مواضيع للحوار

العيادة المسرحية ومقاربات الفلسفة الدكتور جبار خماط  حسن

العيادة المسرحية ومقاربات الفلسفة الدكتور جبار خماط حسن

1276 مشاهدة

الهيئة العربية للمسرح  مقالات 

 

 العيادة المسرحية ومقاربات الفلسفة الدكتور جبار خماط  حسن

 

يعرف " ارسطو " مفكر دولة المدينة، مزاج المواطن اليوناني، وحبه للديمقراطية ، فانتبه إلى، أن الفن أقرب إلى تلك الروح الايجابية التي تجمع المواطنين، فانتج لنا كتاباً يعد مفتاحاً للمواطن الصالح، الذي يعمل الفن الدرامي على تطهيره من نوازع الاخطاء المأساوية، التي قد تمزق النسيج المجتمعي، بسبب اخطاء بعض الافراد.

إن الدراما تصنع حياة ايجابية من بين الصراعات السلبية التي تعمل في داخلها؛ ولذلك لا مكان للشفقة والخوف على مصائر الناس التي تعمل على تهديم روح المواطنة في المدينة. لقد اوجد لنا "ارسطو" في كتابه فن الشعر، بعداً علاجياً منهجياً، يصنعه النظام ويسعى اليه بالفعاليات الاجتماعية، ومنها فن المسرح، لأنه طاقة ايجابية يحتاجها الشعب. ويمكن القول ان "ارسطو" حين وضع  تعريفه الشهير "للتراجيديا"، بانها محاكاة لفعل نبيل، فانه بهذه الكلمات قد لخص منظورا "ارسطو" و"اقلاطون" على حد سواء، اذ نجد "ارسطو" يقول كل شيء نافع هو جميل، وهذا يتطور في درجته، وصولا للأفعال الاخلاقية، التي تكون نافعة في تدعيم النسيج المجتمعي، وبالتالي ينبغي ان تكون نبيلة برأي افلاطون الذي رأى، أن ما نراه في حياتنا اليومية، قابل للاندثار والفساد، ما عدا تلك الأفعال التي في جوهرها، نصيب من الحق الاخلاقي الذي يتفاعل معه الناس وتحترمه، ولهذا نقول ان الفعل النبيل لدى "ارسطو"، حاصل جمع الخير "السقراطي" النافع اجتماعيا، بالحق "الافلاطوني" الاخلاقي، الذي لا يصل اليه الا من امتلك القدرة على تجاوز المحدود، والدخول في نوع من التميز الانساني، ولهذا، قال "ارسطو" أن منطقة الدراما، ما ينبغي ان يكون، وهنا يكون رأي "ارسطو" متمحورا حول خطاب الدراما في افق المستقبل الذي يتماشى مع الدهشة واللامألوف. يمكن القول ان "أرسطو" اقترب من البعد العلاجي الذي تسعى اليه العيادة المسرحية، التي تسعى إلى فعل تكويني يقترحه المعالج، يكون قابل للتداول مع تنوع الزمان والمكان.

إن العيادة المسرحية تمثل مقترحا علاجياً لهموم الناس فالوطن، اثبت نجاحه بالتجربة، وبرهن على ارادة الانسان وقدرتها على صنع مستقبل جديد، يغادر الماضي، ويؤسس من حاضر التجربة العلاجية، مستقبلا قابل للتداول بين الناس، يمثل المجتمع "العراقي" بطبقاته ومكوناته، طاقة العيادة المحركة التي تبني بالابتكار والقدرة على صناعة مستقبل جديد، تصنعه العيادة المسرحية.

لقد اوجد لنا الفيلسوف " شوبنهاور "  تفسيرا للوجود والانسان ضمن مفهوم العالم إرادة، اذا مثلما هناك ارادة قاسية وعمياء تخلق الفوضى في العالم، من حروب ومجاعات وتهجير، ثمة إرادة الإنسان، التي تعيد التناغم الموجود في الذات والمحيط. لذلك حين نواجه الحياة الاجتماعية بالبحث والتحليل، نجد انها تعيش ثلاثة معوقات، فكرية وسلوكية وتواصلية، العيادة المسرحية مقترح علاجي لها، قابل للتطبيق، يهدف إلى إنتاج عروض مسرحية لها; القدرة على التداول والتفاعل; مع الجمهور باختلاف المكان والزمان، ولهذا نجد فكرة العيادة المسرحية، تقوم على معادلة الذهاب الى الجمهور في الاماكن التي تعاني ازمات، يراد حلها، بطرق تتكفل بعلاجها والتخفيف منها قدر المستطاع، مثل السجناء والمدمنين ومصابي السلاح الكيمياوي، وغيرها من الحال; التي ستذهب اليها العيادة، وإذ نُسأل ، من هم الممثلون؟  وكيف يمثلون؟  واين يمثلون؟ الجواب ، هم اولئك المنسيين والذين يعيشون على هامش الحياة، يعانون قسوة الظروف التي حولتهم الى بشر – بنظر الاخرين – لا يمكن الاتصال بهم، بل واجب عزلهم مثل السجناء والمدمنين !!

العيادة تتجاوز هذه النظرة النمطية، وتعيد الثقة بهم، وتتواصل معهم، وتحولهم الى مبدعين !

