أخبار أدبية

القاصة سماح حكواتي .. شكراً لقسوتهم ..

القاصة سماح حكواتي .. شكراً لقسوتهم ..

1963 مشاهدة

 

شكراً  لقسوتهم

ثقافة – الفداء 13791
الاربعاء : 11-11-2009

سماح حكواتي

ذبلت فراشات الأمل في عينيها اللتين  كانتا تقفزان درجات المصرف برشاقة، وها هي الآن تسحب ماتبقى من صغير أحلامها على  الرصيف المجاور، في محاولة يائسة لبعثه من جديد.

تآخت وأحلامها  منذ أمد بعيد، حتى بات هذا الأخير خير مؤنس لها في حوارات الأزقة والشوارع، والنهر  والوادي... وكل ما هو أليف للروح ومبهج لها.‏

أمسكت بكفه «كف  حلمها» وسارا معاً في صمت رهيب، لم يتكلم أي منهما، إثر خيبتهما في الحوار مع مدير  المصرف الذي رفض طلبها المقدم يسعى لها لائباً عن فرصة عمل متواضعة في مصرفه، رفضاً  قاسياً ماكانت أحلامها الرهيفة أهلاً لتحمله.‏

لم يتجاذبا  أطراف الحديث كعادتهما عن نوافذ مشرعة بانتظار الأمنيات، فقد كان كل منهما ساهماً  بالاستجابة إلى نداء الآهات في شهقات الآخر، عاجزاً أمام دموع غزت العينين بغزارة  وسرعة، لم يبكيا، لكنهما فعلا حقاً.‏

مشت طويلاً،  لاتذكر أين، ولاتذكر الوجوه التي مرت بأحلامها المضيعة، إذ لم تمعن النظر هذه المرة  في عيون الصغار الضاحكة، ولم يعترها فضول الفرح بالياسمينة التي اعتادت ملامسة  رأسها قرب منزلهم كلما مرت بها في الذهاب والإياب، لم تكن تمتلك من اللهفة مايعينها  على رد التحية بأفضل منها، فلم ترفع يدها مداعبة الأوراق والأزهار العطرة الحانية،  إنما اكتفت بالنظر إلى الأزهار الذابلة التي تساقطت منها على الأرض، فابتعدت عنها  كي لاتكون أقسى من يدوس أليفاً قديماً.‏

أوصدت في وجه  أحلام ابنة العشرين ربيعاً ونيف أبواب عدة، إلى أن وصلت بها سفن اليأس حد الإشفاق  على هذه الأمنيات من ثقل ماألحق بها، إذ إن كلمة «لا» لم تعنِ لها شيئاً طوال  حياتها، ولازالت كذلك، لكن الطريقة التي غلفت بها جعلتها أقسى ماتوصل إليه ذهنها  الصغير، الذي لم يمتلئ إلا مُثلاً وقيماً سامية، وحباً بالخير وأهليه ... وأحلاماً  تواصل نموها يوماً بعد يوم.‏

منذ ذلك اليوم،  لم يتوقف لسانها عن ترديد مقولة السياب في غربته «الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على  الأصيل» فتتابع قراءة ماتبقى من كلماته حتى تصل إلى قوله: «لمَ يملأ الفرح الخفي  شعاب نفسي كالضباب؟»‏

حاولت تقليب  الكلمات، لنبش معانيها، أو للعثور على تفسير لهذا الفرح الخفي، كأن كل روح تحتاج  فرحاً خفياً، تفيء إليه كلما جثمت على الأصيل... بحثت في دفتر الذكريات الصغير عن  هذا الفرح الخفي، وجدت صوراً لأب بسيط يخرج إلى العمل مع أذان الفجر، وأم تلهج  بالدعاء، لم يكن ثمة مايفرح في شريط حياتهم المثقل بالمتاعب، لكنها على الرغم من  ذلك تشعر بالفرح، أوغلت في الصور، فطالعت وجهاً تعرفه جيداً، كان بعيداً لايكاد  يبين، لكن نوراً ينبعث منه جذب ناظريها، فبدا لها أكثر اقتراباً، لا بل في متناول  اليد، عثرت في كفيه على صندوق ملون كانت قد خبأته يد الطفولة في ظلال شجرة من أشجار  الحديقة القريبة، فقد تعاهدت وأترابها ألا يفتح إلا بعد عشرين عاماً، ليعرف كل منهم  مااستطاع أن يحقق من أحلام كبيرة دونها على قصاصة من الورق الأبيض، وأودعها تراب  الأرض عند جذور أكبر شجرة في الحديقة كلها... فتحت الصندوق، عرفت ورقتها بسرعة،  تناولتها بكف مرتجفة قرأت فيها بخط متعثر: «أريد أن أشتري دكاناً من الحلوى، كي  أوزع على أطفال الحي جميعاً مايحبون، لا كما يفعل أبو سعيد صاحب الدكان التي يتردد  الأطفال في دخولها..»‏

سرعان مااختفى  الصندوق الملون، مخلفاً لديها مساحة واسعة للتأمل فيما صنعت وستصنع، فكل فرح خفي  يترافق مع حلم صغر أو كبر، ولازال أمامها الكثير من الأمنيات والأحلام التي تنتظر  طريقها.. فقد تذكرت الرداء الأسود الفضفاض، الذي لطالما زاد مرتديه من أقرانها في  الجامعة بهاءً، كانت أحلامها غافية هناك، حثت الخطى، مباعدة مكاناً صغيراً  لخطواتها، بين أدوات النفي الكثيرة، تلتمس درباً جديداً تطمئن إلى سير أحلامها فيه،  درباً يانعاً تعلق الأمنيات على أغصانه، تهلل فيه للياسمينة إذ تلامس رأسها، وتفرح  بأزهارها إذ تسّاقط على وجنتيها، فتزيد الثوب الأسود الفضفاض بهاءً وإشراقاً، في  ذاك اليوم بكت كثيراً، كانت أحلامها ماثلة بين يديها، لم تكن تعرف أن الأحلام  ترانا، ونراها، تشير بإصبعها المذهب إلينا، فتعرف دربنا ونعرف دربها... مرت بها  الوجوه القديمة مقطبة يتوسطها وجه صاحب المصرف، عندئذ ابتسمت، ملوحة لكلمات قست على  الحلم الرهيف يوماً، فجعلتها تقتحم دربها بين الدروب الموصدة، لاهجة بالدعاء لهم  تارة، وبالشكر لقسوتهم تارة أخرى.‏

 

التعليقات

  1. Image
    شكراً على هذة الجهود مع خالص تمنياتي لك بالتوفيق والمزيد من النجاحات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية