قصة قصيرة

القصة الفائزة بجائزة العجيلي عام 2010-2011 بالمرتبة الثانية سورياً

القصة الفائزة بجائزة العجيلي عام 2010-2011 بالمرتبة الثانية سورياً

1532 مشاهدة



قصة قصيرة:

صفنان

بقلم: د.منقذ عقاد

لسرحان طباعٌ غريبة، فهو لم يكمل تعليمه الجامعي، إلا أن تعلقه وولعه بالثقافة وطلب المعرفة جعلا من الكتاب خير جليس لرجل مثله عزف عن الزواج وقنن صداقاته، وحصر دائرة معارفه بشقيقه الأوحد الذي يزوره في العيدين من كل عام.
كان سرحان يؤمن بذكاء الحمير إيماناً فيه الكثير من التحدي، ويراهن على أنها حيوانات قادرة على تغيير واقعها وتعديل الصورة المنطبعة عنها في أذهان الناس لو أعطيت فرصتها للدفاع عن حقها.
لهذا قرر بعد تفكير طويل أن يشتري حماراً صغيراً ويخضعه لسلسلة من تجاربه المخطط لها مسبّقاً، كي يستبين مدى مقدرة الحمار على تغيير واقعه وإثبات ذكائه في خضم التحديات.
اشترى سرحان حماراً صغيراً متناسق الشكل، قوي البنية، يوحي وجهه بسذاجة طفولية، وله شعر ناعم رمادي اللون يمتدّ إلى أذنيه الصغيرتين وذيله الطويل المنتهي بخلاصة شعر كالهندباء البرية. وكان أول شيء فعله بعد شرائه بأن أطلق عليه اسماً، فسماه: صفنان، لأنه لاحظ عليه ميلاً كبيراً للشرود والتأمل.
أعدّ سرحان لصديقه الجديد غرفة في الطرف المقابل من حديقة المنزل، جهزها بديكور يناسب نوعية التجربة التي سيجريها عليه، فوضع في أحد جوانبها فرشة من القش ووعاءً مملوءاً بالشعير والفصة، وجعل على الحائط المجاور لهذا الجانب صوراً لسهول وبراري وحمير مستنفرة. وفي الجانب المقابل من الغرفة وضع على الحائط رفوفاً تصلح كمكتبة، وفرشة من الصوف الناعم، ومذياعاً على موجة تبثّ موسيقا كلاسيكية حالمة، ولصق على الجدار صوراً لأناس يسيرون وسط مدينة عصرية فاخرة.
مكث سرحان بعدها شهوراً متلاحقة وهو يعلّم حماره آداب التعامل ضمن مجتمع البشر، فدرّبه على التخلي عن أهم صفات الحمار:الشنهقة و الترفيس والعناد المتطرف. كان صفنان في الفترة الأولى من تأهيله ينزوي في طرف الغرفة التي فيها الشعير وصور السهول والحمير، ثم تدريجياً صار يميل للنوم أقرب للطرف الذي به صور البشر والمدينة الحديثة منه للطرف الآخر.
قرر سرحان مع الأيام أن يصطحب حماره في عمله القائم على توصيل شحنات الكتب من إحدى دور النشر إلى أصحابها، فهذا العمل يلائم صفنان الذي يمتلك مقدرة موروثة في الحمل والتوصيل. وهكذا غدا سرحان وصفنان متلازمان في أوقات العمل والراحة، وأتقن صفنان بسرعة مذهلة مهنة صاحبه، بل وصار أقدر منه على أدائها!
بدأت جهود سرحان تثمر خيراً، فقد أخذت طباع صفنان تلين، وأصبح يحظى بشيء من طباع البشر، فصار يختار ويفاضل ويتابع التلفاز ويضحك للنكتة، ويبكي للمشهد العاطفي والموسيقا الرومانسية، ويحسّ بالشوق لحبيبته الأتان الجميلة ذات اللون الحليبي والسواد الحالك في عينيها الواسعتين كليل صحراوي مرصع بنجمتين تشعان بالحب. بل و الأغرب من ذلك أن صفنان لم يعد ساذجاً كما كان، بل أضحى يمتلك بعض المكر والالتفاف، والتكتم والتلميح، والتخطيط والتقدير.
***
وفي يوم من الأيام عندما كان صفنان يوصل بعض الكتب، وقع كتاب من فوق ظهره على الأرض وتمرغ بالطين، فعافت نفس المستلم ذاك الكتاب وأبقاه على الأرض حيث هو، إلا أن فضولاً طارئاً دفع صفنان إلى رفع الكتاب بفمه عن الأرض. حاول في تلك الليلة أن يقرأ فيه، ولكنه اصطدم بجدار اللغة والفهم، كرر المحاولة مراراً إلى أن تحققت المعجزة!
كانت المفاجأة مذهلة لسرحان، فقد تحقق رهانه على صفنان، الذي فاق توقعاته، وعليه جلب سرحان لحماره مجموعة من الكتب في التاريخ والأدب والعلم ملأت رفوف غرفته كلها.
صار صفنان يقرأ بنهم، وكم كان ضوء غرفته يبقى حتى ساعات الصباح، حتى أن سرحان كاد لا يعرف أين سيضع له الكتب الجديدة، إذ امتلأت غرفة حماره بشتى أصناف الكتب.
أضحى سرحان يشعر بنشوة النصر، فالمعرفة كما ظهرت له قادرة على تغيير الأحياء وقلب المعادلات حتى لو كان الأحياء من رتبة الحمير.
وفي ليلة شتائية باردة لم يخرج سرحان من منزله لإطعام صفنان، فمرت تلك الليلة ببطىء، تغلب خلالها صفنان على الجوع القاسي بقراءة كتاب مشوق حول تاريخ حضارة الإنسان وتحديات هويته. وفي الصباح خاطب صفنان نفسه معزياً إياها بأن صاحبه سرحان لا بدّ وأن يأتي بأية لحظة حاملاً وجبة شعير مُمَلّح وفصة طازجة تنسيه جوع تلك الليلة، ولكن توقعاته ذهبت أدراج الرياح. عندها حاول عبثاً فتح الباب، ولمّا يئس من ذلك لجأ إلى التفكير برفسه بحوافره الصلبة، إلا أنه تراجع في اللحظات الأخيرة عندما تذكر وجه سرحان الغاضب منه لو فعل ذلك.
مرّت ليلة أخرى استشرى خلالها القلق إلى قلب صفنان، وكادت قواه تخور بفعل الجوع، وصبره ينفذ لقلة حيلته، خطر بباله أن يشنهق بقوة علّ أحداً ينتبه له، لكنه آثر التروي قليلاً عندما تذكر أيضاً وعده الذي قطعه لسرحان بأن لا يفعل ذلك مهما جرى.
وفي الليلة الثالثة أمسى صفنان فاقداً لمرونته المكتسبة حديثاً، وقرر فعل ما لا تحمد عقباه، إنها - كما أقنع نفسه- ضرورة البقاء، ولا مساومة على البقاء.
* * *
خلال ذلك كان سرحان يرقد في فراشه مريضاً مرضاً شديداً أقعده عن الخروج لإطعام صفنان الموجود في الطرف الأخر البعيد من حديقة المنزل الواسعة.
ثلاثة أيام متتالية قضاها سرحان في فراشه لا يعرف ليله من نهاره من قسوة الحمى، ووطأة أثر الأدوية التي تناولها، وغياب من يعيده في مرضه. كان قلقه الأوحد منصباً حول مصير حماره المعجزة، لكنّ تركه لكميات من الشعير في غرفة صفنان قبل ليلة من مرضه كان يمنحه نوعاً من الطمأنينة، إلا أن سرحان لم يكن يعلم بأن حماره قد التهم في الليلة نفسها تلك الوجبة الاحتياطية.
عندما استردّ سرحان بعضاً من عافيته كان أوّل شيء فعله بأن ذهب مسرعاً إلى غرفة حماره ليتفقد حاله. فتح الباب بحذر وترقب، مسح الغرفة ببصره مسحة شاملة، ولمّا شاهد حماره حياً يرزق غفل لوهلة عن إدراك الفاجعة الأكبر، فقد كانت الكتب مبعثرة ومقضومة من أطرافها وكأنها وجبة شعير مجفف، وحتى صفنان لم يعد صفنان "المعجزة" بل صفنان "الحمار" الذي يسير على أربع قوائم ويشنهق ويرفس، ولا يميّز بين ملح الشعير وحبر الكتب.
توقف شعر سرحان وتصخرت الدماء في عروقه من هول ما شاهد، لم يعرف هل هو كابوس أم هذيان حمى، أم نكسة مخيبة للآمال. . تساءل بحسرة وهو يخاطب حماراً لم يعد يفقه نطقه: كيف سأواري وجهي من الناس من سوء ما فعلت بي؟ . . كيف سأبرر عودتك حماراً؟ . . كيف سأقنع نفسي بأنه في يومين فقط أرغمك جوع مؤقت على أن تحوّل الكتب التي منحتك روح التغيير وفضيلة التفكير إلى روث كريه الرائحة وفضلات لا قيمة لها؟
ما هي إلا لحظة مرّت كلمح البصر أصدر صفنان عقبها متعمداً صوتاً منكراً أفقد سرحان توازنه، ثم هوى بقائمتيه الخلفيتين على الباب فصفقه بشدة جعلت عتلته الحديدية تنزلق على مغلاقها، فأمسى الباب مُوصداً، وأمسى فتحه من الداخل مُحالاً.
هنا وقعت على سرحان كارثة ما كانت بالحسبان، وصار فجأة مع حماره في الغرفة نفسها ويخضعان للتجربة ذاتها.

·       بداية مبروك هذا الفوز الذي نتمنى مع قادمات الأيام أن يقدمك للمرتبة الأولى على الاجتهاد لتقديم الأجمل والأكثر متعة وفائدة ..أعتقد أن هذا النص قد دخل علم العصر .. فقد لمست به هذا الانتماء رغم أن الحدث والفعل والحوار المسرود عبر الراوي هو من التراث الذي ضمته دفتي "كليلة ودمنة" بحكايات معبرة تحمل الرمز والمعنى في نسق من الحالات المشوقة والمفاجئة دهشة تفجر الابتسامات للصورة القائمة درسا وعبرة .. وهنا أبارك لك أيها المنقذ انتمائك للعصر ثم طرح رؤيتك المعاصرة للتراث .. وهذا ما ينقص الكثير من السياسيين الذين يدّعون الانتماء للعصر لكن وللأسف تكون مفرداتهم وآلية محاكمتهم لحالا ت العصر سكونية مأخوذة بغباء وجهل من عصر مضى كان له ألقه وجماله .. ولكن لاستحضاره يتطلب منا أن ننتمي للعصر بفعل الحركة لا السكون .. أكرر المباركة والتمنيات بتألق قادم للفكر بروح الشباب.. والعمر ليس بمقياس ؟؟؟ .  

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية