دراسات أدبية

المسرح بين تشدد الدين وسماحته

المسرح بين تشدد الدين وسماحته

415 مشاهدة

المسرح بين تشدد الدين وسماحته

#الأستاذ _الدكتور _سيد _علي _إسماعيل

#أمين اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة في تخصص الدراسات المسرحية بالمجلس الأعلى للجامعات، وأستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب – جامعة حلوان

#دائماً ما يظن أغلب الناس أن الإسلام حرّم التمثيل، ويستشهدون بالقرآن والسنة... إلخ.، جهود المجتهدين في هذا المجال من الباحثين أو من المشايخ المحليين، وهم المشايخ البعيدون عن السلطة ومناصبها!! ولكني أقصد هنا المشايخ الظاهرين ممن يمتلكون المناصب، والمتحدثين باسم السلطة: هل كانوا مشددين أم متسامحين مع المسرح؟! وهل موقفهم المتشدد أو المتسامح، كان عن قناعة دينية أم كان إرضاءً للسلطة؟! أم كان من أجل المصلحة الآنية أو الشخصية أو المفروضة تبعاً للظروف؟!! هذه الأسئلة أطرحها بحكم اطلاعي على تاريخ المسرح في مصر تحديداً، من خلال الدوريات والوثائق، بعيداً عن الكتب المنشورة والمعروفة، وهذه بعض الأمثلة، التي جعلتني أرتاب في الأمر:

1 - الجمعية الخيرية الإسلامية تُعدّ أشهر جمعية ارتبط اسمها بالمسرح المصري منذ عام 1892. فهذه الجمعية كانت تقيم حفلتها الخيرية السنوية في مسرح حديقة الأزبكية تحت رعاية الخديوي، وكانت تعرض مسرحيات وأغان، وكان يحضرها الخديوي بنفسه. ففي عام 1895 مثلت مسرحية (صلاح الدين الأيوبي)، وفي عام 1896 غنى عبده الحامولي والشيخ يوسف المنيلاوي ومحمد عثمان. وفي عام 1897 غنى المطربون السابقون مع تمثيل مسرحية (أنيس الجليس). وفي عام 1899 غنى المطربون الثلاثة أيضاً مع تمثيل مسرحية (محاسن الصدف)، وفي عام 1900 مثلت مسرحية (حلم الملوك)، وفي عام 1905 عرضت مسرحية (غانية الأندلس) بطولة الشيخ سلامة حجازي، وفي عام 1912 مثلت مسرحية (عواطف البنين)... إلخ.!! ولم نسمع أن الجمعية منعت التمثيل أو الغناء أو حرمتهما، بل هي من كانت تعرضهما... والسبب أما أن مشايخ الجمعية من التنويرين!! أو أنهم مجبرون على ذلك من أجل (رعاية الخديوي) للجمعية/ والحفلة التي تدر على الجمعية أموالاً كبيرة بسبب حضور الخديوي.

2 – في عام 1916، قامت لجنة الاتحاد السوري – وأغلبها من المسيحيين – بإقامة حفلة مسرحية بالأوبرا عام 1916 مثلت فيها مسرحية (صلاح الدين الأيوبي)، من أجل جمع الأموال مساعدة منها للطلاب السوريين الدارسين في الأزهر الشريف، بعد أن انقطعت عنهم الأموال والمساعدات من أهاليهم بسبب الحرب!! وقد حضر الحفل مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت، وشيخ الأزهر الشيخ سليم البشري، الذي أناب ابنه الشيخ عبد العزيز البشري في ألقاء كلمة في هذه المناسبة... السؤال هنا: لماذا جاء المفتي وجاء شيخ الأزهر في هذا الاحتفال الذي يقدم التمثيل ويشاهدانه، رغم أنهما لم يحضرا أية مناسبة أهم من هذه المناسبة من قبل؟؟ هل هذا بسبب السماحة الدينية أم بسبب الخوف من نشوب فتنة طائفية، حيث إن هذا العام 1916، وهو عام ذروة الحرب العالمية الأولى المشاركة فيها إنجلترا المحتلة لمصر، وربما كان حضور الشيخين بأوامر من الحاكم البريطاني بعد عزل الخديوي، أو كان حضورهما نوعاً من تقديم الولاء والطاعة للحاكم الإنجليزي؟

