مواضيع للحوار

الشخصية المسرحية والقناع الصوفي

الشخصية المسرحية والقناع الصوفي

2612 مشاهدة

 


      الشخصية المسرحية والقناع الصوفي

د.حياة خطابي

كان الشعراء الصوفيون أول من جرد الرمز
الصوفي من دلالته حين أعادوا تشفير اللغة في قصائدهم ، عن طريق إبعاد الدلالات الأولى الحسية والدنيوية لألفاظ معنية مثل : الحب، والخمر، والعشق … ثم وضعوها في أنساق غير أنساقها المعلومة . فأزاحوها بذلك عن ماهيتها الأولى ، لتتحول من أسماء وصفات معلومـة إلى رموز لها دلالاتها الوجدانية والدينية، كل حسب رؤيته الروحية .

وشعراؤنا المعاصرون عرفوا الصلة التي تربط بين تجربتهم الشعرية والتجربة
الصوفية التي تتبدى في تجاوز الواقع ، وتحقيق الاتحاد بكل مظاهر الوجود ، فجسدت الأقنعة الصوفية نوعا خاصا من السلوك والفكر لديهم.

وقد وجدوا في التراث ما
يزودهم بذلك العنصر الإنساني النفسي والوجداني والعاطفي الذي هم بحاجة ماسة إليه . وبذلك خضعت المادة التراثية لإعادة خلق الواقع بصورة لا تنفصل فيها عن صراعات العصر ، إذ يكون الماضي قريبا من جوهر الأشياء وحقائقها الكامنة في واقعهم النفسي والاجتماعي ، وفي وجدانهم التاريخي البعيد . قصد بناء الوعي الناهض، والجديد ، والمتوقد، والتغيري، والثوري ، والبناء.

وسنرى كيف تحققت هذه المسألة من
خلال توظيف : شخصية ” النفري ” في مسرحية ” ابتهاج الرؤيا ” للمبدع المغربي محمد المعزوز.

تشتغل المسرحية على مجموعة من الثنائيات الجدلية التي تجسد الصراع
الدرامي . أهمها ثنائية القلب والعقل ، وأيهما يملك مساحة سلطوية أكبر على سلوكات الفرد وتحركاته ، في محاولة إزاحة النقاب عن وجه الحقائق البشرية الغامضة التي لم يتوصل العقل إلى قول كلمته الأخيرة فيها. ويتم ذلك عن طريق الشعور التعادلي الذي يمزج بين حقائق الحياة الواقعية ، وتفاصيل الحياة اليومية، والمشاعر الميتافيزيقية التي تسكن في قلب الوجود الإنساني ، وتضيف إلى المشكلات الاجتماعية والتاريخية المرافقة للوضع البشري مصاعب وأبعادا أخـرى تجعل الرؤية الروحية الشاملة من نوع تلك التي يمتلكها النفري هي المؤهلة لملامسة تلك المشكلات .

لقد مزج المؤلف في
هذه المسرحية بين الخيوط الواقعية والخيوط الرمزية. والواقعية فيها مجاز بالمجاورة لأنها ليست حقيقية : أي يستبدل فيها المعلول بالعلة ، كأن يقوم النفري مقام المحبة، فيما يقوم فهمان مقام العقل .

شخصياتها تمثل في طبيعة تكوينها دلالات
إيحائية تخرج عن كل أطرها ومحتوياتها الحرفية ، لتغدو معاني أكثر شمولا ودلالات أكثر رحابة.

انطلق محمد المعزوز من الموروث الصوفي، وقام بتحويله إلى ثورة
فنية جديدة من خلال البحث عن مكوناته أولا، ثم إخضاعه لرؤية حديثة ثانيا. لقد وظف شخصيته النفري بهدف حذف الابتذال اليومي السائد بكتابة أجزاء متعلقة بسيرة هذه الشخصية وبتوجيهاتها الفكرية ، في كينونة جديدة لها وظيفة تشييدية و تخييلية، منفتحة بحيلها على المتلقي، باحثة عن سلطة احتفاليـة تنفي المنطلقات والأصول الثابتة في التاريخ، وتتوخى الوقوف على الطبيعة التحويلية في أشكال ومضامين الحيلة في توظيف هذا التاريخ.

والمؤلف هنا يكشف عن القيمة الوظيفية الجمالية
والإنسانية للتراث في فضاء الإبداع المسرحي، إذ يستخدم عناصره في خطاب هذا التراث، من أجل بعث دلالات جديدة، ومعاني تتكلم في النص الدرامي ، وتشكل متخيله الذي فجر المؤلف فيه الآني من قلب التاريخي. فالنفري* ذلك الإنسان المتصوف صاحب الوقفة ** الذي يربط في أحوال السالك ما بين الاستقامة الشرعية، والامتثال للأوامر والنواهي، يتحول في هذا النص إلى رسول للمحبة ، وداعية إلى الاستضاءة بنور القلب :

“النفري : آه يا عبيد بلدي، استعبدكم العقل ، فظننتم أن لاشيء إلا العقل
. باسم العقل شيدتم البلد وربيتم الولد ، وأوجدتم دنيا تلك الحية التي لدغت بلدي و أحالت أولادي لصوص فؤادي.

العاشق : وأحالت أولادي عراة زناة لطخوا
حيائي.

وأحالت أولادي سم بلدي وانهيار داري ” [1
] .



إن
النفري ومريده يكشفان غموض العالم ، وقرفهما من بعض المظاهر الزائفة الموجودة فيه . وهاتان السمتان هما ما يدفعهما نحو التماس التصوفي والروحاني والحب بمعناه المستحيل ، وطلب الخلاص في عالم ماورائي يطرق أبوابه مستعينا بإيقاع الحضرة ، وبجبة المريدين ، وإمام الوجد ، والكرامات.

“النفري: أراكما تجهلان ما ينبغي عمله
؟

العاشق: وما الذي ينبغي عمله يا إمام ؟

النفري: القلب شعاع يضيء
الجسد والروح ، الأسر والفناء لا يأخذان شيئا من الجسد المضيء . لأن المضيء الحق لا يغنى أبدا ، لا يؤسر أبدا ، سأظل

أراكما في كل مكان ،لا الأسوار ولا
الزنازن ولا الحفر حجبكما عن الأنظــار ، لأننا معنى مضيء يغشى الأبصار” [2] .



ولعل هذا يتوافق مع قول النفري : ” وقال لي فعل القلب أصل لفعل
البدن، فانظر ماذا تغرس وانظر الغرس ماذا يثمر ” [3].

إننا أمام جمهورية
النفري الأفلاطونية التي يسود فيها الحب والنور والضياء ، وينتفي فيها الخوف والموت والقمع . لقد منح محمد المعزوز هذه الشخصية حياة جديدة ، وجعلها تعيش مأساتها في شكل جديد ، يستوعب مأساة العصر، ويصطدم فيه الواقع بالخيال ، وتتقاطع فيه تناقضات الحياة وألوانها . لقد منحها بعدا جديدا فسح لها المجال لكي تتجاوز كونها شاهدة على عصرها ، إلى كونها مشاركة فاعلة في بناء أحداثه، فينفتح بذلك حقلها الدلالي على إيحاءات مكثفة . فهي لا تحمل غربة لحظتها التاريخية فحسب، وإنما تنضاف إليها الغربة في سياقها العصري . وهي الغربة التي تبثها ثنائية العقل والقلب ، النزوع نحو الماديات أو التشبث بالجانب الروحي.

وهكذا يدخل النفري في صراع مع فهمان
الذي يدعو إلى نبذ المشاعر و الأحاسيس، وإلى تأسيس الحياة على عالم أنهكته الماديات ، وأضحى فريسة لعولمة كاسحة ، شيّأت الإنسان وأفقدته جوهره الروحي ، محولة إياه إلى كائن استهلاكي مستلب وأجوف ومغترب ، بعيد عن هويته و عمقه الروحي الذي يؤسس كينونته وجوهره الإنساني .

” النفري : وأنت فهمان بن حكيم العاقل
.

فهمان
: وكيف عرفتني؟

النفري : سيماء كل وجوه ، فيما أقبل عليه
.

فهمان
: وصحة ما يقبل عليه عقله .

