مواضيع للحوار

العرض المسرحي المغربي سأموت في المنفى ذكرى الوطن كسيرة ذاتية

العرض المسرحي المغربي سأموت في المنفى ذكرى الوطن كسيرة ذاتية

852 مشاهدة

العرض المسرحي المغربي سأموت في المنفى ذكرى الوطن كسيرة ذاتية

 أحمد بلخيري

المصدر: موقع الخشبة

 

إن أردنا ثبت مصطلح (السيرة الذاتية الدرامية) سنجده ينطبق على عرض المونودراما «سأموت في المنفى» للمسرحي "غنام صابر غنام"، الذي قدمه كمؤلف وممثل ومخرج، في رواق "محمد الفاسي" في وزارة الثقافة المغربية. تدل الصيغة الزمنية في العنوان على المستقبل، ذلك أن ضمير المتكلم يتنبأ أن نهايته ستكون في المنفى، هذه الكلمة الأخيرة تعني البعد الاضطراري وليس الاختياري، عن الوطن، هذا الاضطرار هو الذي جعل الذاكرة خزانا لأحداث ووقائع تدل على حنين متأصل لدى الشخصية الرئيسية التي أفصحت في العرض المسرحي عن اسمها الحقيقي، وهو "غنام صابر غنام"، وتاريخ ومكان ولادتها، فالأمر يرتبط هنا بالشخصية الدرامية وليس الشخص.

 

الآليات

 

لا وجود لديكورات أو خشبة مسرحية، فقط ممثل وكرسي وجمهور وفضاء يجمعهم. حيث يتوسط الممثل هذا الفضاء شبه الدائري، فكانت تحركاته للتواصل المسرحي مع الجمهور، مستعملاً لغته الجسدية، الصوت والحركة وملامح الوجه وحركات العينين، وكرسيا له وظائف عديدة، كأن يستعمله قبرا. تبدأ الأحداث فيما يشبه البرولوغ المُمَهِّد لها، كتمهيد للماضي، حيث تخاطب الجمهور الحاضر مباشرة مقدمة له بعض المفاتيح لفهم العرض المسرحي، هذا البرولوغ هو جزء من العرض المسرحي، لكن ما يميزه عن بقية الأحداث هو أنه آنيّ من الناحية الزمنية وليس ماضيا. ولأنه آنيّ فهو ليس جزءا من ذاكرة هذه الشخصية. وهو ما سيتغير حسب كل عرض بالنسبة للمكان والمشاهدين وزمن التقديم، وليس الأمر كذلك بالضرورة لما بعده، وقد تحدث تعديلات أو تغييرات طفيفة في البنية، ولكنها لا تمس جوهر الخطاب المسرحي.

لتوصيل هذا الخطاب، كان لابد من وجود علامات يتم التفاعل من خلالها، أهمها لغة الممثل الجسدية، الصوت والحركة وملامح الوجه وحركات العينين، فقد كانت استدارة الوجه يمنة ويسرة، على سبيل المثال، انتقالاً من شخصية إلى أخرى في أحد المشاهد. ويمكن القول إن هذه الحركات المصحوبة بالتلوينات الصوتية، أضفت على الدلالة المسرحية شحنة عاطفية وبعدا، هذا البعد يظهر كذلك من خلال علامة مسرحية تتعلق باللباس. هذه العلامة هي الكوفية الفلسطينية، التي اتشح بها جسد الممثل، فهي رمز لفلسطين، ولم يكن الاتشاح بها للزينة، بل باعتبارها علامة على الهوية الوطنية الفلسطينية. وكان للكرسي وظائف عديدة؛ فمن الناحية الشكلية، كان الجلوس عليه للاستنطاق الذي يقوم به محقق المخابرات الأردنية تجاه الأخ الأصغر ناصر، أخ الشخصية الرئيسية، فيما يمثل حالة الاستراحة بالنسبة للأب في حديقته، أما وهو محمول على الظهر فيوصف بأنه حقيبة سفر، وموضوع وفق شكل معين على الأرض يعدّ قبرًا يضم رفات المتكلم. كان الزمن حين استُعمل الكرسي على هيئة قبر زمنًا استباقيا لم يدخل في عداد التاريخ بعد. الكرسي إذن باعتباره علامة سيميائية تتغير وظائفه انسجاما مع سيرورة الأحداث في العرض، لهذا تعددت معانيه. وبطبيعة الحال، فالفضاء يتغير حسب تغير وظيفة هذه العلامة السيميائية، إذ إن فضاء الاستنطاق ليس هو فضاء الاستراحة، وهذان الفضاءان ليسا المطار الذي يرمز إلى السفر. ويبدو أن متابعة المتكلم، الشخصية الرئيسية، لأحداث وطنه وإدراكه لتعقيدات القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي، جعلته ييأس من العودة إلى الوطن الحر المستقل غير المستَعمَر وهو على قيد الحياة، من هنا جاء العنوان «سأموت في المنفى» يختزل في حد ذاته عمق مأساة الشخصية الرئيسية ومدى تعلقها بوطنها.

 

البنية

 

في هذا العرض ثمة حكاية رئيسية هي حكاية الشخصية الرئيسية، أي غنام صابر غنام، تفرعت عنها حكايات صغرى، بالمعنى الفني، تتقاطع معا. الحكاية الإطار هي الأصل، والحكايات الصغرى فروع. سبب اعتبار هذه فروعا وتلك أصلاً هو أن هذه الحكايات الفرعية استدعتها ذاكرة الشخصية الرئيسية لنسج حكايتها. مرد هذا التقاطع هو أن للشخصية الرئيسية أسرة وعائلة وجيرانا. زد على ذلك أنها، أُبعدت قسرًا عن وطنها، حيث عرفت حياة المنفى. ولأن الأمر يتعلق بسيرة ذاتية مسرحية، فإن مادة الأحداث المسرحية تشكلت مما له علاقة بالأسرة والعائلة، والجيران والوطن، وحياة المنفى التي كان أول مؤشر عليها في العرض المسرحي هو المطار. ولكل حكاية صغرى سياقها وظروفها الخاصة، فعلى سبيل المثال، يختلف سياق الحكايتين الصُّغريين وظروفهما ومحتواهما فنيا، الخاصتين بفهمي وناصر، عن حكاية الأب صابر والأم خديجة، وكذلك الشأن بالنسبة للمحقق.

وتم تقديم الأحداث عبر تقنيتي السرد والتشخيص؛ ففي إطار السرد كانت الإحالة على تواريخ عديدة، منها ما يتعلق بزمن الولادة وزمني النزوح واللجوء، غير أن العرض المسرحي، انطلاقًا من ثنائية النزوح/اللجوء، كشف عن مؤامرة كانت مدبرة منذ البداية، أي منذ سنة 1948 سنة النكبة. ذلك أن أسرة الشخصية الرئيسية تم إبعادها قسرا، من كفر عانا إلى أريحا في التاريخ المذكور، أي أن هذا الإبعاد القسري كان داخل الوطن. لكن رغم أنه داخل الوطن فقد أُطلق على النازحين قسرا اسم «لاجئين». لاجئون داخل وطنهم! بعد هذا الإبعاد القسري بسبع سنوات، وبعد النزوح من كفر عانا إلى أريحا، كان ميلاد الشخصية الرئيسية أي سنة 1955. هذه الأزمنة تتعلق بشخصيات محددة مذكورة في العرض المسرحي، من شدة تعلق الشخصية الرئيسية بالموطن الأصلي، وهو كفر عانا، الذي ولد وعاش فيه أبوه قبل النزوح، وقبل ميلاد الشخصية الرئيسية (غنام صابر غنام) ردت هذه الشخصية، أي الشخصية الرئيسية، اسم عانا إلى الإلهة أنات. ومنها ما يتعلق بأحداث تاريخية عرفتها فلسطين والقضية الفلسطينية في القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة. من هذه التواريخ الأخيرة وعد بلفور (2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917) وتدخل الملك عبد الله الأول في قضية القدس. مدينة القدس التي قدم العرض المسرحي معلومات عن مكونات بشرية فئوية فلسطينية نزحت إليها من مناطق فلسطينية أخرى، واستقرت بها بعد احتلال تلك المناطق، وكانت لأوصاف هذه الفئات وظيفتان دلاليتان مختلفتان؛ فهي تبين – من جهة – المكانة الاجتماعية العليا لتلك الفئات الاجتماعية، وتبين كذلك موقف الشخصية الرئيسية منها من جهة أخرى. في هذا السياق المرتبط بأحداث تاريخية تتعلق بفلسطين، قدم العرض تعليقًا يكشف عن موقف سياسي واضح ذي بعد وطني، يتجلى هذا في تعليق الشخصية على إبرام اتفاق بين الملك عبد الله الأول، ملك الأردن في ذلك الوقت، مع وزير خارجية الكيان الصهيوني إلياهو ساسون. وينص هذا الاتفاق، حسب العرض، على الموافقة على استقرار تلك الفئات الاجتماعية في القدس. كان تعليق الشخصية الرئيسية على هذا الحدث هو أن العرب يميلون إلى التكتيك، ولكن بدون استراتيجية، تعليق يفيد ضمنا بأن المحتل يجمع بين التكتيك والاستراتيجية. تختلف مسارات كل الشخصيات التي تم استحضارها عبر الذاكرة، التي تم تقديمها عبر تقنيتي السرد والتشخيص، كما يختلف مسار الشخصية الرئيسية عن بقية المسارات الأخرى. ولتبئير شخصية الأب كان التركيز على اليوميات وبالضبط على 15 يوما الأخيرة من حياة هذه الشخصية. في اليوم الأخير مات الأب احتراقا، وللاحتراق في العرض المسرحي مدلولان مختلفان، مدلول مادي يتعلق بفعل الاحتراق الحقيقي الذي أبرزت سببه حركة يد الأب الجالس على كرسي في الحديقة، ومدلول مجازي يتعلق بالمأساة، إنه احتراق وجداني. لذلك كان الانتقال من المدلول الأول إلى الثاني إمعانًا في الكشف عن عمق المأساة. وفي المسار الخاص بشخصية الأخ توجد «الجبهة الشعبية» و»حركة القوميين العرب» إذن يوجد تكوين سياسي لدى هذه الشخصية، جعلها تعي وتدرك ملابسات القضية الفلسطينية والظروف المحيطة بها داخليا وخارجيا. فكانت المراقبة والمتابعة الأمنية من لدن الشرطة الصهيونية.

