لتبئير الخطاب (يحيل النص إلى سراديب الحس، وصدى الروح، واللغة الفاتنة المغرية، لكل ما يصاحب هسهسة القارئ ونشوء العالم من أجل خصوبة التفكير وانتقاء أحوال الكلمات وهي تتشفع بوتر اللحن وحس المعنى، وقامة اللفظ، وشمولية الفكر) والسفر بحد ذاته انطلاق نحو المكان والزمان، وعودة لنفس المسالمة لهدوئها واستقرارها، وتكفل النصوص الشعرية والشاعرية في سردها البطولي الدافع، والناتج، والمحقق، لكن بين فجاج النص يتراءى التصوير المثالي للرائع، والصورة المثلى لانسجام المتتاليات الرمزية في اكتناف الفن (مع الرائع نخرج من "جماليات" الجميل، ونخرج بلا رجعة من فلك ما سماه كانط بنفسه باسم"اللعب الحر للمخيلة" وذلك من أجل التوجّه نحو جدية المخيلة، أو رواعها إزاء المريع) فنجده مهدئا ملمسا لجمالية تمخضها فيافي النص وسواحله وبواعثه المتنامية بامتداد الفكر، وتسلل المتمعن المتمرس في مختلف أوضاعه، ويترع ممعنا متمعنا بين أصوله وجزئياته، وفصوص لغته، ليس التوخي في حاجة التدوين، ولا في غاية التمرن، بل بترويض النصوص عودة لأصول الفعل الكتابي، وخطوات الممارسة، إلى جمالية التمرس القرائي وصولا إلى تبئير داخلي للذات التي تحمل بعد مشقة الكتابة، صخب من الخوف المنفعل، والمتواجد في مواجهة الآخر، يرتقب الرحلة بما تحمل من خفاء للأحداث والمستحدث خلف مرجعية الزمن والمكان، يقول الشاعر نصر سامي: حبٌّ الشّعر يظلّ حزينا موتورا ومعنى ومليئا بسماء حبلى بالخوف. يا سامي فيم الخوف؟ إن كان العالم موتورا ومعنى وحزينا طول الوقت؟ ففيم الخوف؟ ستطول الرّحلة لن يأتي أحد بالعشبة من أجلك. جلجامش سيحبّ اللّيل والمرأة في الحان والرّحلات والرحلة هي تأصيل الكتابة بفعلها الاستقرائي للوجود، والتواجد مخاطبة للتأني الهادف، والهدف الآني خلف المقروء، فلسفة تعيد المنطق، وتتحكم في منطلقه. فهل نحن نقرأ لنستوعب الجمال؟أم نرصد الجمال الذي يعبئ في وعاء جاهز لأشكاله؟ لماذا نقرأ؟ وماذا نريد من النص إذ كان ما سنقيسه سيصلب قراءتنا الأولى بداية بالتقاط ما يشبع غرائز الاتجاه النقدي، ويجمد أطراف النص عنوة؟ وهنا نصل إلى حمولة الذاكرة الجمالية التي ترصع الرائع في روعته، والمتجاوز في تجاوزه، و تعلق الدهشة في خلخلة المدهش . 

اقرأ المزيد على الرابط : https://iraqpalm.com/article/الذاكرة-الجمالية-والمؤولات - الدلالية - في - جمالية-الخطاب-الشعري?fbclid=IwAR2AG3liznEUU8bYdz5sOUduZay57njhSfKgojZzca-6RKJ5C7lJxFlzYiM