دراسات أدبية

القاصّــة  فـداء ســلــوم   من سوريا استلهـام من تراث القـــدامــــى

القاصّــة فـداء ســلــوم من سوريا استلهـام من تراث القـــدامــــى

603 مشاهدة

القاصّــة  فـداء ســلــوم   من سوريا استلهـام من تراث القـــدامــــى

#استحضار للزمن الجميل وعبق الذكريات

#استلهـام من تراث القـــدامــــى

#بـقـلم  _عباسية _مدوني _سيدي _بلعباس _الجزائر

#حينما تكون الكتابة ملاذا ومصدر أمان، ولما تغدو مصدر إحتواء واستحضار لذاكرة شاهقة وذكريات شفيفة، ننسج من خلالها زمنا جميلا ونحيك للجيل القادم موعظة وحكمة، ونحن نستحضر الزمكنة والعادات والتقاليد حتى نصوغها وفق نبض حكائي بروح عميقة ورؤى أكثر عمقا ونضجا، كما أن الكتابة تتّخذ أساليبا عدّة، أين يمتلك  الكاتب جميع الأدوات للإبداع، ومن ذلك ينتقي ما يناسبه وما يطمح لإظهاره وتحقيقه إزاء المتلقّي، ترجمة لأفكاره وتشريحا للواقع، وحتى استحضارا لزمن ولّى  ضمن نسيج من الطّرح الهادف، وكل ما يعتريه من أحاسيس ومشاعر.

  كل هذا، يحقّقه الكاتب ضمن المسار الذي يختاره ويرضيه، وهذا ما نلمسه لدى الكاتبة القاصة التي اتّخذت من السرد منهجا وأسلوبا، إنها السيدة " فداء سلوم " من دمشق، سوريا، وتحديدا من محافظة حمص وقرية اسمها عيون الوادي، هي من خرّيجي شعبة المحاسبة من كلية الاقتصاد سنة 1990 م، شغلت منصب محاسبة بإحدى مؤسسات التأمينات قرابة الست ( 06 ) سنوات، لتتفرّغ بعدها لوظيفة الأمومة وتربية الأولاد ومرافقتهم ضمن مشوارهم الدراسي والأكاديمي ما ينيف عن العقدين، لأكثر من عشرين (20 ) سنة.

    السيدة " فداء سلوم " اختارت السرد ملاذا لها كأسلوب كتابة قصصيّ، من خلاله تحيك الذكريات وتستحضر الذاكرة وعبق الماضي، وتؤثث من خلال ذلك للحاضر والمستقبل ضمن قصص مستمدّة من جوهر ذكريات الطفولة والصّبا، لتصوغها بأسلوب سلس وممتع وبأكثر مرونة، محترمة تسلسل الأحداث وأبعاد الشخصيات، مشرّحة واقعها وسلوكياتها ضمن قالب المعنى بانسجام متناه ومتعة للقارئ، المتلقي الذي غالبا ما يستمتع بين سطورها وهي تسترسل في تكوين القصّة وتعرية جلّ الأحداث بها والمواقف التي لا تخلو من أبعاد الجمال والحب والإنسانية.

   من خلال سردها تتلاشى حاجة المتلقي للاستفسار والشرح، كون أسلوبها مرن مرونة الطرح، وسلس سلاسة توالي الأحداث، وممتع متعة الطرح مانحة نصّها السردي قوّته وقالبه وتأثيره ضمن صيغ اختارتها لتكون منقوشة بالحرف كتابة وهي حُبْلى بالصور والدلالات والإيماءات.

   تكتب وهي تنتقي مفرداتها بدقّة، مستحضرة عبق الماضي، مؤثثة لغد قريب، مستلهمة من تراث القدامى، مستخلصة الأجمل من بستان الأمومة، ناسجة زمنا جميلا من الأحلام والآفاق والطموحات ، كونها ممّن يحنّ لطفولتها بالقرية، وشجرة التوت التي ظللتها ردحا من الزمن، وحضن الجدّة الذي احتواها وقصائدها التي ارتوت من نبعها، حيث كلّما ضاعت منها " فــداء " ارتحلت مجدّدا للزمن العتيق، وهي تحتفي بذات السارد داخلها وبهاء الذكريات حفظا للذاكرة، والذاكرة الجماعية.

    في سردها ثمرة عنايتها بالفكرة، موجّهة بل ناسجة في كل قصة بعدا إنسانيا محضا، محقّقة المتعة، مانحة معان حقيقية لفحوى كل سرد من قصصها، وكأنها تمزج بين الشعرية والأسلوبية في الطرح السردي إذ نلفي جمالية وشاعرية تتوازيان و حدود ذاكرة عذريّة، ضمن معمار حدّدته هي وفق شغفها وحنينها وأملها، مانحة من خلال كل سرد وأقصوصة نمطا معينا من البوح، متهيئة رحلة ممتعة من التفاعل والتأثير ، محتفية بالمخيال الذي يسكنها بأثر عميق ولغة وثيقة، على مضمار أو تقنية الميتا لغة، محتفية بالأسطورة واقعا، مقدّمة إسقاطات تتّسم بالإيحاء والنضج وفق حيز دائري ، يكون ضمنه المتلقي شخصيات مشاركة وفاعلة، شخصيات مستوعبة للأحداث سواء أكانت  شخصيات رئيسية ، محورية أو حتى ثانوية ،هناك تكمن قدرتها  كساردة  ومدى تمكنها من أدوات السرد، متأبّطة تقنية  الفعل ورد الفعل محققة التفاعل والانصهار وحتى التواطؤ مع الأحداث والشخصيات والموضوع .

وههنا ، اخترنـا أنموذجين إثنين من مجموعة قصصها السردية ، والتي تعدّ ملهمة وذات أبعاد  :

1/  القصـة الأولــى :    ستي وشابورة الصابون

 أمسكته ورميته على الصخور المائلة  للفراغ تحت بيتها،

وإذا بالسماء تزلزل، والأرض تهبط من شدة صوتها الرخيم !

لم أصدق قصة أبي  بأن صوت والدته كان يصل لمشتى الحلو!

ونضحك ... وقد يصل صوتنا نحن أحفادها من عيون الوادي ضيعتنا للضيعة المجاورة لنا المشتى ، فالوراثة لها حقها !

ويقسم المرحوم أبي أنّ  الحبال الصوتية لأمّه  أقوى من أيّ هاتف ،  فكان يرن معلنا "شمس المغيب "

إن  تأخر بالحواكير الأراضي الخضراء ، بترابها المبارك المبلل بسواقي الماء ، رائحة ذلك التراب لا تزال عالقة بقلبي وبأنفي، ولاسيما الوحل الملتصق على جزمة أبي، بعد عودته من سقاية شجر التفاح وعرائش العنب وشجر الخوخ والإجاص والرمان والتين، وخطواته الجميلة القوية تتبختر فوق بلاط صالون أمي...

 وتلك الخطوات الموحلة تدور بين غرف البيت المبني بعرق الطبقة الكادحة صاحبة المصلحة الحقيقية الممثلة بأمي وبأبي؛ وتصرخ لتتفوق على صدى صوت حماتها الرخيم

ولا أعلم ان كانت النوايا ان تسمع (ستي) صوت كنتها القوي

المعلن تمرده على ابنها الحبيب ،

هدأتها وخفضت صوتي وسألتها :

ستي يا ستي كيف حالك يا ستي ؟ لم تزمجرين ؟!

 لقد خلصت خزانتك من كيس بقايا صابون الغار الاخضر ، وبقايا صابون حياة الأبيض ،  وبقايا صابون منظرها مضحك!

قطع مدورة أكل الزمن عليها وشرب لا تنفع لشيء !

لم تخبئينها ؟

وكم سنة احتجت لتجمعي هذا الكنز الغريب بروائحه المقززة ؟

ويتطاير الشرر الحنون من تلك العيون الرمادية الجميلة

ويجيبني صوتها الهادر الواصل لقلعة صافيتا من غضبه :

( هدول شوابير الصابون ) المباركة

كيف ترمين نعمة الله ؟

من بركات النعمة ...أصنع ألواح صابون!

أنقعهم ليرتخي زيتهم ، ثم أعجنهم ، وأرتب العجينة وأقسمها لعدة قطع ، وأجففها يومين بالهواء والشمس ،أنا اصنع الصابون من بقايا كل شابورة !

وأعيد الفرك (والتصوبون ) فيها ...

وأضحك مما يزيد غضبها، وأغيظها رائحة صابونك بتقتل!

هاد صابون هاد !!!!

هاد كيماوي لقتل الأفاعي والعقارب

الآن ستي يا ستي

بدي خبرك ستي قبل ما ينقطع الخط وينقطع صوتي

نحنا بحظر يا ستي وبمنع تجول

واتسكر باب البحر ...

واتسكرت الأرض ...  واتسكرت أبواب السماء  !!!

على الساعة السادسة  منضل بالبيت ومنبلش" تصوبون"

رح  يخلصو صابوناتي يا ستي ...  دابوووو الصابونات

من خوفنا من الكورونا لا تسأليني شو هيه !!

يمكن بتشبه الهوا الأصفر يلي لفحكون من 100 سنة .

لا تزعلي يا حنونة

يمكن اضطر انزل ع الصخرات لملم شابورة الصابون

يلي رميتا ....يمكن اعتازا  وأنا مسجونة بالبيت ...

ستي ...  ستي ... أنا حفيدتك ووارثة منك بس قوة صوتك

صوتي رح عليه مو ليوصل للمشتى... ولا لصافيتا ..

بدي يوصل للسماء .............يا رب حن علينا.. .

 

       2/  الـقصـة الـثـانيـة :     " باصرة " أي " لعبة الورق"

 

باصرة ... باصرة ... غلبتك با ستّي

لـيــش ...

وتصر أنني اغش وتصر انني ( اتزوغل عليها)

وتحمر عيناها الرماديتان وتلقي بورقها( بالسهلة)

على شرشف سريرها الخشبي العتيق، المتألم من دق المسامير بجوانبه وبمنتصفه، ليبقى متحملا "قفزاتنا ،ومعاركنا الصغيرة فوق جبهاته ، ما أجمل ذلك الصرير المسموع تحت دبكات اقدامنا.

ما أروع تلك الاهتزازات التي تأخذنا لكافة الاتجاهات بتحركها تحتنا .

كم خافت علينا من تهاوي دفات ذلك الخشب الاصفر من لعبنا فوقه.

وتحزن تلك العيون، ويصغر ذلك العقل الكبير ،وتقوم بطردنا من سريرها ومن بيتها ويعلو ذلك الصوت الجميل القوي كالرعد

" انقلعوا هلكتوني روحوا ع بيتكون مابدي حدا يجي لعندي"

وأمثّل الحرد، وأمثّل الحزن، وأبرم لأقفز من علياء ذلك التخت الدافئ ساحبة معي شرشفها وغطائه لأعذبها  بإعادة ترتيبه، معلنة احتجاجي على طردي من مملكتها ؛

ويعلو صوتي: مدافعة عن انتصاري، مدافعة عن ورق الشدة الذي جعلكته ورمته لأنني غلبتها !

واضحك مرددة :مغلوبة ... مغلوبة ... يا ستي مغلوبة

ولا باصرة عملتي!!!  ولا قاشوش بين يديكي المزدانتين بعروق وشروش الحياة الزرقاء اللون ،المرصعتين بنقوش بنية دائرية ؛كم لمستها ؟؟!!! مستغربة ظهورها على جلدك الرقيق الابيض ،الحساس متناسية اقترابك من العقد العاشر للحياة !!

ستي دقيت الـ 90  من عمرها ولا تزال تلعب الشدة معنا !! ستي ستنال القرن من الزمـان

هي من علمتنا اصول لعبة الباصرة، وكشفت عن اسرار قلبها العاشق للقاشوش، مصرحة كرهها للختيار بكافة أشكاله وأحواله ..

وكذلك الامر كرهها العميق والكبير للبنات

حتى بنات الشدة ، بنت  الكبة وما ابشعها!!

ومن اجل خاطر عيونها كرهت الكبة النيئة المناسبة لنيرة فمها الخالي من الاسنان مع حفاظه على بقايا قرمة ناب زاد ابتسامتها جمالا   بإطلالته

لا للكبة مشوية او مقلية او بالصينية !!!!!

وكرهت بنت الديناري والدنانير، وبنت السباتي والسبات، وبنت البستوني وكل آل البستون والبسبوس والبشور عائلتها العريقة الممتدة من جيل لجيل،

وأناديها  :كلما ابتعدت عن بابها، راكضة باتجاه ذلك الدرج الحجري الجميل لأنجو بنفسي من بعكورتها  : مغلوبة مغلوبة يا ستي

وأضحك مستهزئة  بغلبها وخسارتها ( برتية الشدة )

ولأضمن عودتي لأحضانها الدافئة أغيب ساعات ولا استطيع أكثر، وأعود لأدق ذلك الباب الاسود العتيق ،الممتلئ فتحات بين طياته محفورة بيد زمن غدار سلبها شبابها، وعزها ، وجاها ذهب مع الريح بموت زوجها، المختار الشيخ إلياس 

وكم استغربت لقب جدي ؟

اسمه إلياس ويدعونه الشيخ، وتبدأ تسرد لنا ما كان عليه من قيمة ومرتبة وكيف حلت السنوات العجاف عليه وسلبته الصحة والعز ...

كنت اخفي بسمتي مخافة ان تلاحظها، فما سمعته من الكنة يؤكد ان وجه ستي الجميل جدا لم  يكن وجه خير على بيت جدي، وأن  هناك وجوها تقطع  الرزق!!!!!!!

ولن اصدق ان هذا الصدر الممتلئ بعرانيس الحبق، وهذا الحضن الحنون وهذه الايدي المباركة تقطع الرزق، هي رائحة بخور ورائحة صلاة باركت ابي وعائلته باركتنا وحمتنا من براثن الحياة

ستي ....ستي ....ستي

اليوم انا بزمن الكورونا حبيسة البيت وألعب الباصرة مع ابني

وياستي ناداني :

مغلوبة مغلوبة يا أمــي مغلوبة

ستي بدي البعكورة لألحق ابني وعاقبو لأني مغلوبة