 

المنفى

 

لا تُعدّ بلدان المنفى بديلاً عن الوطن، الذي عوَض أن تستقر فيه الشخصية الرئيسية وتمتلك أوراق ثبوت هوية فلسطينية، كسائر البشر، استقر هو في ذاكرتها، استقرارا مصحوبا بالمعاناة، تكشف عنها بوضوح ملامح الشخصية الرئيسية، وحركاتها، والنبر، واللغة اللفظية، بعد أن تمكنت من زيارته في سياق زمني مغاير. ليست هذه كلها هي فقط التي كشفت عن مدى التعلق بالوطن، بل ظهر هذا التعلق حتى في ذكر عدد محدد يتعلق بدرجات سلم المنزل، والحديقة، والأشجار، وهذه كلها كانت حافزا لإنعاش الذاكرة، هذه التفاصيل لم تُمح من الذاكرة رغم الإبعاد القسري عن الوطن.

وطن يسكن في ذاكرة الشخصية الرئيسية عوض أن تسكن فيه هذه الأخيرة، وهي مجبرة على ذلك، هي مجبرة أولاً لأنها ولدت بعد سنة النكبة أي سنة 1948 بسبع سنوات، ثم بسبب ضغط الأحداث. إن عدم نسيان الوطن لا يوجد فقط في ذاكرة الشخصية الرئيسية، وهي ذاكرة بشرية حية، ولكن يوجد في ذاكرة المقبرة داخل فلسطين المحتلة وخارجها؛ ففي خارجها، أي في أرض اللجوء، كانت شواهد القبور تشير إلى قرى وبلدات ومدن ولد فيها فلسطينيون قبل أن يرحلوا عنها ويموتوا ويُدفنوا في أرض اللجوء. في هذه المقبرة توحدت فلسطين، على المستوى الرمزي، إذ في هذه الشاهدة كُتبت حيفا، وفي هذه يافا، وهكذا دواليك. وفي داخلها حرصت إحدى الشخصيات (إميل حبيبي) على البقاء في حيفا، رغم الاحتلال، وقد أوصت هذه الشخصية بكتابة «باق في حيفا» على شاهدة القبر. ظهر جليًا تعاطف الشخصية الرئيسية مع هذه الأخيرة من خلال التشديد الصوتي في نطق «باق في حيفا» وحركة اليد والأصبع التي تؤكد على البقاء. فمقاومة النسيان والسرقة، نسيان وسرقة الوطن المحتل من لدن الاستعمار الصهيوني، تكون عبر الذاكرة البشرية الحية، وكذلك عبر شواهد القبور. تضاف إليهما مقاومة من نوع آخر أشار إليها العرض المسرحي. هذه المقاومة الأخيرة تكون عن طريق الكتابة والإبداع، وهذه هي وصية أدوارد سعيد التي أشار إليها العرض المسرحي. في هذا الإطار، ذُكرت في العرض المسرحي أسماء مثقفين فلسطينيين قاوموا، من خلال الكتابة والإبداع، الاحتلال الصهيوني ومنهم: محمود درويش، وغسان كنفاني، وجورج حبش، وناجي العلي، ووديع حداد، وتوفيق زياد.

ومثلما تعددت الفضاءات المسرحية في مجمل الأحداث والمتواليات المسرحية، تعددت كذلك الأزمنة المسرحية، وهي الماضي والحاضر والمستقبل، يتعلق المستقبل بما بعد موت الشخصية الرئيسية. فغنام صابر غنام يجسد شخصية ابنه وهو يؤبنه، بعد أن ووري «جثمانه» الثرى (بعد عمر طويل). لكن الزمن الماضي هيمن في هذا العرض المسرحي مقارنة مع الزمنين الآخرين أي الحاضر والمستقبل. ليصبح التاريخ هو مصدر المادة الحكائية، تاريخ شخصية يتقاطع مع تاريخ وطن هو فلسطين.