3 – في عام 1925، عندما أصدر بابا روما فتوى تحريم دخول المرأة المتبرجة أو المتهتكة إلى الكنيسة، وهذه الفتوى لاقت ترحيباً كبيراً في مصر، فأصدر حاخام اليهود في مصر فتوى مشابهة، وكذلك قام البطريرك في مصر بإصدار هذه الفتوى!! فكتبت الصحف المصرية تحث شيخ جامع الأزهر لإصدار فتوى في أمر المرأة المسلمة المتبرجة والمتهتكة وفي المرأة المسلمة المحترفة مهنة التمثيل!! مع ملاحظة أن جميع الفتاوى السابقة لم تذكر المرأة الممثلة مطلقاً، ولكن هذا كان اجتهاد الصحف المصرية، لا سيما جريدة مصر، التي نشرت الموضوع يوم 10/7/1925، وجريدة المقطم التي نشرت الموضوع في اليوم التالي. فقام شيخ الأزهر محمد أبو الفضل بإصدار الفتوى المطلوبة في أمر المرأة المسلمة المتبرجة المتهتكة بما يعضدها من آيات وأحاديث نبوية، أما عن تمثيل المرأة المسلمة، فجاء في الفتوى الآتي: (واشتغال المرأة المسلمة بمهنة التمثيل أولى بالحرمة من المتبرجة لأن التمثيل تبرج وتهتك!!). هذه الفتوى أحدثت ضجة كبيرة تناقلتها الصحف دون مناقشتها أو التعليق عليها لعدة أسابيع، حتى تصدت لها ولشيخ الأزهر الممثلة فاطمة رشدي، فكتبت لشيخ الأزهر رسالة رداً على فتواه، وهذه الرسالة نشرتها جميع الصحف تقريباً، خصوصاً مجلة الميكروسكوب بتاريخ 6/8/1925. قالت فاطمة رشدي في بداية ردها: (يا سيدي الفاضل [تقصد شيخ الأزهر] ليس التمثيل تبرجاً ولا تهتكاً، إنما التمثيل مدرسة الأخلاق ومعرض صور يرى فيه الجمهور ما هو حسن فيقبله، وما هو قبيح فيجتنبه. وهو أيضاً مجال تنمو فيه أفكار الكُتّاب والفلاسفة والمصلحين تلك الأفكار التي يغرسونها لإصلاح اعوجاج الأمم، وتعهد أخلاقها خوف الدمار. فالممثلة يا مولاي تضحي بنفسها على مذبح الأقاويل السيئة، والأغراض والظنون، لتخدم أمتها، وتصلح من شأن الشعب المسكين! وهذه حقيقة لا يجب أن يجهلها إنسان، ولو أن علماءنا ومشايخنا يجاهدون لانتشال الأخلاق كما تجاهد الممثلة على المسرح، لوصلنا إلى الكمال سريعاً) وبعد سطور كثيرة كتبتها فاطمة رشدي رداً على الشيخ، اختتمت ردها بقولها: (فأنا امرأة أعرف كرامتي وكرامة المهنة التي اشتغل فيها، ومن واجبي الدفاع عن تلك الكرامة، بل أرى من واجبي المقدس الدفاع عن هذا العمل الذي اعتقد صلاحه، كما رأى فضيلة مولانا من واجبه هدمه لأنه اعتقد فساده)!! .. وفجأة انتهت الضجة وانسحب شيخ الأزهر، ولم يستطع شيخاً واحداً من الرد على فاطمة رشدي .. لسبب بسيط: أن هذا العام 1925 كان أقوى أعوام (ثورة سعد زغلول التي بدأت عام 1919)، لا سيما بعد كتابة أول دستور لمصر 1923، وبعد أن أخذت مصر حكما ذاتيا منقوصاً من الاحتلال الإنجليزي!! أي أن صمت شيخ الأزهر – بل شيوخ الأزهر – كان بسبب نجاح ثورة شعبية!!