كل هذا يحققه فن التمثيل، الذي يتطلب مهارات وقدرات صوتية وجسدية، فضلا عن الخيال والتركيز والاسترخاء، واكتشفت العيادة المسرحية، في تجربة السجناء والمدمنين، ان المشاركين يؤمنون بالتمثيل ويتفاعلون معه، لانهم يكتشفون انفسهم من جديد، وهذا يتطلب منهم الارادة على صنع خبرة مستقبلية، يقومون بتأليفها، وهذا يعني، تحفيز قدرة الابتكار لديهم، بمعنى يصنعون بخيالهم وتصوراتهم عجينة المستقبل المسرحية، يؤلفون نصاً من واقع حياة الناس وليس حياتهم، يقدمون خبرة جديدة للناس من خلال عرض مسرحي، يقومون يتمثيل شخصياته المسرحية، وهنا يتحول المشارك في العيادة المسرحية؛ الى قائد رأي مسرحي، وقد يسال احدهم، ماهو النص الذي يمثله المشارك في العيادة المسرحية؛ هل يكون جاهزا، أم مكتوبا سابقا؟ قطعا لا، النص يكتب بطريقة جماعية، السجناء كتبوا نصا، والمدمنون كتبوا ايضا؛ كذلك مصابي السلاح الكيمياوي، كتبوا نصا مسرحياً، تفاعل معه الجمهور، حين مثلوا في مسرحية  "أنا موجود" في قاعة مديرية صحة "حلبجة"، لانهم لأول مرة يروا اخوانهم واصدقائهم من المصابين، يمثلون بمهارة، ويقترحون حلولا لبعض المشكلات التي يعانون منها. ان الفيلسوف الالماني "هيغل " أشار الى عودة الذات بعد ضياعها، في زخم وتراكم الاحباطات بسبب اكراهات الواقع المأزوم، لان الانسان له القدرة على ابتكار واقع جديد، من خلال جدلية الاضداد بين الوعي و الوجود، انه محاولة اكتشاف الذات في حالة جديدة، يتفاعل معها الجمهور، وكأنها خبرة جمالية تحدث في الهنا والان، تحقق تواصلا فاعلاً مع الجمهور .

 

تسعى العيادة الى ايجاد الممثل الحميمي في مختبرها العلاجي، يمتلك التعبير اليسير، الذي يتفاعل معه الجمهور، الممثل في العيادة المسرحية هو الموجود في كل مكان، يأخذ بصدق جرعة التدريب، وينتمي الى مستقبل، يصنعه علاجيا، يبدا من الذات وينتهي بالآخر، يؤدي بتلقائية وانتماء للحياة في تيارها المتنوع، نجدها لدى المشارك في العيادة المسرحية، لينتج عرضاً مسرحياً، لا تعقيد فيه ولا مبالغة مفتعلة، بل مزج عضوي بين صدق الاداء، وتواصل الجمهور معه.

 

لان العيادة لها فرضيات تحدد مسار اشتغالها مع المستفيد، والتي تتمثل بالاتي :

 

  1. لا تتكلم من دون معرفة، ولا تكون لديك معرفة من دون فهم .
  2. التعبير طاقة لدى الجميع ، نتقنها بالإيمان والمثابرة.
  3. الجسد ثقيل، يكون مرنا حين تكون الطاقة الايجابية عالية.

ان للعيادة المسرحية عناصر اساسية، تتحرك بوساطتها نحو التفعيل الجمالي المشترك الذي يستقبله المستفيدون منها، باطار المعرفة والشعور والاداء الجديد في حياتهم، ويمكن حصر العناصر المكونة للعيادة المسرحية بالاتي :

  1. المعالج المسرحي : وهو مدرب مسرحي في العيادة المسرحية، ويشترط فيه قدرته على التأليف والاخراج والتمثيل، حتى يكون مقنعا ومؤثرا في تواصله مع المشاركين في العيادة المسرحية.
  2. المستفيد : هو المشارك في العيادة المسرحية من الحالات التي تسعى العيادة المسرحية الى علاجها.
  3. الجرعة المسرحية : هي مجموعة من التدريبات الصوتية والحركية وقدرات ابتكار النص المسرحي، فضلا عن التمثيل المسرحي.

4- الممكنات الموقفية : تشمل مفردات البيئة التي تجري فيها التدريبات، وامكانية استثمارها في العرض المسرحي الذي يكون في نفس مكان التمثيل. وهنا يمكن إثارة استفهام يختص بالمسرح العلاجي، هل يكون ضرورياً في وقت الازمات والحروب ؟ المسرح العلاجي له طرقه وادواته، منذ ارسطو في مفهوم التطهير وتقنياته في التخلص من الاثار السلبية التي تمر بها الشخصية الدرامية، كذلك قدم لنا المفكر "ديدرو"، مفهومه عن التطهير العقلي الذي يسمح لنا بالمراقبة والمتابعة العقلية لما يجري من الاحداث على خشبة المسرح. ثم جاء الطبيب "جاكوب مورينو" في "فينا"، وقدم لنا ( السايكودراما ) التي طبقها في مصح للأمراض النفسية، اذ قام بمحاولة معالجة بعض الامراض النفسية، مثل القلق والمخاوف المرضية، وبعض حالات الكآبة، اذا يحاول ان يمثل حالة المريض واسترجاعها امامه، من قبل بعض الممثلين المحترفين، ومساعدة بعض المرضى، لكنه وجد ان استرجاع حالة المريض التي تمثل ماضي مخزون في ذاكرة المريض، تؤدي الى تعزيز حالته المرضية. ولذلك تجد العيادة المسرحية ان تمركز المسرح العلاجي حول ماضي الخبرة المتراكمة من دون تحويلها الى خبرة جمالية جديدة، قد لا تحقق العلاج الجمالي الذي تسعى اليه العيادة المسرحية، بل ينبغي فتح نوافذ فكرية وجمالية للمشتركين، حتى تتم تلك النقلة الابداعية من السلبي الى الإيجابي، وهنا تتحقق فرضية المسرح في تعزيز الثقة المجتمعية وبناء التواصل الايجابي بين مكونات المجتمع.