النفري : بل قلبه
.

فهمان : القلب مخادع لا
يصل إلى الحق أبدا .

النفري : قلبك أنت
.

فهمان : لكني العقل . ولقد
أدركت الحق بحق، فبنيت الدنيا وصيرت الناس ناسـا.

النفري : فأفسدت الدنيا
وأحلتها ظلاما كثيف الحلكة

ضللت الناس فظنوا أنهم على صواب باسم العقل ” [4
] .

هكذا ينشأ الصراع ويتنامى ببين العقل والقلب، بين الوجدان الذي هو حقل
للنوازع والعواطف ، وبين العقل الذي هو مصدر القرارات الحكيمة. وطعّمه المؤلف بمقتطفات* من مواقف ومخاطبات النفري ، رصد بها ملامح ومضامين مكثفة لشبكة من التداعيات الاجتماعية التي تنفجر بين الفنية والأخرى على شكل تحولات قاسية في سلوكات الإنسانية تجاه أخيه الإنسان. وكأننا هنا أمام صرخة الإنسانية التي تحولت العلاقة داخلها إلى سلوكات تحكمها المصلحة الخاصة والأنانية والتفرد. لذلك انتفت المحبة واجتثت المشاعر الإنسانية النبيلة من قلب الإنسان ، وحلت محلها مشاعر الحقد والعداوة والكراهية والمصلحة الخاصة.

نفسان : (إلى الجمهور) إنها لعبة الهوى
والمصلحة ، انظروا أيها السادة الكرام كيف يخر فهمان العربي أمام هواه ومصلحته ، كلما شبع من شيء رغب في شيء آخر لم يتذوقه . وهكذا كلما تجددت الرغبة تجددت المصلحة . ذلكم هو حال فهمان العربي ” [5] .



وهي سلوكات يرفضها النفري في
مسرحيتنا ، ويدعو إلى إعمال القلب ، لأنه أصل الوصول إلى الحقيقة التي لا يمكن الوصول إليها حسب أدونيس ، إلا بالقلب ” إنما نراه بما نسميه عين القلب ، أو الحدس أو بالإشراق ، أعني بنوع آخر من التجلي المعرفي ، يتطابق مع الباطن اللامرئي ” [6] الذي يستنطق البؤر الداخلية في قلب الإنسان . فالوعي الإنساني يتشكل من مركبين متفاعلين أساسين هما : المعرفة (العقل) والوجدان (النفس والإرادة) . وتشكل المعرفة العقلية في تفاعلها مع الوجدان البنية الروحية للإنسان. لذلك يدعو النفري إلى تسييد القلب ، وإعمال العقل في أمور الحياة .

” النفري : يا صاحب المحبة ، إني
أعلم ما تكابدون وكيف تتألمون .

أعرف أنكم تركبون قلوبكم و تسألون و ترغبون
، لكنكم لا تعملون .

اللصوصية في بلاد العرب هواء ، أصبح الكل يتنفسه
بطريقته ، ولكل لص زبناء ولكل زبون ذريعة وحجة عمياء .

يا صاحب المحبة
اركبوا قلوبكم واعملوا .

واجعلوا العقل عملا والقلب رئيسا ” [7
] .

فالوجدان هو الأساس وله السيادة. ولكن في العقل تصبح القرارات في مستوى
الإاردة. والحقيقة هي تفاعل بين الوجدان والوعي. أي لابد في الاستضاءة بنور القلب من إعمال العقل والفكر، لإخضاع ما يؤمن به الإنسان من حقائق للتطبيق على مستوى الواقع.

أما فهمان ، فهو الشخصية النقيض
opposant . ويرى أن العقل وحده سبيل للمعرفة والوصول إلى الإدراك . ولا مجال للعاطفة في العلاقات بين الإنسان . لذا تمكن من إنتاج عقليـة لاتؤمن بالقيم تطغى على أفرادها الأنانية ، وتعشش في أعماقها مشاعر الحقد والكره ، وأجواء تنشر رعب الدماء وتأتي على الأخضر واليابس . ولعل الإسم الذي اختاره المؤلف لهذه الشخصية (فهمان بن حكيم العاقل) له علاقة إشارية تحيل على محمولها ، إذ كل جزء من هذا الإسم يدل على صفة تنتظم داخل المنظومة الفكرية التي يحملها صاحبها عن وعي . وإذا كان الوعي بالذات يحدد السلوك الإنساني ، ويضبط الفعل وينظمه ، ويؤثر في جميع جوانب الحياة الفردية ، ويسمح للذات بتقييم ذاتها، ” فإن الوعي بالإسم سيكون رافدا من روافد الوعي الشامل بالذات ” [8] .

وهذا النحت في الأسماء الذي يوظفه المؤلف هنا، يعني تحقيق شعارها ليس الآن
فقط، وإنما هو متجذر في الماضي أيضا ، الشيء الذي يجعل فعل العقل قائما منذ القديم ، وممتدا في المستقبل . وهو العقل نفسه – حين ينفصل عن الوجدان وعن القلب – ما أودى بهذه الشخصية وأحالها من حاملة لفكر متوثب يخدم البشرية ، إلى فكر يخدم الجهاز النقيض .

“اللـص : (إلى نفسه) فهمت قول النفري. كان فهمان في السابق من خصوم
دنيا والملك والوزير، وباسم الحال تبدل الحال. أصبح من عشاق دينا، من أصحاب الملك والوزير.

العاشق : كان الناس يرونك المحج والقبلة
.

فهمان : ولا زلت
.

نفسان : وستبقى دائما
.

نـور : خنت الناس باسم حالك وباسم الحال
” [9] .



وهاهو الآن في نعيم السلطة ينتقل من ضمير الشعب إلى
الدبلوماسية ، فيصمت فهمان المستوزر ، ويتأخر رجل الحكمة ، ليتقدم رجل العنف والقوة في غياب الوعي بقيــم الحرية والديمقراطية ، ويشاهد ازدهار عبادة الشخصية في جمهورية الخوف التي أصبح المعبود فيها رمزا ، وراح يعتبر كل نقد لسلوكه خيانة للدولة .

إننا أمام مسرحية ملونة بالوحشة وبالحنان ، وبالعشق كما بالفقد ،
وبصور قلق تتلاطم في مناخات مغلقة لا تبوح بأسرارها للجميع . فالجرعة التجريدية عالية في هذا العمل إلى حد أن استيعابها يستلزم وجود مستوى رفيع من التلقي ، ودرجة من الثقافة تتجاوز الجانب التقليدي المألوف الذي يهيء المشاهد لاستيعاب الدراما . وهي تمنحنا ما يكفي من الدهشة كي نعيد طرق أبوابها دون كلل . وتنتعش في مناخات صراعية وسجالية يتم تصريفها – في النهاية – في شكل ديالوج مسرحي، يجتهد فيه المبدع تبعا لمواجهة مرحلة اختلاط المواقع وتداخل المتناقضات ، فضلا عن السلبية والنكران ، وشوائب الارتحال السطحي التي يمارسها الواقع العربي على الفرد كل يوم .

إن
استدعاء الموروث الديني أو الصوفي ، وتفجيره بمعاني جديدة ومعاصرة ، يحتاج إلى مبدع موسوعي المعرفة وعميق الفهم ، يصل إلى مستوى التفجير الذي يولد لنا لحظة الوعي بالتـراث : لحظة متصلة غير منقطعة في سيرورة ما بين الحاضر والماضي ، تحقق الأصالة الحق في الأثر الإبداعي ، لأن الأصالة ليست تعصبا شوفينيا ولا انغلاقا على الذات ، وإنما هي خيط امتد إلينا من الماضي ، والجسر الذي ينطلق بنا إلى المستقبل . وهي أصالة ترتبط ارتباطا وثيقا بالمعاصرة ، لأن المعاصرة لا تعني التخلي عما أبدع سابقا ، وإنما هي إعادة خلق جديد ، وفق معطيات جديدة ، ولدت في رحم المعطيات القديمة ثم تجاوزتها . وقد توصل المسرح المحلي إلى اللغة التي تحقق له هذه المعادلة الصعبة
عن موقع الفرجة المسرحي .

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية