مواضيع للحوار

المسرح في السينما  من خلال أوبرا كارمن   لبيتر بروك

المسرح في السينما من خلال أوبرا كارمن لبيتر بروك

735 مشاهدة

 

المسرح في السينما

#من خلال أوبرا كارمن   لبيتر بروك

#الدكتور _محمد _سيف _باريس

#دراسات

المصدر: موقع الخشبة

 

#إذا كان بالإمكان إعداد الرواية إلى السينما أو القصة القصيرة أو الظاهرة الاجتماعية، فبالإمكان أيضا إعداد وتكيف العمل المسرحي إلى السينما. وقد لجــأت السينما في بداياتها إلى الإرث الأدبي المسرحي، حيث لعب هذا الأخير دورا أساسيا في تطوير وبلورة الإنتاج السينمائي. عند هذه النقطة، بإمكاننا الإشارة إلى قول أندري بازان في كتابه (ما هي السينما) 🙁 إلى أن السينما شابة، في حين أن الأدب، المسرح، الموسيقى، والرسم، قدماء بقدم التاريخ نفسه)[1].

وهذه الإشارة في شكلها ومضمونها، تشابه ما بين السينما في طفولتها الأولى وحالة الطفل الذي أول ما يبدأ بتقليد الكبار الذين يحيطون به. لقد اتخذت السينما  في بدايتها الفنون الأخرى كقدوة لها، وبدت منذ الطفولة الأولى مثل نتاج ونتيجة لمحددات معينة في تطور الفن وخضعت لجميع التأثيرات التي مورست عليها من قبل الفنون المتقدمة عليها والسابقة لها. أي أن السينما هي محصلة الفنون جميعها، بعناصرها من صوت وصورة، وكلمة وموسيقى.

إذن،إن الأدب المسرحي أخذ نفس المسار الذي اتخذته الرواية في طريقة إعدادها إلى السينما.  ولكن الفارق بينهما، هو أن الرواية بطبيعتها تحتاج إلى صياغة وتحضير جديد لتحويل الكلمة إلى صورة، في حين أن العمل المسرحي يعتبر في حد ذاته عرضا ولا يحتاج إلا أن يكون مصورا. وهذا ما يشرح لنا سر الفتنة والإغراء الذي مارسه المسرح على المخرجين السينمائيين، الذين انتهوا أو توصلوا  إلى خلق ظاهرة أطلق عليها النقد آنذاك ظاهرة ( المسرحية المصورة) التي دفعت بالسينما نحو السكون والخمول الإبداعي، إذ جعلت دورها ينحصر في حدود أرشفة المسرحية أرشفة بسيطة، خالية من الإبداع. وقد حكم على هذه الظاهرة بالفشل منذ البداية لأنها كانت تقوم بتصوير العرض المسرحي تصويرا  فوتوغرافيا، على الرغم من الكاميرا التي كانت تحاول أن تنسينا مقدمة المسرح (الرمب) والكواليس.

إن الأفلام الوحيدة التي عرفت بعض النجاح، هي تلك التي قام مخرجوها بأنفسهم بعمل إعداد ابداعي وتحضيري للعمل المسرحي، بتعاملهم معها بنفس الطريقة التي كانوا يتعاملون فيها مع القصة، وهذا يعني، أن المخرج السينمائي لم يبقِ من العمل المسرحي إلا على الشخصيات والحدث. وهنا ظهرت مشكلة الامتثال (أو عدم احترام) الطبيعة المسرحية للعمل من قبل المخرج السينمائي. إن هذا الامر لا يعتبر ضارا بالنسبة للسينما بقدر ما هو ضار، بكل تأكيد، بالمسرح. وهذا ما شكل واحدة من المشاكل التي واجهت الإعدادات السينمائية للأعمال المسرحية. إن هذا التجديد أو التعديل، إن صح التعبير، جعل النقد يحتج على طريقة التدخل السينمائي في روح العمل المسرحي، ولكن بلا جدوى، لأن نسبة الأعمال الكثيرة التي عرفت النجاح والكمال السينمائي قد قلل من حدة واعتراض النقد، وجعلت السينما تقترب كثيرا من الأدب، ببقائها مخلصة للمناخ الخاص للعمل المسرحي والسينمائي بشكل كلي.

بلا شك إن للمسرح وسائله الخاصة والمختلفة عن السينما، لاسيما أن الأداة الأساسية للمسرح كانت دائما هي اللغة وليس الصورة، فضلا على، أن تأثير العمل المسرحي على المتفرج ليس هو نفسه تأثير السينما عليه. لهذا السبب بالذات أن الاختلاف في مجال التكوين الجمالي بين السينما والمسرح، جعل عملية البحث عن نقاط التقاء وتقارب وتعادل في القيم، يكاد أن يكون صعبا وحساسا جدا. لأن هذه الاختلافات الهيكلية تحتاج أيضا إلى شعور إبداعي ومخيلة خصبة من جانب المخرجين السينمائيين الذين من أجل أن يصنعوا فيلما ناجحا، يتوجب عليهم، أولا وقبل كل شيء، أن يخلقوا لغة تعبيرية أخرى وأن لا يكتفوا بمجرد تسجيل بسيط ومسالم للعرض المسرحي. وذلك لأن احترام، العمل المسرحي، مثلما يقول أندري بازان، في كتابه: ما هي السينما؟: ( لا يعني فقط تصويره مثلما هو، لأن القيام بـ(عمل المسرح) بطريقة صحيحة، اصعب بكثير من القيام بـ(عمل سينما). وبالنسبة لأندري بازان، إنه لا يمكن فصل السينما عن المسرح بسبب فجوة جمالية لا يمكن تخطيها، علما أن المخرجين في مثل هذه الحالة، يواجهون نوعين من المواقف النفسية، الذي يتوجب عليهم أن يحكما السيطرة عليهما. إن المسرح يعزز المفاهيم، في حين أن السينما تنطوي على تحديد الهوية. فالممثل على سبيل المثال، يكون حضوره في المسرح مباشرا وفي السينما غير مباشر، بما معناه: إن الشاشة السينمائية تعيد عملية حضور الممثل بطريقة الانعكاسات المختلفة التي تحصل في المرآة بعرضها للصورة على واجهة سطحها المصقول، أي أن ما نفقده كشاهد مباشر في المسرح، نحصل عليه في السينما بتأثير مختلف كل الاختلاف، بفضل التقارب الاصطناعي الذي يسمح به التكبير في الكاميرا (في اللقطات المقربة واللقطات البعيدة، والخ). إن الشخصيات التي تطالعنا بها الشاشة، هي بطبيعة الحال، لتحديد هوية الكائنات، بينما تلك الموجودة فوق خشبة المسرح هي كائنات مُعَارضَة عقليا. وإن الحضور الفعلي للممثلين في المسرح يعطي واقعا موضوعيا، ومن أجل تبديلها وقبولها ككائنات قادمة من عالم وهمي، يجب أن تتدخل رغبة المشاهد بنشاط وأن يكون مستعدا هذا الأخير لتجاهل واقعهم المادي. إن المتفرج في السينما يتجه بشكل عام إلى التعاطف مع بطل الفيلم من خلال عملية الانصهار بالحدث بشكل نفسي تكون نتائجه تحويل جمهور الصالة إلى (حشد) وتوحيد مشاعرهم، لأن قوة الصورة، مثلما يقول بيتر بروك: ( تبلغ حدا أن تغمر المتفرج تماما، ولا يمكن أن يفكر فيما يراه، إلا قبل أو بعد حدوث التأثير، أما في لحظة حدوثها فلا يمكن أبدا، فحين تكون الصورة حاضرة بكل قوتها، وفي تلك اللحظة الدقيقة التي يتم استقبالها، لا يستطيع المرء أن يفكر أو يحس أو يتخيل أي شيء آخر)[2]، لهذا يمكننا القول بان السينما تهدئ وتسكن المشاهد، في حين أن المسرح يثير ويهيج المشاعر. وحتى لو أن المسرح ناشد الغرائز الاكثر قربا من المتفرج، لا يمكن أن يحول الصالة إلى (حشد) ولا يمكن أن يوحد المشاعر، لأنه يحتاج دائما، إلى ضمير الفرد النشط، ومشاركته الفعالة في الحدث مباشرة، في حين أن مشاهدة الفيلم السينمائي لا تحتاج إلا للمشاركة العضوية السلبية الساكنة. وإن الفيلم عندما يروج ويفضل عملية التماهي مع البطل فإنه يعارض المسرح. إذن، إذا كانت السينما تشجع وتفضل المتفرج السلبي الساكن، فإن المسرح على عكسها، يعمل على إثارة وعي المشاهد ويسعى إلى تخفيف حدة التعارض النفسي بين المشاهد والبطل.

ثم إن نجاح (المسرح المصور) لا يمكن أن يتم من خلال عملية التبديل والتحويل التي تمر عبر النص والممثل، هاتين الركيزتين الأساسيتين، إنما المشكلة تكمن في تحويل ونقل الفضاء المسرحي الى وفي المعطيات الاخراجية السينمائية للتعبير عن المسرحة الدرامية. إن المشهد في المسرح هو المكان الذي تقدم فيه المسرحة الدرامية والمحمولة من قبل الكلمة التي يؤديها الممثل. وإن صالة المسرح، والديكور، يستخدمهما هذا الأخير مثل صندوق لصدى ترددات صوته. في حين أن الإنسان في السينما ليس هو بضروري مثلما هو في المسرح، وإن الفضاء في السينما هو المهيمن. وإن عملية نقل النص والممثل في لا نهائية الأثير السينمائي، يفقد هذين العنصرين الاساسيين قوتهما الموجودة في المسرح.  ويقول اندري بازان: ( ليس هناك ما هو أسوأ من المسرح المصور في الديكور الطبيعي الذي يخمد النار في طاقة الكلمة)[3]. وذلك لأن اللانهائية التي يحتاج إليها المسرح لا يمكن أن تكون مكانية، ولا يمكن أن تكون إلا في وجود النفس البشرية.

على الرغم من العلاقة القديمة ما بين المسرح والسينما، واشتغال مخرجي المسرح في السينما وإنتاج تجارب خارقة للعادة، ورغم نقاط الالتقاء والتقارب بينهما يبقى الاختلاف شاخصا، ليس على المستوى الصناعي والواقعي للسينما، وتأثير كل منهما على المتفرج وإلى أخره، وإنما على صعيد مفهوم الإخراج نفسه. إن مفهوم (الإخراج) حديث، ومن الصعب حصره في تعريف أو شرح بسيط، لأنه وبكل بساطة يشتمل على أشياء كثيرة جدا. ومنذ ظهور المخرج (وهل هي مصادفة، أن يظهر المخرج الآن ؟)، هذا المتفرج المُمَيز، هذا المتفرج المدهش الذي صارّ يتدخل لوضع أو إزالة معنى الحلم على الخشبة. إن المخرج هو الذي يضع الممثل على المسرح ثم يختفي وراء الكواليس، إنه يتركه لمواجهة الجمهور بمفرده، ولكن بمحبة، بعد أن يرعاه ليحمله، في نهاية المطاف، مسؤولية كتابته الركحية. بلا شك، إن عمل ودور وقوة المخرج هو أعظم اختراع في هذا القرن، إنه ظاهرة جديدة وكارثية في آن واحد، لم يسبق لها مثيل، لأنها أعطت للمسرح لونا جديدا، لم يكن موجودا من قبل. إن المخرج غيرّ رؤيتنا للأشياء مثلما فعل الرسام فان كوخ عندما رسم الشمس وحقول عباد الشمس، والرسام سيزان، عندما صور الجبال بحيث لم نعد نراها مثلما كنا نراها من قبل، علما، إنها لم يطرأ عليها أي تغير وهي نفسها منذ الأزل، ولكن رؤيتنا هي التي تغيرت بفضل اللمسات الفنية التي وضعها هذين الرسامين فوق سطوح لوحاتهما. نفس الشيء ينطبق على الممثل، فمنذ أن ظهر المخرج، ونحن لم نعد نراه مثلما كنا نراه سابقا، ومع ذلك وعلى الرغم من كل شيء، يبقى دائما وأبدا جسدا للكلمات والأنفاس التي تكشف لنا الرؤيا.

إن السينما، التي هي بمثابة معمل جماعي، يكون المخرج فيه المؤلف الأوحد والمطلق، وجميع العاملين فيه على اختلاف مستوياتهم وإمكانياتهم، ليس إلا مجرد أدوات في خدمة رؤيته. وإن العديد من الأشخاص الذين تساءلوا حول هذا الموضوع، اعتقدوا أن عمل المخرج في المسرح هو نفسه أو بالأحرى يشبه عمل المخرج في السينما. لسوء الحظ، أن جميع هؤلاء قد مروا بالقرب من الحقائق الافتراضية الغنية للشكل المسرحي. لأن العديد من المخرجين الذين اشتغلوا في حقل المسرح، اعتقدوا في البداية، أن دور المخرج ينحصر في استعمال وتحريك جميع الوسائل التي وضعت في حوزته من : إضاءة، ألوان، أزياء ديكور، مكياج، حوار وتمثيل، كما لو أنه أمام آلة كاتبة أو بيانو. وإنه بمجرد ما يجمع العناصر التعبيرية يستطيع أن يبدع أو يخلق لغة الإخراج، حيث الممثل الذي هو اكثر من جوهري وأساسي يتبع ويخضع لجميع العناصر النحوية الأخرى. وهذه هي فكرة المسرح الشامل الأكثر بلوغا ونضجا.

إن المسرح كحدث يحتوي على إمكانية وضع وجهة نظر فريدة محل العديد من وجهات النظر المجاورة والمختلفة، مثلما بإمكانه أن يظهر العالم بأبعاد متعددة، في حين أن السينما، تبحث عن التأثير التجسيدي، وتكتفي ببعد واحد. (إن  المسرح يحصل على قوته وكثافته من تفرده وتكريسه نفسه لهذا العالم العجيب الذي يعمل على إبرازه والكشف عنه. مثلما ينتج ظاهرة قريبة من ذلك المنهج الأحادي التعبير الذي يرمم الشكل الخارجي للأشياء، بفضل تشابك وتداخل حزم إشعاعية. وعندما نفهم لحظة من الحياة فيه، في قمة كمالها المقنع، يحدث ويتفجر لدى المتفرج والممثل نوع من تعاقب المصادر المختلفة، التي توجه نحو نفس النقطة وفي ذات الوقت). وبمجرد اجتماع بسيط لمجموعة من الشخصيات، أول ما يظهر ويبدو للعيان، الحاجز المنيع بين مختلف وجهات النظر. هذه هي مادته الأساسية التي سوف تسمح فيما بعد، أي بعد جريان الأحداث، بإثارة وشحذ وجهات نظر متناقضة.

لهذا نطلق على المسرح بفن المفارقة. و(بإمكاننا الذهاب بعيدا ونقول إنه المفارقة ذاتها، فهو نتاج أدبي وفي نفس الوقت، عرض مادي؛ وهو في ذات الوقت، فن خالد (قابل لأن يعاد إنتاجه وتجديده دائما وأبدا) ، وهو فن آني (لا يمكن إعادة إنتاجه بنفس الطريقة التي تم تصويره فيها من قبل): لأن العرض الذي يقدم اليوم لا يمكن أن يكون أبدا هو نفسه غدا؛ فهو فن على حد قول “انتوان أرتوAntonin Artaud ” صنع لأجل عرض ونهاية واحدة. انه فن اليوم، وأن عرض الغد، الذي هو نفسه كان عرض البارحة، يُمثل من قبل أشخاص تحولوا إلى شخصيات أخرى وأمام جمهور هو الآخر مختلف؛ لهذا فإن الإخراج الذي عُملَّ أو أعتمدَّ من قبل مخرج في مسرحية قدمت منذ ثلاثة أعوام لا يستطيع أن يحافظ على بهائه الكامل ونوعيته، لأنه مع الزمن يموت وتتقادم عليه السنون، في حين أن النص نفسه يبقى، نظريا ثابتا وغير متغير، إلى الأبد)[4].

إن الحوار في المسرح يبني ويؤسس العناصر الجوهرية للمسرحية. إنه يقترح التوتر الذي يكشف عن أللاتفاق الكلي بين الشخصيتين. وهذا بحد ذاته الصراع البارع والمعلن ما بين وجهتي نظر متعاكستين. لهذا يتوجب على المؤلف أن يعطي لكل واحدة منهما نصيبها من الحقيقية وبالتساوي وإلا فستكون النتيجة ضعيفة. في المسرح، يتوجب علينا اختراق رأيين متعارضين، بنفس الفهم. لهذا على المؤلف أن يكشف عن ولعه بشخصياته، بالدخول معها في مشاركة، ووحدة شعور، مثلما يفعل تشيخوف مع شخصياته. انطلاقا من هذا، إذا وجدت عشرون شخصية في المسرحية، وإذا أعطى المؤلف كل شخصية من الشخصيات العشرين حقها بنفس القوة الاقناعية، سنحصل بلا شك على معجزة شكسبيرية،. لأن هذا ما يفعله شكسبير مع شخوصه، انه يحملها الحقيقة التي يريد الكشف عنها بالتساوي وبنفس القوة الدرامية، مثلما يقول بيتر بروك.

مقابل هذا التدرج الوفير من القيم، والمواد المكثفة، نستطيع أن نفهم عمل المخرج أكثر فأكثر. فالمخرج الذي يكفي نفسه بنفسه بوجهة نظر واحدة أو معالجة شخصية معالجة خاصة حتى وإن كانت هذه الأخيرة قوية وأساسية، ويتناسى الشخصيات الأخرى، فإنه حتما سيضعف البقية الباقية من الشخصيات والمسرحية كذلك. إذن، على المخرج أن يعتني بجميع التيارات الغامضة بالنص وبالتساوي. هذا بالإضافة إلى، أن الممثل سيحاول وبسهولة أثناء العمل أن يفرض تصوره الخاص، سواءا كان نظريا أو ما يستحوذ عليه من شعور أو فكرة، وهنا على المخرج أن يعالج الأمر بطريقة مثالية. إن المسرح بطبيعة الحال، يحتوي على مجموعة من العاملين، الذين بمستطاعهم أن يكونوا جميعا نافعين، ولكن يتوجب عليهم أولا وقبل كل شيء، أن يخدموا الهدف، الذي يعمل على إظهار الفهم الذي يتجاوز المفهوم الحقيقي لكل واحد منهم. وعندما يتحقق هذا فقط، يمكن أن نرى دور الديكور، الأزياء، الإنارة … والخ. إن هذه العناصر ستعثر على مكانها الطبيعي عندما يخرج وينتظم كل هذا الذي ولد داخل المجموعة البشرية العاملة. و(ليس هناك اكثر هدما وتحطيما للعمل المسرحي من الإقحام  التشكيلي أو الموسيقي. وهذا ما يحدث غالبا، عندما يفرض على العمل المسرحي، هذا الديكور أو تلك الموسيقى بشكل مبكر، حتى لو تم ذلك بموافقة المخرج نفسه)[5].

وبعد العديد من التمارين التي تقتضي الأسابيع تلو الأسابيع، لم يعد المخرج هو نفسه. إنه يستغني وتتسع أفاق رؤاه نتيجة لعمله مع الآخرين. لهذا إن الفعل الحقيقي والأساس لوضع الشكل شبه النهائي للعمل المسرحي لا يأتي إلا متأخرا، ولا يكون ممكنا إلا في لحظة العرض نفسها. ونعتقد أن كل مخرج من المخرجين قد عاش هذه التجربة، تجربة أن يرى عمله في آخر تمرين من التمارين متماسكا، ولكن بحضور الجمهور يصبح هذا التماسك تألقا و ترتسم شظايا لمعانه على كل الحضور، سواء كانوا في الصالة أو فوق الخشبة. إن العمل الجيد لا يعثر على نفسه إلا في العرض الأول له. وهكذا مع كل عرض يتجدد ويتأسس ويتشكل من جديد، خاصة إذا كان العامليون فيه مخلصون وأوفياء، لأنه بغير ذلك، يمكن أن تكون النتائج معكوسة، لا سيما أن العلاقة الحية مع الجمهور بقدر ما هي عظيمة وشيقة بقدر ما هي خطرة ويمكن أن تؤدي إلى التهلكة والضياع.

وهنا يكمن كل الاختلاف ما بين السينما والمسرح. في السينما كل شيء محفوظ ومنقوش على سطح شريط سينمائي قد صور ذات يوم، الصورة فيه والفعل ثابتين لا يتحركان، في حين أن العرض المسرحي، يأخذ شكله الحقيقي وديناميكيته من الحضور الحي للجمهور ومن العلاقة الجدلية ما بين الصالة والجمهور.

لقد أثارت العلاقة بين المسرح والسينما دائما تحليلات رائعة وعظيمة، وعندما نلقي نظرة سريعة على هذين الفنين اللذان يكادان أن يكونا نقيضين، نجد أنهما لن يفترقا منذ عام 1895، أي منذ صارت السينما الصامتة سينما ناطقة. منذ ذلك الوقت، ونحن نلاحظ منطقيا سلسلة من الإعدادات التي غالبا ما تتحقق في عجالة والتباس. ولكن ما المقصود بالمسرح والسينما ؟ وهل يمكن لنا أن نتجاهل القيود التقنية المتأصلة في كل واحدة منهما والإفلات من العقبات ؟ وهل يجب أن نعطي الحق إلى (لويجي بيراندلو) الذي عارض مادية الشخصيات في السينما والوجود البدني للممثلين في المسرح؟ وهل يمكننا المشاركة في النقاشات النظرية والجمالية حول اللقطة/ المشهد والمونتاج/السرد ؟ وهل سنتفق في نهاية المطاف على تحديد ما هو وما ليس هو اعدادا سينمائيا مخلصا للمسرح؟

الحدود الضبابية بين السينما والمسرح

إن مشكلة الاعداد السينمائي للمسرح، قد طرحت منذ البدايات الأولى اشكالية الإخلاص، والولاء، والجمال، مثلما طرحت أيضا مسألة هل ينبغي على السينما أن تكون في خدمة المسرح، أو العكس، أن يكون المسرح في خدمة السينما ؟ وبالنسبة للبعض، يتوجب على الفن السابع، إذا كان ينهل ويأخذ من المسرح، فعليه أن يعيد انتاج هذا الأخير بكل أمانة وإخلاص. وهناك بعض أخر، يختلف مع هذا الرأي، باعتقاده وإيمانه بأنه لا بد من تفجير الفضاء الزمكاني للمسرح، والديكورات، لإعطاء السينما ولادة ابداعية جديدة. إن الحدود بين هذين الفنين، تبدو ضبابية أكثر مما ينبغي، وإن المفارقة لا تنفك عن مسائلتنا، عن الكيفية التي يمكن أن نتصور فيها إعادة إنتاج الكلمة في المسرح أو استنساخها من قبل فن صامت. وقد يكون الاعتراض على أن الصمت في بعض الاحيان اكثر بلاغة من الكلمة ؟

إن السينما بمجرد ما أحست بإمكانية سرد وتقديم قصة، ألتفتت نحو الموديل المسرحي، والتصوير في الاستديو الذي يوفر لها الظروف المادية الملائمة. ولقد أخذت الكثير من المسرح، وفي أول اتصال وملامسة لها بالمسرح، استطاعت أن تستولي على العديد من العناصر، مثل: لعب الممثل، الديكور، السينغرافيا، الحوار، والدراماتورجي، وكيفتها لها بوسائل تعبيرية خاصة. وإن بناء أول صالة للسينما كان ولا يزال بمثابة امتداد لمعمارية المسرح. ومع ذلك، إن إطلاق الصفة (المسرحية) على أسلوب ونمط فيلم من الأفلام، غالبا ما يكون له دلالة سلبية عليه. ولهذا السبب بالذات، أصبحت السينما تدرك في علاقتها مع المسرح، بضرورة تفردها كفن له جمالياته الخاصة، وبين انجذابها للواقع وفخ الذرائع الكاذبة. ولهذا حاولت السينما أن تنفصل عن المسرح من خلال اهتمامها بالعديد من المظاهر والأشكال الأخرى التي نقلتها إلى الشاشة، محاولة هكذا أن تعلن عن اختلافها البسيط والصغير عن المسرح، من خلال السلطة المطلقة للتلفزيون أو ظهور التكنولوجيا الجديدة. ومع ذلك ظل العديد من السينمائيين يشعرون بضرورة المسرح في التعريف بإمكانياتهم الفنية، مثل: مارسيل بانيول، ساشا كيتري، جون رينوار، شارلي شابلن، مانويل دي أوليفيرا، وجاك ريفيت.. والخ.

يمكننا أيضا أن نذكر العديد من التجارب الناجحة في مجال الإعداد السينمائي للمسرح، مثل: جان كوكتو، أورلسن ويلز، لورانس أوليفي، وبيتر بروك،  ومخرجون وكتاب سيناريو آخرون، سواء كانوا مسرحيين أو سينمائيين قد بذلوا جهودا كبيرة في تعزيز وتقوية فكرة أن الإعداد السينمائي الناجح للمسرح لم يعد بـ (خيانة) وإنما هو نظرة جديدة للمسرح.

 علما، ومثلما ذكرنا أعلاه، أن علاقة المسرح بالسينما ليست بجديدة، لاسيما أنها قد بدأت مع الكوميديا الأمريكية التي اعتمدت كأساس على الكلمة والحالة التي تثير الضحك، بعيدا كل البعد عن الصناعة السينمائية. لهذا نجد، أن أغلب الأفلام الكوميدية الكبيرة الفرنسية منها أو الأمريكية مصدرها هو موسيقى- الهال أو مسرح البوليفار: ماكس ليندر، بوست كايتون، لوري وهاردي، شارلي شابلن… هؤلاء جميعا يدينون بنجاحاتهم السينمائية إلى تجاربهم المسرحية، وبمساعدة السينما قد حافظوا وعرضوا تقنيات موسيقى – الهال ومسرح البوليفار. مثلما بإمكاننا أن نلاحظ في الأفلام الكوميدية القديمة حضورا للمسرح بشكل بدائي، ليس على مستوى التمثيل فقط وإنما أيضا على مستوى البناء السردي للحدث. وفي نفس الوقت، لا بد من التذكير، بأن السينما قد أعطت هذه المشاهد والحالات المسرحية الكوميدية نكهة جديدة، إذ حررتها من حدود طبيعة المسرح نفسه التي تفرضها عليه الوحدات الأرسطية الثلاث: وحدة الموضوع، المكان والزمن. وهذا ما يجعلنا أن نقول، بأن هذه الحالات والمواقف الكوميدية البدائية أصبحت بفضل السينما، حالات درامية تعبيرية جديدة وانتشرت بشكل واسع النطاق، ولولا التدخل السينمائي فيها لما وصلت أبدا إلى مرحلة النضج الفني الذي شهدناه. نستنتج مما تقدم، إن العلاقة بين السينما والمسرح هي قديمة جدا، وإن من دون هذه الفترة الطويلة من الاتصال والتبلور الذي عزز الخلافات والاكتشافات بين المعسكرين، لن يستطيع لا لورنس أوليفية، ولا ألسن ويلز، ولا جان كوكتو، ولا بيتر بروك، أن يخلقوا بعض من الهارمونية والانسجام بين هذين (العالمين) المختلفين بشكل كاف، في كيفية اعداد النص المسرحي، وإداء الممثلين، وإخراج النص وتحويله إلى فيلم، وكذلك في اختلاف تأثيرهما على المتفرج.

إن تطور ظاهرة(المسرح المصور) سواء كانت في أمريكا، أو انكلترا، أو في فرنسا، وإذا كانت معدة عن الأعمال الكلاسيكية مثل مسرحية: هنري الثاني، وهاملت، وماكبث، والخ، أو المأخوذة عن الاعمال المعاصرة، مثل مسرحية: الأفعى، لليان هلمان، ومسرحية الآباء الفظيعين، ومسرحية الحبل، والخ … فهي لم تتغير، وإن ما يميز هذا التطور هو إخلاص المخرجين إلى النص المكتوب أكثر فأكثر على خلاف ما كان يفعله أسلافهم الذين حاولوا في اعدادهم السينمائي للأعمال المسرحية أن يخفوا النص الأصلي ويذوبوه في الاثير السينمائي.

ونفس الشيء يكاد أن ينطبق على الأوبرا، إذ لاحظنا، إن الطريقة ذاتها قد اتبعت في نقل الأوبرا إلى السينما سواء على المستوى العام أو الخاص: فهناك بعض المخرجين الذين قاموا بتصويرها من فوق خشبة المسرح، والبعض الأخر جعلها فيلما موسيقيا تقريبا، وهناك آخرون أيضا دفعهم إحساسهم بالواقعية السينمائية، إلى تجريدها تماما من إطارها المسرحي الضيق وتصويرها في الطبيعة الأكثر اتساعا. وهناك أيضا أولئك الذين بحثوا عن كيفية إعدادها وتكيفها سينمائيا من غير أن يمسوا طبيعتها المسرحية الموسيقية. بيتر بروك واحد من الذين كانوا ولازالوا مهتمين بإعداد المسرح للسينما، سواء كان ذلك موسيقيا أو غير موسيقيا. وحينما يتحدث عن تجربته الخاصة في هذا المجال، يقول: ( لقد اشتغلت دائما بهذه الطريقة، وعملي كان دائما وأبدا يشبه إلى حد كبير، الفارس الذي يركب حصان المسرح والسينما في أن واحد). أي انه يشتغل في الحقلين دون إلحاق الضرر بواحد من الاثنين، بل يغذي الواحد من خلال الآخر وبالعكس.

 لقد كان اهتمام بروك منصبا منذ البداية على المسرح والسينما في آن واحد. ولعل هذا أهم ما يميز انشغالاته الدائمة في المجالين، ويفسر اندفاعاته المستمرة في البحث عن كل ما هو جديد. فهو يمقت التكرار، وكل ما هو ثابت غير متحرك، ويبتعد عن كل ما هو مؤكد، ويعتقد أن كل شيء يجب أن يخضع للامتحان والتطبيق لكي يعاد اكتشافه من جديد. لهذا نراه منذ بداية حياته الفنية وهو يرفض هيمنة النظريات والعقائد الجامدة، ويحاول قدر ما يستطيع أن لا يتقيد  بأي اتجاه أو مذهب مسرحي سواء كان ذلك مسرحيا، سياسيا أو فيلسوفيا. ولقد وصل به التطرف حدَّ إن يتمرد على ما كتبه هو بنفسه في كتاب “الفضاء الخالي”، إذ يقول في كتاب ” الشيطان هو الضجر” الذي قمنا بترجمته وصدر عن دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة: ( لقد ذكرت في أول جملة دونتها في كتابي الفضاء الخالي :” يمكنني أن أتناول أي مكان خال، فأسميه مسرحا عاريا. وكل ما يقتضيه الفعل المسرحي هو أن يمشي شخص عبر تلك الفسحة في حين يراقبه شخص آخر”، إن هذا لم يعد كافيا اليوم، لقد تقادم عليه الزمن، لأننا نحتاج من اجل أن يكتمل الفعل المسرحي ويتفجر، إلى شخص ثالث يراقب عملية المرور والمراقبة التي يشترك بها الشخص الأول والثاني الذي يقوم بفعل المراقبة.) انطلاقا، من هذا المنطق المفتوح على التحول والتغير، يمكننا أن نفهم رفض وتمرد بروك المطلق لأي تخطيط أو إعداد مسبق للإخراج والتمثيل وباقي عناصر العرض. انه يعتبر المخرج الذي يأتي إلى التمارين المسرحية مع مخططات جاهزة، مخرجاً ميتاٌ خالياً من الحياة. فهو مع المخرج الذي يعمل على تنظيف حديقة الممثل من الأعشاب الميتة كي لا تقف هذه الأخيرة حجرة عثر في دربه؛ مع المخرج الذي يبحث عن العلاقة المباشرة والواضحة مع الممثل والجمهور؛ مع المخرج الذي يعمل على اكتشاف الفضاء المسرحي، مع الممثل لحظة التمرين، بل وحتى لحظة التقديم نفسها؛ مع المخرج الذي يعمل على تحرير الممثل من كل قيود، ومن كل كليشيهات النظرية الجاهزة. إن مسرح بروك، ليس بمسرح نخبوي، انه يتأسس أولا وقبل كل شيء، على العلاقة الجدلية بين المخرج والممثل والجمهور، على العكس تماما من صاحب نظرية المسرح الفقير “غروتوفسكي” الذي يحبه بروك ويحترمه خير احترام ولكن مع ذلك، هذا لا يمنعه من الاختلاف معه، لان هذا الأخير يعتمد على النوعية ويقوم مسرحه على أساس العلاقة بين المخرج والممثل فقط متجاوزا المتفرج، ذلك السيد الجليل الذي لولاه لما اكتمل أو يكتمل الحفل ولما تفجر الفعل المسرحي. إن المسرح، إذا ما افتقر إلى الجمهور يصبح مفتقرا لوجوده، فالجمهور هو التحدي وبدونه تبقى الصورة كاذبة. أليس كذلك كما يقول بروك؟

يعود بيتر بروك مع (تراجيديا كارمن) إلى الأوبرا ويقدمها في مسرح البوف دي نورد. ولكن لماذا كارمن ؟ ويجيب بيتر بروك: (إنه العمل الذي بالغ في تضخيمه القرن التاسع عشر، فحاولنا أن نتفحصه ونعريه من ثيابه من أجل اكتشافه. يبدو لنا، إن خلف واجهته الأمامية هناك تيار يمر في الأعصاب، وهذا هو معنى عملنا).

أوبرا كارمن

تعد أوبرا كارمن للموسيقار الفرنسي جورج بيزيه[6]، الأكثر شعبية بين جميع الاعمال المسرحية الغنائية، والأكثر تسجيلا، وهي أيضا الأكثر تقديما على مسارح العالم أجمع. وقد كتب نص الأوبرا لها كل من (هنري ميهاك[7] ولودوفيتش هيليقي[8]) باعتمادهما على قصة كارمن للروائي الفرنسي بروسبير ميريميه[9]. عرضت أوبرا كارمن، لأول مرة في أوبرا كوميك بـ باريس في الثالث من آذار/ مارس 1875، لكنها لم تلاق النجاح في وقتها بعد أن شجبها النقاد واعتبروها غير أخلاقية وسطحية تتعارض مع الفضيلة العليا. وقد مات مؤلفها من دون أن يعلم أن عمله سيتحول في ما بعد إلى واحد من أكبر الأعمال الفنية في مجال الأوبرا. وكان أول ظهور لقصة (كارمن) في 1 أكتوبر 1845 في مجلة (العالمين)[10]. حيث تنتهي القصة، في نموذجها الأول الذي نشر، في الفصل الثالث، مع موت بطلها (دون جوزيه). ولكن عند إعادة نشرها من قبل (كلمان ليفي)[11] في الأسبوعين الأولين من شهر فبراير 1847، ظهرت القصة بأربعة فصول وليس ثلاثة. وفي عام 1875، حول كل من (هنري مالهاك، ولودفيك هاليفي وجورج بيزيه) قصة (كارمن) إلى عمل درامي غنائي[12]. حيث تناول هؤلاء الثلاثة موضوع القصة بعد أن أعطاهم ورثة الكاتب (ميريميه) الضوء الأخضر في التصرف في النص بحرية. ولقد حاول كل من (مالهايك وهاليفي) أن يحولا النص ويعالجاه بطريقة تتماشى مع ذوق الجمهور المعتاد على أعمالهما، لكن (جورج بيزيه) منعهم من ذلك خوفا على جمال طبيعة العمل ومن ثم إفساده. وقد كان العرض الأول (لأوبرا كارمن) في3 مارس 1875 غير ناجحا، ولكنه شيئا فشيئا، وبعد أن تدرب عليه موسيقيون ومغنيون جدد استطاعوا أن يقدموه بشكل جيد وحديث، فصار العمل يفرض نفسه على الكثير من المشتغلين في هذا المجال، لدرجة إن بات في كل مرة يقدم فيها تجري عليه تعديلات وصياغات جديدة ولكنها مع ذلك، لم تستطع في مجملها أن تتجاوز القصة الأصل. إن أوبرا كارمن تحكي قصة الفتاة كارمن التي ارتبط اسم الأوبرا بها، وهي غجرية جميلة ولكنها متعالية وذات مزاج متقلب، لا تهتم بمن يحبها ولكنها تسعى لإيقاع الرجال بحبائل جمالها. وقد توددت إلى رجل من إقليم الباسك شمال إسبانيا هو العريف خوسيه نافارو الذي عشقها لتحوله من شرطي بسيط مطيع إلى شقي خارج على القانون مطلوب رأسه بعد أن ربطته بعصابة من المهربين هي عضوة فيها، ليقوده هذا الحب الجارف أخيرا إلى ساحة الإعدام..وشغلت أوبرا كارمن الكثير من الفنانين بتقديمها على خشبة المسارح وشاشات التلفزيون برؤى مغايرة. ولقد ساهمت السينما هي أيضا في تقديم هذه الأوبرا الذائعة الصيت، بحيث أنها أنتجت أكثر من ستة عشر فيلم لقصة (كارمن)، منذ عام 1907 حتى يومنا هذا.

لقد اعتمد بيتر بروك في فيلم (تراجيديا كارمن)، الذي أخرجه في عام 1984، على نسخة (جورج بيزيه، وبروسبير ميريميه، ومالهاك، وهاليفي). إنه، أي الفيلم، عبارة عن صورة للعرض الذي قدمه (بروك) على مسرح (البوف دي نورد) في عام 1981. وقد أخرجه على هيئة ثلاثة نسخ لا يختلف فيها إلا الممثلون فقط، وإن المغنين في العروض الثلاثة التي تعاقبت على مسرح البوف دي نور، قد عوملوا على قدم المساوات مثلما يقول معد النص، جان كلود كاغير: ( إن التوزيعات الثلاثة في العروض الثلاثة التي قدمت، والتي اصبحت فيما بعد ثلاثة أفلام، قد لعبوا من قبل ممثلين وممثلات مختلفين، واعتقد إن هذا يقع لأول مرة بهذه الطريقة. هذا بالإضافة إلى كونه موقف أخلاقي غاية في القوة والروعة من قبل بيتر بروك، أي لم يكن هناك مجال لأن تلعب ممثلة بدلا من أخرى. وحينما نشاهد الأفلام الثلاثة، سندرك جيدا، أن الإضاءة والكوادر السينمائية المستعملة هي نفسها في الأفلام الثلاثة).

تراجيدية كارمن

 بين الهدم والبناء والولادة

إن ما قام به بيتر بروك في (تراجيديا كارمن) ليس بإعداد بسيط وسهل لقصة ميريميه أو لأوبرا-كوميك، التي كتبها جورج بيزيه، وذلك لأن تحويل العمل الأدبي الذي يحتوي على أسلوب معين وخاص به، إلى عمل آخر مختلف ليس بالأمر السهل أو الهين. إنه حتما سيؤدي في شكله ومضمونه إلى ولادة عمل جديد له مميزاته الخاصة. وفي الواقع، إن تحويل بيتر بروك ومعاونيه للأوبرا إلى المسرح والمسرح إلى السينما، بهذه الطريقة، جعلت من التحويل الأول (النسخة المسرحية)، مثل خطوة أولى تحضيرية لمرحلة الفيلم (النسخة السينمائية)، وهذا ينطبق حتى على توزيع الأدوار:

ثلاثة ممثلات لدور كارمن.

ثلاثة ممثلين لدور دون جوزيه.

ثلاثة ممثلين لدور إسكامليو.

ممثلتين لدور ميكائلا.

وقد حافظ بروك على هذه التوزيعات التي استعملها في المسرح في الأفلام الثلاثة التي صورها لـ(تراجيديا كارمن). مثلما اعتمد مع جان كلود كاريير وماريوس كونستان، في كتابة  نص (تراجيديا كارمن)، على نماذج كل واحد منها ينتمي إلى نوع مختلف، وهنا يكمن سر العمل المعقد، إن صح التعبير.

كارمن، قصة لبروسبير ميريميه، نشرة في عام 1845، وتعتمد في كليتها على السرد.

كارمن، أوبرا-كوميك، لجورج بيزيه، وهنري مالهايك، ولودفيك هاليفي، كتبت في عام 1875، وهي كتابة درامية من حيث النوع.

قصة كارمن

دون جوزيه، عريف من مدينة أشبيليه.

تأتي ميكائيلا، حبيبة طفولته من قريتهم، وهي تحمل معها له أخبار من أمه.

تأتي غجرية، وترمي زهرة نحو العريف دون جوزيه، وتغني له أغنية الحب.

تنشب معركة بين الغجرية (كارمن) وميكائيلا، تنتهي بجرح هذه الأخيرة في وجهها,

يأمر الضابط العريف دون جوزيه بقيادة كارمن إلى السجن.

في طريقهما إلى السجن، كارمن تغوي دون جوزيه، فيتركها تهرب من السجن.

دون جوزيه يقضي بعض الوقت في السجن، وعندما يخرج يذهب للالتحاق بكارمن في إحدى الحانات، حيث يجد الضابط الذي أمر بإلقائه في السجن هناك، فيقتله ويخفي الجثة.

في هذه الأثناء، يأتي مصارع ثيران شهير يقع في حب كارمن، ويدعى اسكامليو.

دون جوزيه يغني لكارمن تعبيرا عن حبه لها، في حفل سري لوحدهم.

ثم يأتي فجأة، كارسيا، رجل كارمن.

دون جوزيه، يخرج لقتله، فيقتله.

كارمن تقرأ في حكايته قدرا تراجيديا.

ميكائيلا تعبر عن قلقها.

كارمن تصبح من الآن فصاعدا عشيقة مصارع الثيران اسكامليو.

دون جوزيه يعود لأقناع كارمن بالرحيل معه.

كارمن ترفض وتقول له بأنها لم تعد تحبه.

دون جوزيه يصر.

كارمن ترفض بشدة.

اسكامليو، مصارع الثيران يُقتل أثناء مصارعته لثور في حلبة مصارعة الثيران.

كارمن ترفض دائما مرافقة دون جوزيه في رحيله.

دون جوزيه، يفقدها حياتها، فتموت.[13]

عندما نقارن القصة التي نشرت في كتيب برنامج المسرحية الذي وزع على الجمهور قبل العرض في مسرح البوف دي نورد، مع أحداث أوبرا-كوميك وقصة ميريميه، نكتشف أن كارمن بيتر بروك تنتمي إلى طبيعة أخرى. علاوة على ذلك، إن العمل الذي قام به بروك ومعاونيه لا يقتصر على تخفيض بسيط لقصة كارمن ولا هو بملخص لكارمن جورج بيزيه، مثلما وصفه بعض النقاد، لأنه لم يكن بالعمل السهل والبسيط، الغاية منه الاستهلاك السريع. لهذا، علينا، أولا، أن نقرّ بأن (تراجيديا كارمن) ليست بخلاصة ولا هي مجرد استعارة لموضوع قصة كارمن ميريميه وتقنياتها السردية، بقدر ما هي محاولة لإحياء وتقديم عمل فني حقيقي لميريميه، من خلال فن الإعداد الذي هو هدم وبناء وولادة. وهذا بحد ذاته، ما يجعلنا نعثر على بعض الاختلافات والتشابهات النسبية في هيكلة الأحداث وتسلسلها التاريخي والسردي بين قصة ميريميه وعمل بيتر بروك، خصوصا وأن هذا الأخير، قد قام، في بادئ الأمر، بعمل مسرحية تنتمي إلى الكوميدي ميوزيكال، استنادا إلى أوبرا –كوميك لجورج بيزيه، قبل تحويلها إلى فيلم. وهذا يعني، إن عمل بروك أبعد ما يكون عن مجرد اعادة صياغة لقصة، لا سيما أنه قد أعاد هيكلة الأحداث والشخصيات وابتعد كل البعد عن السرد الوصفي للقصة. وهذا مما جعل من (تراجيديا كارمن)، تكون أكثر قربا من الأوبرا-كوميك منها إلى  قصة ميريميه، ذلك لأن بنائها إلى حد كبير هو نفسه بناء أوبرا-كوميك لجورج بيزيه: أربعة فصول متصلة بالفواصل الموسيقية.

لقد أخذ بروك من القصة بقدر ما أخذ من أوبرا-كوميك، وهذا ما يطالعنا به نص الحكاية الذي نشر في برنامج العرض: (دون جوزيه، عريف من مدينة اشبيلية)، مثلما أخذ بالمقابل، المفاصل الكبيرة لأحداث عمل جورج بزيه: وصول ميكائيلا حبيبة طفولة دون جوزيه، تواطئ دون جوزيه في هروب كارمن من السجن، وجمع شملهما في الفندق، ومشهد الحكاية التي تقرأ فيه كارمن طالعها المأساوي، وعلاقة كارمن بمصارع الثيران اسكامليو، وموتها في النهاية.

لقد حاول بيتر بروك، بشكل عام، أن يحافظ على جميع الأحداث، على الرغم، من التغيرات والتعديلات، التي قام بها واهمل الكثير من التفاصيل التي لم يجدها ضرورية لرؤيته المسرحية/ السينمائية. لأن المهم بالنسبة له، هو أن النموذجين – القصة والأوبرا-كوميك- المرجعين الأصليين اللذين يختلفان في الأسلوب والهيكل، يعالجان نفس الموضوع.

ففي أوبرا-كوميك، على سبيل المثال، توجد أثناء عشر شخصية: دون جوزيه، اسكامليو، لوغومندور، زينغا، ليلياس باستيا، شخصية الدليل، كارمن، ميكائيلا، فراز كيتا، مسيدي. في حين أن في تراجيديا كارمن توجد سبعة شخصيات فقط: كارمن، دون جوزيه، ميكائيلا، اسكامليو، زينغا، كارسيا، وليلياس باستيا.

لقد احتفظ بيتر بروك بالشخصيات الرئيسية فقط من أوبرا-كوميك. إن هذا التقليص في العدد انطوى في شكله ومضمونه على تركيز شديد في العلاقات بين الشخصيات. إنها أصبحت، أكثر تجريدا ووضوحا، إن صح التعبير، وصار من اليسير متابعة الحبكة، وإن الحالات والمواقف أصبحت أكثر عجالة وخالية من التمطيط والتمديد الغير المجدي. وهذا مما جعل الشخصيات تبدو أساسية وضرورية وفي قلب الحدث. أي أن بروك قلص الشخصيات من اثناء عشر إلى سبعة ولكنه، في ذات الوقت، أضاف أحداثا لم تكن موجودة في أوبرا-كوميك، ولكنها موجودة في قصة ميريميه. ولو نأخذ، على سبيل المثال، المشهد الذي يذهب فيه (دون جوزيه) للالتحاق بـ(كارمن) بعد خروجه من السجن، في( تراجيديا كارمن): (إنه يذهب هناك، فيجد أمامه الضابط الذي أمر بألقائه في السجن، فيقتله). إن هذا الموت أو عملية القتل غير موجودة في أوبرا-كوميك، في حين أن ميريميه يشير إليها في القصة[14]. وإن مشهد الشجار في أوبرا- كوميك بين دون جوزيه وزينغا، سرعان ما يتوقف بسبب ظهور المهربين على المسرح بعد أن تنادي عليهم كارمن، في حين أن في تراجيديا كارمن، قد تم إزالة دور المهربين من أجل جعل وقوع فعل القتل ممكنا، وهذا مما أضاف، بلا شك، بعدا دراميا للمأساة أكثر مما هو في عمل جورج بيزيه. إن هذا المثال، يكشف لنا عن الكثافة الدرامية التي تحيط بأبطال تراجيديا كارمن، بحيث نرى في هذه الأخيرة، على سبيل المثال، إن شخصية دون جوزيه التي يفترض أن تمثل القانون لكونه رقيبا، تأخذ شيئا فشيئا طابعا إجراميا، لدرجة أن تصبح في نهاية المطاف خارجة عن القانون. وقد منح هذا التغيير لطبيعة دور جوزيه بعدا مأساوية جعلها تبدو وكأنها شخصية شكسبيرية تقترف فعل الموت الواحد بعد الأخر بفعل الاضطرار والتورط. أما التغير الثاني والأساسي على مستوى توزيع الأدوار، هو حذف الجوقة وأدوارها المتعددة والمختلفة. إن الجوقة مثلما تطالعنا به أوبرا- كوميك لجورج بيزيه تمارس عدة وظائف. فهي يمكن أن تكون موجودة للزينة البحتة فقط، من غير أن تتدخل في الفعل أو تحاول التعليق عليه. وهي موجودة من البداية حتى النهاية. ويمكن أن نلاحظ وجودها في بداية العمل من خلال المشهد رقم (2)، ونشاهدها أيضا من خلال جوقة صانعي السجائر في الفصل الأول، مشهد رقم (4)، مثلما تظهر في لحظات أخرى، لكي تمارس وظيفة سردية بتعليقها على الحدث (جوقة صانعي السجائر في الفصل الأول مشهد رقم (8)، وكذلك جوقة مصارعة الثيران، في الفصل الرابع مشهد رقم (26)، والجوقة النهائية في مشهد رقم (27) من الفصل الرابع والأخير. وبغض النظر عن هذه الوظائف، فإن الجوقة في كارمن جورج بيزيه تمثل عدة شرائح اجتماعية ومهنية مختلفة ومتعددة: جوقة الجنود، صانعي السجائر، المهربين والتجار، ومتفرجين مصارعة الثيران. ومع ذلك فإن بيتر بروك قد حذف الجوقة وأدوارها من تراجيديا كارمن، بهدف أحياء عمل غنائي في شروط مختلفة، وخلق نوع من العلاقة المسرحية التي تستند على تكثيف الفعل، وواقعيته الشعرية، والعلاقة الحميمة في المسرح الحي. إن هذه التغيرات جميعها تصب في رغبة بيتر بروك الحالية بالاشتغال على بعض التفاصيل الصغيرة والمهمة، وتكوين الفعل المتماسك وتقديم أحداث درامية مليئة بالإثارة والتشويق والمتعة الضرورية، وإقامة علاقة مباشرة مع المشاهدين والابتعاد قدر ما يمكن عما هو شامل وعام قادر على زرع الترهل والضجر والغموض في العمل. نلاحظ، على سبيل المثال، في كارمن جورج بيزيه، إن دخول كارمن إلى المسرح يسبقه تحضير من قبل الجوقة التي تقدم وتعلن عن وصولها (الفصل الأول مشهد رقم (4،5)، في حين إنها تدخل في تراجيديا كارمن لبروك بطريقة مباشرة، مثل الجوقة، مثلها في ذلك، مثل اللقطة الأولى من الفيلم، حيث نشاهدها وهي تقوم بالتحضير للقاء دون جوزيه بصديقة طفولته ميكائيلا، نراها قبل وصول هذه الأخيرة، وهي تنخرط في ممارسة طقوس السحر ومراقبة تحركات الذهاب والإياب لدون جوزيه قبل أن يتوارى في الثكنة ووصول ميكائيلا بقليل. إن التغيرات التي أجراها بروك ومعاونيه على تسلسل الأحداث التاريخية سواء الموجودة في أوبرا-كوميك أو قصة ميريميه مختلفة ومتعددة. وهذا ما يؤكده بشكل واضح انعكاس الوقت في لحظتين: في لحظة وصول مصارع الثيران الشهير اسكامليو الذي يقع في حب كارمن، فيتعرض له دون جوزيه محاولا إثارته، فيدخلان في شجار، وتفرق بينهما كارمن، فينسحب مصارع الثيران اسكامليو. وهنا يجمع بروك في مشهد واحد، عدة مشاهد من الفصل الثاني والثالث (الفصل الثاني، مشهد 13، 14، وفي الفصل الثالث، مشهد 23، 24).وبهذه الطريقة من الاختصار والتكثيف يتعامل بروك مع العلاقة الثلاثية (كارمن، دون جوزيه، اسكامليو) دفعة واحدة ومن غير انقطاع. إن هذا المثال هو أيضا يشير ويصب في عملية التركيز الذي حاول أن يؤسسها بشكل جمالي في عمله.لاسيما أن هذا التغير يعتبر كبيرا ومؤثرا وله دلالات في ديناميكية تراجيديا كارمن، خلق مناخا جديدا أعطى للأحداث طبيعة خاصة تختلف عن طبيعة عمل جورج بيزيه وقصة ميريميه، التي لم يهملها، على الرغم من استناده بشكل كبير على أحداث أوبرا- كوميك.

موجز قصة كارمن ميريميه

تدور أحداث قصة كارمن ميريميه في عام 1830، وتلقي الضوء على مفهوم الحياة واصطدام ثقافة المدينة بثقافة الغجر وتناقض القيم واختلاف طرق التفكير بين هذين العالمين، الذي يتجول فيهما ميريميه، من خلال دينامكية السرد وانتقالاته مرة من خلال الحوار وأخرى من خلال المنولوج، زاجا بنا في تفاصيل خاصة صغيرة تتراكم شيئا فشيئا لكي تشكل المشهد العام للقصة. وكل هذا يتم من خلال سرد الراوي، هذا الزائر الغريب الذي يزور اسبانيا بمهمة أكاديمية، وأثناء تجواله في أراضي الأندلس يلتقي بجوزيف نافارو، قاطع طريق، ولص هارب من وجه العدالة. وعلى الرغم من تحذيرات الدليل الذي يرافق الزائر الغريب من خطورة هذا الشخص، فإن الراوي يأنس له ويتابع مسيرته معه، مثلما يساعده على الفرار من الخان عندما يشي به الدليل إلى السلطة. من خلال السرد، نكتشف أن جوزيه، كان في السابق جنديا بسيطا يحلم بالارتقاء برتبته العسكرية والعيش الهادئ، ولكن ما أن يلتقي بكارمن الغجرية الجميلة، خلال حراسته لأحد مصانع التبغ، تتدهور أحواله وتنهار أحلامه، ويبدأ كل هذا التدهور والانحطاط، عندما يساعدها على الهرب من السجن، فيدخل السجن بدلا عنها ويتم تقليل رتبته. هنا تبدأ نقطة التحول في حياته. بفعل الحب والإغواء والأغراء الذي تمارسه عليه كارمن الغجرية، يتغاضى عن عملية التهريب التي تقوم بها هي وجماعتها، ثم يقتل الضابط الذي يجده برفقتها في بيت صديقتها، ولكي تصبح كارمن زوجته وفقا للأعراف والتقاليد الغجرية، يقتل زوجها بعد دعوته للمبارزة. وهكذا يصبح جوزيه بتكرار فعل القتل قاتلا وقاطع طريق خارج عن القانون بسبب حبه وتعلقه بكارمن. ومع ذلك تظل هذه الأخيرة كما هي لا تتغير امرأة لعوب ولا تتردد في الدخول في علاقات عاطفية أساسها النصب والاحتيال والسرقة وخاصة علاقتها مع لوكاس مصارع الثيران. وكلما يحاول جوزيه تضيق الحصار عليها كلما يقل حبها له وتبتعد وتتمرد عليه أكثر فأكثر، ومع ذلك يستمر في محاصرتها، بحيث يصل به الحال أن يطلب منها أن تسافر معه إلى أمريكا للاستقرار هناك وبدء حياة جديدة، ولكنها ترفض شارحة له بأن روح الغجر تأبى الاستقرار والخنوع، ومع ذلك يستمر في إلحاحه، فترافقه في طريق السفر، وعندما يصلان إلى الغابة تواجهه بحقيقة مشاعرها وبرفضها القاطع للسفر، فيستل سكينه ويقتلها. وبعد أن يدفنها يسلم نفسه إلى السلطات. وفي انتظار حكم الإعدام شنقا كان يسرد على الراوي قصته مع كارمن.

جريمة وتوبة

إن حضور قصة ميريميه في تراجيديا كارمن يمكن ملاحظته من خلال البعد التراجيدي للإحداث، لاسيما إنها تعالج موضوعا أبديا: الحب والموت. إنها قصة درامية متوترة، وغامضة بعض الأحيان، وشرسة دائما لا ترحم، خالية من الحنان والرأفة، شأنها شأن أي تراجيدية من التراجيديات الشكسبيرية التي اشتغل عليها بروك كثيرا. إن أحداث القصة تجري وكأنها تراجيديا، ويبدو أن ميريميه قد صور القصة بشكل تراجيدي  مثلما يصور راسين المأساة. فهي تكشف عن صراع بين شخصين، وهذا ما يجعلنا أن نفكر براسين واختراقاته في دراسة علم النفس العاطفي. إن ميريميه يبين لنا في قصته هذا، كيف يولد الحب بين أثنين، وكيف يسلك سلوكه، وكيف ينكسر أو يستمر على الرغم من كل شيء، وهو في طبيعته الصلبة والقوية، وفي روحه المتوحشة التي تخضع للمصير والتفاعل بين المشاعر.

إن قصة كارمن كلاسيكية في شكلها وتبدو صعبة بعض الشيء، تتكثف فيها كل المفاهيم الرومانسية والعاطفة، والنفسية الغريبة. إنها قصة درامية لرجل يدعى دون خوسيه، ضحية من ضحايا العاطفة القاتلة، رجل تقوده امرأة جهنمية، وهو في هذا يشبه شخصية ماكبث التي تقوده زوجته الليدي ماكبث إلى الجريمة. كليهما قاتل ومستعد للمجازفة، وعلى الرغم من توبة جوزيه في نهاية القصة وتسليم نفسه للقضاء، غير أن كليهما يساقان من جريمة إلى أخرى. ولكن هل دون جوزيه ضعيف ؟ نعم، ونستطيع تأكيد ذلك دون اللجوء إلى تحليل أو دراسة. علما إن شخصيته شخصية معقدة بشكل كافي لكي تتسبب في خلق المشاكل. إذ يترك نفسه عرضة لسلسلة من الأحداث التي لم يختارها أبدا. إذن فهو رجل يفتقر إلى الشجاعة والرؤية البعيدة النظر، وإن قلبه وعقله ليس حرين. إنه دائما في حالة تصاد ومحاصرة، ومع ذلك، نراه من حين لآخر رجل فخور بنفسه ولكن نقطة ضعفه الكبيرة إنه لا يعرف كيف يحافظ على مشاعره الطيبة وصواب عقله. كل قوته وجبروته خاضع لإرادة ونظرة كارمن إليه. وهذا ما تبرهن عليه ثورته الغاضبة وخاصة في النهاية، عندما يفشل في الحفاظ على حبه، الذي لا يمكن أن يعيش بدونه، فلا يرى حلا آخر سوى قتل الطاغية التي يعشقها والذهاب لتسليم نفسه للقضاء. جريمة وتوبة. إنه من الغباء إذ اعتقد بأن له الحق على كارمن وأن حياتها يجب أن تكون له وحده، ولهذا أخذ عنده هذا الحب الجهنمي مفهوم الشرف والواجب. فهل استطاع أن يحافظ عليها ؟ لقد كان عريفا نزيها ومنضبطا وبسبب تتبعه خطى محبوبته الغجرية لم يعد يحافظ على تلك النزاهة، مثلما لم يكن باستطاعته أن يكون مهربا صادقا، لأنه قد خان شرف المهنة وأنخرط في لعبة التهريب. ماذا تحمل كارمن من مشاعر لهذا البطل الحزين ؟ الازدراء ولا شيء آخر سوى الازدراء. كارمن لا يمكن أن تحب هذا الرجل حقيقة، لأنها وبكل بساطة، لا تحترمه ولا تعشقه، في حين أنه لا يحب إلا امرأة واحدة، هي كارمن التي تمثل قدره، فيفقد كل شيء من أجلها، لدرجة أن يفقدها حياتها.

إن حضور قصة ميريميه في تراجيديا كارمن، يمكن الإشارة إليه، من الاستعارة المباشرة، لحادث موت الضابط زينغا، وشخصية كارسيا الزوج السابق، الذي يقتل في وقت مبكر في قصة ميريميه. هذين العنصرين اللذين لم يحتفظ بهما جورج بيزيه ومؤلفي كلمات أوبرا-كوميك، قد حافظ عليهما، بروك وجان كلود كاريير اللذين أدخلا شخصية كارسيا في عملهما لكي يجعلا كارمن في علاقة مباشرة مع عالم الغجر. وإنهما بهذه الطريقة قد تناولا موضوع الاختلاف الثقافي والاجتماعي بين أعراف وتقاليد المدينة والغجر كشعب مثلما ما أراد أن يكشف عنه ميريميه في قصته. فشخصية كارسيا مثلما تشير إليه قصة ميريميه، هو رجل كارمن، هذا بالإضافة إلى إنها، أي شخصية كارسيا تكشف من خلال استخدام لغة الغجر أثناء حديثه مع كارمن، عن الانتماء العرقي لهذه الأخيرة. ونستنتج مما تقدم، إن حضور كارسيا، هو العنصر الذي سمح لبيتر بروك أن يُظهر في عمله المسرحي والسينمائي، الجانب البويهمي الذي يعتبر أساسيا في قصة ميريميه. ولم يكتف بذلك، لأنه حاول أيضا، أن يلقي الضوء على الجانب الغجري للقصة في تراجيديا كارمن في أجزاء أخرى من العرض، من خلال شخصية ليلياس باستيا وتمثيله الذي يكشف بشكل واضح ومرئي عن التصرفات والسلوك الغجري. ثم إن موضوع الغجر يذهب بنا مباشرة إلى موضوع السحر، الذي هو أيضا واحد من أكبر العناصر التي يركز عليها ميريميه في قصته. إن جانب السحر في أوبرا-كوميك، يكاد أن يكون محصورا، ونكاد لا نراه بشكل واضح إلا في مقطع/مشهد قراءة الورق، في حين أن بروك يستخدمه، على الطريقة الميريميه، إن صح التعبير، ويموضعه في قلب وبداية عرضه مباشرة:

( لازالت الظلمة حالكة، وعما قليل سوف يطلع الفجر، شحاذة عجوز، مختبئة تحت ثيابها، جاثمة على الأرض في زاوية من الزوايا، إنها كارمن، تضع أمامها مختلف الأشياء، وفي نفس الوقت، نسمع غناء مقطع الورق).(نص تراجيديا كارمن)

ربما إنه ليس من قبيل الصدفة، أن يبدأ العرض بهذا المشهد. فهو، أي بروك ، يعطي بعض الأهمية منذ البداية لجانب السحر في تراجيديا كارمن، هذا بالإضافة إلى أن تلك الشحاذة العجوز التي تقوم بطقوس سحرية، تكشف عن كارمن، الشخصية المركزية في العمل. ومن خلال هذا المشهد أيضا يتم التمهيد لمشهد (الحفل السري) الذي سيجري فيما بعد. نشاهد في هذا المشهد، نارا مشتعلة ودائرة مرسومة على سطح الأرض، إشارة إلى مكان حب كارمن ودون جوزيه تحت تأثير الشعوذة والسحر. ولا بد من التذكير إلى أن هذا المشهد على هذا النحو، لا وجود له لا في قصة ميريميه ، ولا في أوبرا-كوميك لجورج بيزيه. إذن إن الغرض من الإضافات التي قام بها بروك وجان كلود كاريير، في الأساس، هو خلق مناخ مماثل وقريب إلى مناخ قصة ميريميه، وإعطاء بعدا دراميا وجماليا للإحداث بدلا من السرد والوصف, ولهذا السبب بالذات نلاحظ أن بروك لم يتخذ من فن السرد المستخدم في كارمن ميريميه، كأس له في بلورة عمله، بل إنه تجاوز معلمين أساسيين في القصة: وجود وقائع سردية في الأحداث، وتقديم دون جوزيه كسارد أساسي للإحداث. وبهذه الطريقة تجنب بروك الجانب الملحمي الموجود في قلب قصة ميريميه ولم يستخدم من هذه الأخيرة سوى قصة حب كارمن ودون جوزيه. أي إنه حَولّ عناصر السرد بطريقة أصبحت فيها عناصر أساسية في التسلسل الزماني للإحداث، من خلال إدخال المتفرج بالإحداث مباشرة، دون اللجوء إلى التحضير والتزويق الذي يمكن أن يزرع لدى هذا الأخير الضجر، لاسيما أن (الضجر هو الشيطان)[15]. بالإضافة إلى ذلك، إن بروك ومعاونيه، قد أضافوا بعض الأحداث والمشاهد، مثل: المعركة التي تدور بين الغجرية كارمن وصديقة طفولة دون جوزيه ميكائيلا، التي تجرح في وجهها. إن هذه المعركة ليس لها وجود لا في أوبرا-كوميك ولا في قصة ميريميه. وكل ما يوجد في هذين العملين، هو أن كارمن تخوض معركة مع إحدى العاملات اللواتي يعملن في مصنع صنع السجائر، وإن هذه المعركة تدور خارج المسرح، أي في الكواليس، ولا نرى منها أو نسمع منها سوى المؤثرات الصوتية.(الفصل الأول، مشهد رقم 8، أوبرا-كوميك). في حين أن في  تراجيديا كارمن، يحدث الشجار، بعدما تنتزع ميكائيلا السيجار من يدي كارمن وتدوسه بقدميها. من خلال هذا العمل الذي تقوم به ميكائيلا تصبح هذه الأخيرة منافسا لكارمن بشكل علني، لاسيما، إنها تصرح في هذا المشهد، عن حبها بكل عنف ووضوح لدون جوزيه، الذي يتسبب في المعركة، بعد مغازلة كارمن له ومحاولة إغوائه. إن هذا التجديد أو التغيير الذي أحدثه بيتر بروك، قد أعطى إلى شخصية ميكائيلا حضورا دراميا أكثر مما هو في عمل جورج بيزيه، إذ جعلها تجسد الجانب المعارض والمناقض والمقابل لشخصية كارمن من الناحية الأخلاقية. وقد أجرى بيتر بروك أيضا، تغييرات على توالي الإحداث، بإضافة بعض المشاهد غير الموجودة في أوبرا-كوميك: (دون جوزيه يمضي بعض الوقت في السجن). نلاحظ في قصة كارمن لميريميه، أن دون جوزيه يسرد قصة وجوده في السجن مستحضرا، في المقام الأول، حالته الذهنية والمساعدات التي قدمتها له كارمن أثناء وجوده في السجن. أما في أوبرا-كارمن لجورج بيزيه،  يشار إلى موضوع سجن دون جوزيه من خلال تلميحات بعض الشخصيات. في حين أن بيتر بروك اختار أن يقدم مشهد دون جوزيه وهو في السجن لغرض الكشف عن حالة  التدهور الذي يمر بها من جراء حبه لكارمن. من خلال هذه التغيرات التي قام بها تمكن بروك من خلق بعض التوتر التراجيدي في تسلسل الأحداث وعرض الشخصيات، على غرار التراجيديات الشكسبيرية. هذا بالإضافة إلى إن بروك وجان كلود كاريير قد اختراعا مشهد (حفل سري في الليل)، الذي لا وجود له في أي مكان، لا في كارمن ميريميه ولا في أوبرا-كوميك. إن هذين العملين، على سبيل المثال، لا يظهران أبدا حالة الحب والوئام التي نشئت ما بين كارمن ودون جوزيه، ولا يوجد فيهما سوى مشاهد الإغواء، والخصام، والفراق، والرجوع إلى بعضهما البعض، مثلما لا نرى أبدا الجانب الايروسي الغريزي للعلاقة بشكل كامل أو شبه كامل. إن بروك الوحيد الذي حاول أن يظهر هذا الجانب من خلال مشهد (حفل سري في الليل)، وأن يظهر مصائر أبطاله، بالطريقة التي تذكرنا بالمسرح الإليزابيثي. وباختصار، إن بروك حاول أن يصنع نوع من التوازنات الدقيقة بين الطرفين، وإنشاء تكافؤ منطقي وموضوعي لصداماتهما، ومن أشد هذه المواجهات العنيفة، هي تلك التي تقع في نهاية العمل، عندما ترفض كارمن أن تتبع دون جوزيه. (كارمن الآن عشيقة مصارع الثيران اسكامليو. دون جوزيه يعود لإقناع كارمن بأن تترك مصارع الثيران وتتبعه، ولكنها ترفض وتقول له بأنها لم تعد تحبه. دون جوزيه يصر. كارمن لا تزال ترفض. فيقتلها) (تراجيديا كارمن).

لقد حافظ بيتر بروك على النهاية التي رسمتها أوبرا-كوميك لجورج بيزيه، ولكنه في نفس الوقت أجرى عليها بعض التغيرات المهمة، تتمثل في مقتل مصارع الثيران اسكامليو في حلبة المصارعة من قبل الثور. على العكس تماما لما جاء في أوبرا-كوميك التي تعلن نهايتها عن انتصار مصارع الثيران، وكل هذا يجري في الكواليس، حيث نسمع صدى هذه المعركة والانتصار أثناء المشهد الأخير الذي يدور بين كارمن ودون جوزيه. إن تزامن الانتصار والموت في هذه الأوبرا، يخلق النقيض الذي يكمن وراء نهاية كل كارمن. إن هذا التعارض لم يحتفظ به بروك في عمله ولم ينظم أحداث عمله وفقا لعلاقة التزامن والتباين بين الانتصار والموت، ولكنه تسلسل لا مفر منه. إن موت مصارع الثيران له وظيفة تشير وتجعل كارمن توافق على مرافقة دون جوزيه وتتحمل مسؤولية موتها الخاص، في حين أن نهاية قصة ميريميه تختلف عن نهاية أوبرا-كوميك وتراجيديا كارمن وخاصة من حيث الشكل، لأن كارمن في قصة ميريميه هي أيضا ترفض السفر مع دون جوزيه إلى أمريكا، لكي تعيش معه حياة جديدة ومختلفة، ولكن المضمون والمظهر يبقى هو نفسه أيضا في جميع الإعمال الثلاثة. ( بدء حياة جديدة، بعيدة من هنا، وفي أماكن وتحت سماوات أخرى )[16]. وعلى الرغم من رفض كارمن لمقترح دون جوزيه، لكنها توافق على متابعتها لملاقات حتفها إلى درجة إنها تختار هي نفسها مكان موتها. وهذا ما أختاره بيتر بروك لختام عمله التراجيدي وليس كلام دون جوزيه بعد قتله لكارمن، مثلما في أوبرا-كوميك.

المرحلة النهاية

دون شك، بالنسبة لبيتر بروك، لا توجد مرحلة نهائية للعمل الفني، وهذا ما يجعل الجدل مستمرا، ومثلما يقول كلود كاريير: (إنه من الصعب بالنسبة لنا أن نعرف متى ينتهي الإعداد والتعديل، ومتى يبدأ الإخراج)[17]. ونسأل بدورنا، ماذا يمكن أن تكون الرؤية الجديدة التي منحها بروك لكارمن من خلال التغيرات والتعديلات التي أجراها مع معاونيه في مختبرهم المسرحي ؟، خصوصا ونحن نعرف أنه منذ أن أسس المركز الدولي للبحوث المسرحية، لم يتوقف مع معاونيه، عن السعي لبناء لغة مسرحية جديدة خاصة بهم، من دون التجاوز على المؤلف وإلغاء دوره، وإصرارهم على العمل معا، أي مع المؤلف أو نصه في شكل ومظهر يتناسب مع (الحقيقة المسرحية) ، التي يبحثون عنها باستمرار. ولهذا السبب نجد أن بروك يقسم النص إلى مراحل: مناقشة النص، الحذف والإضافات والتعديلات التي يراها ضرورية لعمل الإعداد. يقول بروك: ( أنا لا أريد أن أجعل مجموعتنا تحل محل المؤلف، بعد أن رأينا اليوم أن هناك مزايا وعيوب في عمق الخلق الجماعي. إنه يمكن أن يقدم لنا كل أنواع النتائج، ولكنه لا يحل محل المؤلف)[18].

البعد الإليزابيثي في تراجيديا كارمن

إن بيتر بروك، منذ أن أسس المركز الدولي للبحوث المسرحية، وهو يتعامل مع نصوص شكسبير وتشيخوف. وهذا ليس بالغريب أو المفاجئ، لأن تاريخ المسرح، بالنسبة له، يمر عبر ثلاث قمم: الإغريق، وشكسبير، وتشيخوف. وهذا يعني، إنه قد يكون قادرا على العثور على ما يبحث عنه بإتباعه لهذا التوجه. لاسيما أنه يقول: ( إن علاقتي مع الأدب الدرامي، تبقى حتى يومنا هذا علاقة ذات موقف استفزازي نوعا ما وقاطع). إذن، بالنسبة بروك، لا يوجد إلا شكسبير وتشيخوف. هذين النقيضين اللذين لا توجد بينهما خلافات عميقة. وفي كلتا الحالتين، ومن أجل أن نتكلم بطريقة أخرى، إن في نصوص هذين العملاقين اللذين يعتمدهما بروك دائما وأبدا، كل شيء يتجاوز الصورة الظاهرة. خاصة وأن المسرح بالنسبة لباقي الفنون الأخرى، يمكن أن يعتمد على الرموز. وفي مسرحيتي (بستان الكرز والملك لير)، على سبيل المثال، يوجد الرمز القوي اللازم والدقيق، مثلما لا يوجد فرق جوهري بين الرمز في نهاية مسرحية (بستان الكرز)، عندما نشاهد الخادم العجوز (فيرس)، بعد أن يذهب الجميع الذين اصطحبوا معهم زوبعة الحياة إلى مكان أخر، يبقى وحيدا، في هذا المنزل الذي التبست عليه وفيه الرؤية. فيتمدد على مصطبة قديمة، وهو يردد: (الحياة قد مرت، كما لو أننا لم نعش) .. وهنا يكمن كل ما كان يريد أن يقوله تشيخوف. وبين شخصية (غلوستر) الذي أدى غدر إبنه غير الشرعي له إلى اقتلاع عينيه في مسرحية،(الملك لير). ولعل الناقد (يان كوت) أفضل من يبرز الجوانب المعاصرة في هذه المسرحية، إذ يقول: ( هناك أثنتا عشر شخصية رئيسية، ستّ منها خيّرة وعادلة، وست منها شريرة وظالمة. هذا التقسيم منطقي وتجريدي كما في المسرحيات الأخلاقية القديمة، غير أن الملك لير، مسرحية أخلاقية يتحطم الجميع في النهاية، الفضلاء مع الرذلاء، الظالمون مع المظلومين، المعذِّبون مع المعَّذبين. والتشريح يستمر إلى أن يخلو المسرح بالمرة … ولكن قبل أن يتم ذلك، يجب اقتلاع الشخصيات كلها من مراكزها الاجتماعية وجرّها إلى المهانة الأخيرة. عليها أن تبلغ الحضيض الصخري. وليس هذا السقوط مجرد أمثولة فلسفية، كقفزة غلوستر في هوّة المهانة الأخيرة. فموضوع السقوط يستمر به شكسبير بعناد، وتماسك، ويكرره أربع مرت على الأقل. فالسقوط هو، في الوقت نفسه، مادي روحي، جسدي واجتماعي)[19]. إن الخادم العجوز (فيرس) و(غلوستر) الذي يقتلع عينيه، كليهما يقدمان بشكل رمزي ومادي ملموس مصير الكائن البشري. إن هذا التوجه الذي يتبعه بروك، وهذا الاختيار المعتمد من قبله، يطبقه حتى على النصوص الأخرى التي لا تكون بالضرورة من تأليف شكسبير وتشيخوف، مثل: مسرحية (الأيك)، (مؤتمر العصافير) و(المهارباراتا). في الواقع إن هذه النصوص ليست ذات أصل مسرحي، وإنما هي نصوص تم إعدادها وتكييفها، بطريقة جعلتها تتوافق وتتلاءم مع بروك وجان كلود كاريير وتوجههما المختبري. وهذا ما حدث مع قصة كارمن التي أصبحت عملا جديدا بعد كل التغييرات والحذوفات والإضافات التي أجريت على القصة الأصلية وعلى أوبرا-كوميك. وهذا يعني، إنها أصبحت عملا جديدا ويختلف اختلافا جذريا، على الرغم من عثورنا على الأصل في قصة ميريميه وخاصة في أوبرا-كوميك لجورج بيزيه. إن تراجيديا كارمن تعتبر مشروعا فنيا آخر، إنها عمل غنائي يعيش في ظل ظروف مختلفة، لأنه وبكل بساطة، يتبع نظاما وتوجها مسرحيا جديدا في كل شيء. إن العنوان وحده، يشير مباشرة وبلا إنكار إلى البعد التراجيدي لكارمن، بل، إننا نكتشف من خلال العنوان نفسه قرب هذا العمل من التراجيديات الشكسبيرية، مثل: تراجيديا هاملت، وتراجيديا ماكبث، وتراجيديا كوريولان، وعطيل، وإلى أخره . مثلما إن العنوان يشهد بطريقة واضحة على رغبة بيتر بروك  في التأكيد على حالة العمل الاليزابثي. وبالإضافة إلى العنوان، هناك أيضا، خصائص المسرح الاليزابيثي، التي يتعدد فيها فعل القتل، ويكثر الموت، وينتشر العنف والوحشية. إن هذه السمات والمميزات جميعها نشاهدها في جميع محطات عمل تراجيديا كارمن، وخاصة موضوع الغيرة وليس هناك موضوع أشد إثارة من الغيرة الجنسية التي تتصاعد إلى ذروة من اللوعة والألم لدى دون جوزيه، فتجعله يشعر بالعار والمهانة، تدفع به إلى الجريمة تلو الجريمة، فتتحول عاطفته إلى مزيج معذب من التوق والكراهية إزاء حبيبته كارمن فيقتلها.

 

إن فعل الموت في كارمن جورج بيزيه، لا يقع إلا في نهاية العمل، عندما يقتل دون جوزيه كارمن بعد رفضها إليه. وهذا الموت، هو الوحيد في أوبرا-كوميك، والذي يختم به العمل. ويعتبر هذا القتل، أي موت كارمن، مهما وأساسيا بالنسبة لمعمارية العمل الداخلية. في حين نجده في تراجيديا كارمن يتكرر، وبقدر ما يقع،  يُخرج ويبعد دون جوزيه من سياقاته الاجتماعية لدرجة أنه يتحول إلى قاتل ويشبه إلى حد كبير شخصية مكبث لشكسبير، إذ أن كليهما قاتل، ويساقان من جريمة إلى أخرى، دون أن يتوهما بان لديهما أي مبرر لفعلهما، او إنهما كانا يعرفان بالضبط ما يفعلان، بألم وعلى مضض، كما لو أن ما يقومان به هو واجب مريع.

وقد رسم بيتر بروك وجان كلود كاريير شخصية دون جوزيه بطريقة جعلت منه بطلا تراجيديا، عندما زامنا فيه بين الحب والموت، فهو بمجرد ما يقع تحت إغراء كارمن، تبدأ حياته بالتدهور بشكل متتالي. ويصبح كلما يقترف جريمة قتل تتدهور حياته أكثر فأكثر. فجريمة القتل التي ارتكبها في شبابه، أبعدته عن قريته وأقصته عن مكان طفولته، وقتله للضابط زينغا أخرجته من الخدمة العسكرية، وقتله لكارسيا رجل كارمن أبعده عن كارمن وأطفأ جمرة الحب بينهما. وقد حدث هذا التدهور المتسلسل بشكل تدريجي إلى درجة أن فقدت هذه الشخصية، في النهاية، كل علاقاتها. وقد استنطق بيتر بروك في هذا العمل المأساوي الغنائي أيضا ، فعل الحب والموت، والخيانة، والوحشية والعنف، مثلما ناقش آلية مصير شخصياته بكيفية تشبه إلى حد كبير آلية مواضيع شكسبير، وإذا كان قد نجح في إعطاء هذا العمل بعدا وطابعا اليزابثيا،إن صح التعبير، فالفضل يعود بجزء كبير منه إلى اشتغاله على نموذج ميريميه القصصي. وإذا كان ميريميه قد دعا القارئ لاكتشاف عادات الغجر في أسبانيا عام 1830، وجورج بيزيه دعا المشاهدين لمرافقته في تأمل طويل حول مصير امرأة حرة، فإن بيتر بروك قد جرّ شخصياته والجمهور في نفس الوقت، في رحلة مذهلة ورائعة إلى جانب الموت، من خلال قضائه على كل الألوان المحلية، ومحافظته على الحلقات الأكثر عنفا من القصة. ومن أجل خدمة هذه الأفكار وهذا التأمل، إختار بيتر بروك، الرصانة الكلاسيكية، والتقشف في الديكور، والأزياء، ولعب الممثلين/المغنين. إن عمل بروك، في تراجيديا كارمن، قد برهن أيضا، على أن الأساطير القديمة يمكن أن تحيى من جديد، تحت أشكال جديدة، وإن الفن الغنائي، ليس محكوم عليه بالسجن في ماضيه مدى الحياة.

[1] –  André Bazin, Qu’est-ce que le cinéma ? Paru en : Janvier 1975 à Paris, Edition CRF. Collection « Septième Art » N° 60.p.7.

[2] – Peter Brook, Points de suspension, édition Seuil, Paris,1987,P 270.

[3]– André Bazin, Qu’est-ce que le cinéma ? Paru en : Janvier 1975 à Paris, Edition CRF. Collection « Septième Art » N° 60.p.10.

[4] – Anne Ubersfeld, Lire le théâtre, édition sociale, Paris, 1977, P.14.

[5] – Peter Brook, espace vide, Edition seuil, Paris 1977.P 25.

– جورج بيزيه، مؤلف موسيقي فرنسي ولد في القرن التسع عشر في باريس ،25 أكتوبر 1838، وتوفي في 3 حزيران 1875، وهو مؤلف موسيقي لأشهر أوبرا فرنسية في العالم (اوبرا كارمن).[6]

– لودفيك هاليفي، ولد في باريس 1 يناير 1834، وتوفي في باريس 7 مايو 1808، وهو كاتب مسرحي، وواضع كلمات للاوبريتات، وروائي فرنسي.[7]

– في باريس  21 فبراير 1831، حيث توفي 6 يوليو 1897، وهو كاتب مسرحي وواضع كلمات للاوبريتات، والأوبرا الفرنسية.[8]

– بروسبير ميريميه، ولد في باريس في 28 سبتمبر1803، وتوفي في مدينة كان الفرنسية في عام 1870 وهو كاتب ومؤرخ وعالم آثار فرنسي.[9]

[10] مجلة العالمين، مجلة فرنسيةـ -تأسست في عام 1829 من قبل فرانسيس بلوز ، وتعتبر اليوم أقدم مجلة في أوربا .

[11] – كارمن، بروسبير ميريميه، (الأدب الكلاسيكي)،دار نشر فلاماريون، عام 01/01/1999,

[12]– جورج بيزيه، لودفيك هاليفي، هنري مالهايك، (كارمن)، باريس، مجلة مقدمة المسرح، عدد خاص بالأوبرا، شهر مارس-ابريل، 1980، عدد 26. 66.

[13] – إن هذا النص موجود في كتيب برنامج العرض الذي وزع على المتفرجين قبل العرض.

[14] – جورج بيزيه، لودفيك هاليفي، هنري مالهايك، (كارمن)، باريس، مجلة مقدمة المسرح، عدد خاص بالأوبرا، شهر مارس-ابريل، 1980، عدد 26. 66.

– بيتر بروك، الضجر هو الشيطان، أراء في المسرح، السلسلة المسرحية للدراسات، ترجمة محمد سيف- الشارقة: دائرة الثقافة والأعلام، 2006.[15]

– كارمن، بروسبير ميريميه، (الأدب الكلاسيكي)،دار نشر فلاماريون، عام 01/01/1999.[16]

[17] – حوار مع جان كلود كاغيير، مجلة تلغراف الفرنسية، عام 1999.

[18] – حوار مع بيتر بروك، مجلة المسرح ، باريس 2000.

– جبرا ابراهيم جبرا،المسرح في السينما

#من خلال أوبرا كارمن   لبيتر بروك

#الدكتور _محمد _سيف _باريس

#دراسات

المصدر: موقع الخشبة

 

#إذا كان بالإمكان إعداد الرواية إلى السينما أو القصة القصيرة أو الظاهرة الاجتماعية، فبالإمكان أيضا إعداد وتكيف العمل المسرحي إلى السينما. وقد لجــأت السينما في بداياتها إلى الإرث الأدبي المسرحي، حيث لعب هذا الأخير دورا أساسيا في تطوير وبلورة الإنتاج السينمائي. عند هذه النقطة، بإمكاننا الإشارة إلى قول أندري بازان في كتابه (ما هي السينما) 🙁 إلى أن السينما شابة، في حين أن الأدب، المسرح، الموسيقى، والرسم، قدماء بقدم التاريخ نفسه)[1].

وهذه الإشارة في شكلها ومضمونها، تشابه ما بين السينما في طفولتها الأولى وحالة الطفل الذي أول ما يبدأ بتقليد الكبار الذين يحيطون به. لقد اتخذت السينما  في بدايتها الفنون الأخرى كقدوة لها، وبدت منذ الطفولة الأولى مثل نتاج ونتيجة لمحددات معينة في تطور الفن وخضعت لجميع التأثيرات التي مورست عليها من قبل الفنون المتقدمة عليها والسابقة لها. أي أن السينما هي محصلة الفنون جميعها، بعناصرها من صوت وصورة، وكلمة وموسيقى.

إذن،إن الأدب المسرحي أخذ نفس المسار الذي اتخذته الرواية في طريقة إعدادها إلى السينما.  ولكن الفارق بينهما، هو أن الرواية بطبيعتها تحتاج إلى صياغة وتحضير جديد لتحويل الكلمة إلى صورة، في حين أن العمل المسرحي يعتبر في حد ذاته عرضا ولا يحتاج إلا أن يكون مصورا. وهذا ما يشرح لنا سر الفتنة والإغراء الذي مارسه المسرح على المخرجين السينمائيين، الذين انتهوا أو توصلوا  إلى خلق ظاهرة أطلق عليها النقد آنذاك ظاهرة ( المسرحية المصورة) التي دفعت بالسينما نحو السكون والخمول الإبداعي، إذ جعلت دورها ينحصر في حدود أرشفة المسرحية أرشفة بسيطة، خالية من الإبداع. وقد حكم على هذه الظاهرة بالفشل منذ البداية لأنها كانت تقوم بتصوير العرض المسرحي تصويرا  فوتوغرافيا، على الرغم من الكاميرا التي كانت تحاول أن تنسينا مقدمة المسرح (الرمب) والكواليس.

إن الأفلام الوحيدة التي عرفت بعض النجاح، هي تلك التي قام مخرجوها بأنفسهم بعمل إعداد ابداعي وتحضيري للعمل المسرحي، بتعاملهم معها بنفس الطريقة التي كانوا يتعاملون فيها مع القصة، وهذا يعني، أن المخرج السينمائي لم يبقِ من العمل المسرحي إلا على الشخصيات والحدث. وهنا ظهرت مشكلة الامتثال (أو عدم احترام) الطبيعة المسرحية للعمل من قبل المخرج السينمائي. إن هذا الامر لا يعتبر ضارا بالنسبة للسينما بقدر ما هو ضار، بكل تأكيد، بالمسرح. وهذا ما شكل واحدة من المشاكل التي واجهت الإعدادات السينمائية للأعمال المسرحية. إن هذا التجديد أو التعديل، إن صح التعبير، جعل النقد يحتج على طريقة التدخل السينمائي في روح العمل المسرحي، ولكن بلا جدوى، لأن نسبة الأعمال الكثيرة التي عرفت النجاح والكمال السينمائي قد قلل من حدة واعتراض النقد، وجعلت السينما تقترب كثيرا من الأدب، ببقائها مخلصة للمناخ الخاص للعمل المسرحي والسينمائي بشكل كلي.

بلا شك إن للمسرح وسائله الخاصة والمختلفة عن السينما، لاسيما أن الأداة الأساسية للمسرح كانت دائما هي اللغة وليس الصورة، فضلا على، أن تأثير العمل المسرحي على المتفرج ليس هو نفسه تأثير السينما عليه. لهذا السبب بالذات أن الاختلاف في مجال التكوين الجمالي بين السينما والمسرح، جعل عملية البحث عن نقاط التقاء وتقارب وتعادل في القيم، يكاد أن يكون صعبا وحساسا جدا. لأن هذه الاختلافات الهيكلية تحتاج أيضا إلى شعور إبداعي ومخيلة خصبة من جانب المخرجين السينمائيين الذين من أجل أن يصنعوا فيلما ناجحا، يتوجب عليهم، أولا وقبل كل شيء، أن يخلقوا لغة تعبيرية أخرى وأن لا يكتفوا بمجرد تسجيل بسيط ومسالم للعرض المسرحي. وذلك لأن احترام، العمل المسرحي، مثلما يقول أندري بازان، في كتابه: ما هي السينما؟: ( لا يعني فقط تصويره مثلما هو، لأن القيام بـ(عمل المسرح) بطريقة صحيحة، اصعب بكثير من القيام بـ(عمل سينما). وبالنسبة لأندري بازان، إنه لا يمكن فصل السينما عن المسرح بسبب فجوة جمالية لا يمكن تخطيها، علما أن المخرجين في مثل هذه الحالة، يواجهون نوعين من المواقف النفسية، الذي يتوجب عليهم أن يحكما السيطرة عليهما. إن المسرح يعزز المفاهيم، في حين أن السينما تنطوي على تحديد الهوية. فالممثل على سبيل المثال، يكون حضوره في المسرح مباشرا وفي السينما غير مباشر، بما معناه: إن الشاشة السينمائية تعيد عملية حضور الممثل بطريقة الانعكاسات المختلفة التي تحصل في المرآة بعرضها للصورة على واجهة سطحها المصقول، أي أن ما نفقده كشاهد مباشر في المسرح، نحصل عليه في السينما بتأثير مختلف كل الاختلاف، بفضل التقارب الاصطناعي الذي يسمح به التكبير في الكاميرا (في اللقطات المقربة واللقطات البعيدة، والخ). إن الشخصيات التي تطالعنا بها الشاشة، هي بطبيعة الحال، لتحديد هوية الكائنات، بينما تلك الموجودة فوق خشبة المسرح هي كائنات مُعَارضَة عقليا. وإن الحضور الفعلي للممثلين في المسرح يعطي واقعا موضوعيا، ومن أجل تبديلها وقبولها ككائنات قادمة من عالم وهمي، يجب أن تتدخل رغبة المشاهد بنشاط وأن يكون مستعدا هذا الأخير لتجاهل واقعهم المادي. إن المتفرج في السينما يتجه بشكل عام إلى التعاطف مع بطل الفيلم من خلال عملية الانصهار بالحدث بشكل نفسي تكون نتائجه تحويل جمهور الصالة إلى (حشد) وتوحيد مشاعرهم، لأن قوة الصورة، مثلما يقول بيتر بروك: ( تبلغ حدا أن تغمر المتفرج تماما، ولا يمكن أن يفكر فيما يراه، إلا قبل أو بعد حدوث التأثير، أما في لحظة حدوثها فلا يمكن أبدا، فحين تكون الصورة حاضرة بكل قوتها، وفي تلك اللحظة الدقيقة التي يتم استقبالها، لا يستطيع المرء أن يفكر أو يحس أو يتخيل أي شيء آخر)[2]، لهذا يمكننا القول بان السينما تهدئ وتسكن المشاهد، في حين أن المسرح يثير ويهيج المشاعر. وحتى لو أن المسرح ناشد الغرائز الاكثر قربا من المتفرج، لا يمكن أن يحول الصالة إلى (حشد) ولا يمكن أن يوحد المشاعر، لأنه يحتاج دائما، إلى ضمير الفرد النشط، ومشاركته الفعالة في الحدث مباشرة، في حين أن مشاهدة الفيلم السينمائي لا تحتاج إلا للمشاركة العضوية السلبية الساكنة. وإن الفيلم عندما يروج ويفضل عملية التماهي مع البطل فإنه يعارض المسرح. إذن، إذا كانت السينما تشجع وتفضل المتفرج السلبي الساكن، فإن المسرح على عكسها، يعمل على إثارة وعي المشاهد ويسعى إلى تخفيف حدة التعارض النفسي بين المشاهد والبطل.

ثم إن نجاح (المسرح المصور) لا يمكن أن يتم من خلال عملية التبديل والتحويل التي تمر عبر النص والممثل، هاتين الركيزتين الأساسيتين، إنما المشكلة تكمن في تحويل ونقل الفضاء المسرحي الى وفي المعطيات الاخراجية السينمائية للتعبير عن المسرحة الدرامية. إن المشهد في المسرح هو المكان الذي تقدم فيه المسرحة الدرامية والمحمولة من قبل الكلمة التي يؤديها الممثل. وإن صالة المسرح، والديكور، يستخدمهما هذا الأخير مثل صندوق لصدى ترددات صوته. في حين أن الإنسان في السينما ليس هو بضروري مثلما هو في المسرح، وإن الفضاء في السينما هو المهيمن. وإن عملية نقل النص والممثل في لا نهائية الأثير السينمائي، يفقد هذين العنصرين الاساسيين قوتهما الموجودة في المسرح.  ويقول اندري بازان: ( ليس هناك ما هو أسوأ من المسرح المصور في الديكور الطبيعي الذي يخمد النار في طاقة الكلمة)[3]. وذلك لأن اللانهائية التي يحتاج إليها المسرح لا يمكن أن تكون مكانية، ولا يمكن أن تكون إلا في وجود النفس البشرية.

على الرغم من العلاقة القديمة ما بين المسرح والسينما، واشتغال مخرجي المسرح في السينما وإنتاج تجارب خارقة للعادة، ورغم نقاط الالتقاء والتقارب بينهما يبقى الاختلاف شاخصا، ليس على المستوى الصناعي والواقعي للسينما، وتأثير كل منهما على المتفرج وإلى أخره، وإنما على صعيد مفهوم الإخراج نفسه. إن مفهوم (الإخراج) حديث، ومن الصعب حصره في تعريف أو شرح بسيط، لأنه وبكل بساطة يشتمل على أشياء كثيرة جدا. ومنذ ظهور المخرج (وهل هي مصادفة، أن يظهر المخرج الآن ؟)، هذا المتفرج المُمَيز، هذا المتفرج المدهش الذي صارّ يتدخل لوضع أو إزالة معنى الحلم على الخشبة. إن المخرج هو الذي يضع الممثل على المسرح ثم يختفي وراء الكواليس، إنه يتركه لمواجهة الجمهور بمفرده، ولكن بمحبة، بعد أن يرعاه ليحمله، في نهاية المطاف، مسؤولية كتابته الركحية. بلا شك، إن عمل ودور وقوة المخرج هو أعظم اختراع في هذا القرن، إنه ظاهرة جديدة وكارثية في آن واحد، لم يسبق لها مثيل، لأنها أعطت للمسرح لونا جديدا، لم يكن موجودا من قبل. إن المخرج غيرّ رؤيتنا للأشياء مثلما فعل الرسام فان كوخ عندما رسم الشمس وحقول عباد الشمس، والرسام سيزان، عندما صور الجبال بحيث لم نعد نراها مثلما كنا نراها من قبل، علما، إنها لم يطرأ عليها أي تغير وهي نفسها منذ الأزل، ولكن رؤيتنا هي التي تغيرت بفضل اللمسات الفنية التي وضعها هذين الرسامين فوق سطوح لوحاتهما. نفس الشيء ينطبق على الممثل، فمنذ أن ظهر المخرج، ونحن لم نعد نراه مثلما كنا نراه سابقا، ومع ذلك وعلى الرغم من كل شيء، يبقى دائما وأبدا جسدا للكلمات والأنفاس التي تكشف لنا الرؤيا.

إن السينما، التي هي بمثابة معمل جماعي، يكون المخرج فيه المؤلف الأوحد والمطلق، وجميع العاملين فيه على اختلاف مستوياتهم وإمكانياتهم، ليس إلا مجرد أدوات في خدمة رؤيته. وإن العديد من الأشخاص الذين تساءلوا حول هذا الموضوع، اعتقدوا أن عمل المخرج في المسرح هو نفسه أو بالأحرى يشبه عمل المخرج في السينما. لسوء الحظ، أن جميع هؤلاء قد مروا بالقرب من الحقائق الافتراضية الغنية للشكل المسرحي. لأن العديد من المخرجين الذين اشتغلوا في حقل المسرح، اعتقدوا في البداية، أن دور المخرج ينحصر في استعمال وتحريك جميع الوسائل التي وضعت في حوزته من : إضاءة، ألوان، أزياء ديكور، مكياج، حوار وتمثيل، كما لو أنه أمام آلة كاتبة أو بيانو. وإنه بمجرد ما يجمع العناصر التعبيرية يستطيع أن يبدع أو يخلق لغة الإخراج، حيث الممثل الذي هو اكثر من جوهري وأساسي يتبع ويخضع لجميع العناصر النحوية الأخرى. وهذه هي فكرة المسرح الشامل الأكثر بلوغا ونضجا.

إن المسرح كحدث يحتوي على إمكانية وضع وجهة نظر فريدة محل العديد من وجهات النظر المجاورة والمختلفة، مثلما بإمكانه أن يظهر العالم بأبعاد متعددة، في حين أن السينما، تبحث عن التأثير التجسيدي، وتكتفي ببعد واحد. (إن  المسرح يحصل على قوته وكثافته من تفرده وتكريسه نفسه لهذا العالم العجيب الذي يعمل على إبرازه والكشف عنه. مثلما ينتج ظاهرة قريبة من ذلك المنهج الأحادي التعبير الذي يرمم الشكل الخارجي للأشياء، بفضل تشابك وتداخل حزم إشعاعية. وعندما نفهم لحظة من الحياة فيه، في قمة كمالها المقنع، يحدث ويتفجر لدى المتفرج والممثل نوع من تعاقب المصادر المختلفة، التي توجه نحو نفس النقطة وفي ذات الوقت). وبمجرد اجتماع بسيط لمجموعة من الشخصيات، أول ما يظهر ويبدو للعيان، الحاجز المنيع بين مختلف وجهات النظر. هذه هي مادته الأساسية التي سوف تسمح فيما بعد، أي بعد جريان الأحداث، بإثارة وشحذ وجهات نظر متناقضة.

لهذا نطلق على المسرح بفن المفارقة. و(بإمكاننا الذهاب بعيدا ونقول إنه المفارقة ذاتها، فهو نتاج أدبي وفي نفس الوقت، عرض مادي؛ وهو في ذات الوقت، فن خالد (قابل لأن يعاد إنتاجه وتجديده دائما وأبدا) ، وهو فن آني (لا يمكن إعادة إنتاجه بنفس الطريقة التي تم تصويره فيها من قبل): لأن العرض الذي يقدم اليوم لا يمكن أن يكون أبدا هو نفسه غدا؛ فهو فن على حد قول “انتوان أرتوAntonin Artaud ” صنع لأجل عرض ونهاية واحدة. انه فن اليوم، وأن عرض الغد، الذي هو نفسه كان عرض البارحة، يُمثل من قبل أشخاص تحولوا إلى شخصيات أخرى وأمام جمهور هو الآخر مختلف؛ لهذا فإن الإخراج الذي عُملَّ أو أعتمدَّ من قبل مخرج في مسرحية قدمت منذ ثلاثة أعوام لا يستطيع أن يحافظ على بهائه الكامل ونوعيته، لأنه مع الزمن يموت وتتقادم عليه السنون، في حين أن النص نفسه يبقى، نظريا ثابتا وغير متغير، إلى الأبد)[4].

إن الحوار في المسرح يبني ويؤسس العناصر الجوهرية للمسرحية. إنه يقترح التوتر الذي يكشف عن أللاتفاق الكلي بين الشخصيتين. وهذا بحد ذاته الصراع البارع والمعلن ما بين وجهتي نظر متعاكستين. لهذا يتوجب على المؤلف أن يعطي لكل واحدة منهما نصيبها من الحقيقية وبالتساوي وإلا فستكون النتيجة ضعيفة. في المسرح، يتوجب علينا اختراق رأيين متعارضين، بنفس الفهم. لهذا على المؤلف أن يكشف عن ولعه بشخصياته، بالدخول معها في مشاركة، ووحدة شعور، مثلما يفعل تشيخوف مع شخصياته. انطلاقا من هذا، إذا وجدت عشرون شخصية في المسرحية، وإذا أعطى المؤلف كل شخصية من الشخصيات العشرين حقها بنفس القوة الاقناعية، سنحصل بلا شك على معجزة شكسبيرية،. لأن هذا ما يفعله شكسبير مع شخوصه، انه يحملها الحقيقة التي يريد الكشف عنها بالتساوي وبنفس القوة الدرامية، مثلما يقول بيتر بروك.

مقابل هذا التدرج الوفير من القيم، والمواد المكثفة، نستطيع أن نفهم عمل المخرج أكثر فأكثر. فالمخرج الذي يكفي نفسه بنفسه بوجهة نظر واحدة أو معالجة شخصية معالجة خاصة حتى وإن كانت هذه الأخيرة قوية وأساسية، ويتناسى الشخصيات الأخرى، فإنه حتما سيضعف البقية الباقية من الشخصيات والمسرحية كذلك. إذن، على المخرج أن يعتني بجميع التيارات الغامضة بالنص وبالتساوي. هذا بالإضافة إلى، أن الممثل سيحاول وبسهولة أثناء العمل أن يفرض تصوره الخاص، سواءا كان نظريا أو ما يستحوذ عليه من شعور أو فكرة، وهنا على المخرج أن يعالج الأمر بطريقة مثالية. إن المسرح بطبيعة الحال، يحتوي على مجموعة من العاملين، الذين بمستطاعهم أن يكونوا جميعا نافعين، ولكن يتوجب عليهم أولا وقبل كل شيء، أن يخدموا الهدف، الذي يعمل على إظهار الفهم الذي يتجاوز المفهوم الحقيقي لكل واحد منهم. وعندما يتحقق هذا فقط، يمكن أن نرى دور الديكور، الأزياء، الإنارة … والخ. إن هذه العناصر ستعثر على مكانها الطبيعي عندما يخرج وينتظم كل هذا الذي ولد داخل المجموعة البشرية العاملة. و(ليس هناك اكثر هدما وتحطيما للعمل المسرحي من الإقحام  التشكيلي أو الموسيقي. وهذا ما يحدث غالبا، عندما يفرض على العمل المسرحي، هذا الديكور أو تلك الموسيقى بشكل مبكر، حتى لو تم ذلك بموافقة المخرج نفسه)[5].

وبعد العديد من التمارين التي تقتضي الأسابيع تلو الأسابيع، لم يعد المخرج هو نفسه. إنه يستغني وتتسع أفاق رؤاه نتيجة لعمله مع الآخرين. لهذا إن الفعل الحقيقي والأساس لوضع الشكل شبه النهائي للعمل المسرحي لا يأتي إلا متأخرا، ولا يكون ممكنا إلا في لحظة العرض نفسها. ونعتقد أن كل مخرج من المخرجين قد عاش هذه التجربة، تجربة أن يرى عمله في آخر تمرين من التمارين متماسكا، ولكن بحضور الجمهور يصبح هذا التماسك تألقا و ترتسم شظايا لمعانه على كل الحضور، سواء كانوا في الصالة أو فوق الخشبة. إن العمل الجيد لا يعثر على نفسه إلا في العرض الأول له. وهكذا مع كل عرض يتجدد ويتأسس ويتشكل من جديد، خاصة إذا كان العامليون فيه مخلصون وأوفياء، لأنه بغير ذلك، يمكن أن تكون النتائج معكوسة، لا سيما أن العلاقة الحية مع الجمهور بقدر ما هي عظيمة وشيقة بقدر ما هي خطرة ويمكن أن تؤدي إلى التهلكة والضياع.

وهنا يكمن كل الاختلاف ما بين السينما والمسرح. في السينما كل شيء محفوظ ومنقوش على سطح شريط سينمائي قد صور ذات يوم، الصورة فيه والفعل ثابتين لا يتحركان، في حين أن العرض المسرحي، يأخذ شكله الحقيقي وديناميكيته من الحضور الحي للجمهور ومن العلاقة الجدلية ما بين الصالة والجمهور.

لقد أثارت العلاقة بين المسرح والسينما دائما تحليلات رائعة وعظيمة، وعندما نلقي نظرة سريعة على هذين الفنين اللذان يكادان أن يكونا نقيضين، نجد أنهما لن يفترقا منذ عام 1895، أي منذ صارت السينما الصامتة سينما ناطقة. منذ ذلك الوقت، ونحن نلاحظ منطقيا سلسلة من الإعدادات التي غالبا ما تتحقق في عجالة والتباس. ولكن ما المقصود بالمسرح والسينما ؟ وهل يمكن لنا أن نتجاهل القيود التقنية المتأصلة في كل واحدة منهما والإفلات من العقبات ؟ وهل يجب أن نعطي الحق إلى (لويجي بيراندلو) الذي عارض مادية الشخصيات في السينما والوجود البدني للممثلين في المسرح؟ وهل يمكننا المشاركة في النقاشات النظرية والجمالية حول اللقطة/ المشهد والمونتاج/السرد ؟ وهل سنتفق في نهاية المطاف على تحديد ما هو وما ليس هو اعدادا سينمائيا مخلصا للمسرح؟

الحدود الضبابية بين السينما والمسرح

إن مشكلة الاعداد السينمائي للمسرح، قد طرحت منذ البدايات الأولى اشكالية الإخلاص، والولاء، والجمال، مثلما طرحت أيضا مسألة هل ينبغي على السينما أن تكون في خدمة المسرح، أو العكس، أن يكون المسرح في خدمة السينما ؟ وبالنسبة للبعض، يتوجب على الفن السابع، إذا كان ينهل ويأخذ من المسرح، فعليه أن يعيد انتاج هذا الأخير بكل أمانة وإخلاص. وهناك بعض أخر، يختلف مع هذا الرأي، باعتقاده وإيمانه بأنه لا بد من تفجير الفضاء الزمكاني للمسرح، والديكورات، لإعطاء السينما ولادة ابداعية جديدة. إن الحدود بين هذين الفنين، تبدو ضبابية أكثر مما ينبغي، وإن المفارقة لا تنفك عن مسائلتنا، عن الكيفية التي يمكن أن نتصور فيها إعادة إنتاج الكلمة في المسرح أو استنساخها من قبل فن صامت. وقد يكون الاعتراض على أن الصمت في بعض الاحيان اكثر بلاغة من الكلمة ؟

إن السينما بمجرد ما أحست بإمكانية سرد وتقديم قصة، ألتفتت نحو الموديل المسرحي، والتصوير في الاستديو الذي يوفر لها الظروف المادية الملائمة. ولقد أخذت الكثير من المسرح، وفي أول اتصال وملامسة لها بالمسرح، استطاعت أن تستولي على العديد من العناصر، مثل: لعب الممثل، الديكور، السينغرافيا، الحوار، والدراماتورجي، وكيفتها لها بوسائل تعبيرية خاصة. وإن بناء أول صالة للسينما كان ولا يزال بمثابة امتداد لمعمارية المسرح. ومع ذلك، إن إطلاق الصفة (المسرحية) على أسلوب ونمط فيلم من الأفلام، غالبا ما يكون له دلالة سلبية عليه. ولهذا السبب بالذات، أصبحت السينما تدرك في علاقتها مع المسرح، بضرورة تفردها كفن له جمالياته الخاصة، وبين انجذابها للواقع وفخ الذرائع الكاذبة. ولهذا حاولت السينما أن تنفصل عن المسرح من خلال اهتمامها بالعديد من المظاهر والأشكال الأخرى التي نقلتها إلى الشاشة، محاولة هكذا أن تعلن عن اختلافها البسيط والصغير عن المسرح، من خلال السلطة المطلقة للتلفزيون أو ظهور التكنولوجيا الجديدة. ومع ذلك ظل العديد من السينمائيين يشعرون بضرورة المسرح في التعريف بإمكانياتهم الفنية، مثل: مارسيل بانيول، ساشا كيتري، جون رينوار، شارلي شابلن، مانويل دي أوليفيرا، وجاك ريفيت.. والخ.

يمكننا أيضا أن نذكر العديد من التجارب الناجحة في مجال الإعداد السينمائي للمسرح، مثل: جان كوكتو، أورلسن ويلز، لورانس أوليفي، وبيتر بروك،  ومخرجون وكتاب سيناريو آخرون، سواء كانوا مسرحيين أو سينمائيين قد بذلوا جهودا كبيرة في تعزيز وتقوية فكرة أن الإعداد السينمائي الناجح للمسرح لم يعد بـ (خيانة) وإنما هو نظرة جديدة للمسرح.

 علما، ومثلما ذكرنا أعلاه، أن علاقة المسرح بالسينما ليست بجديدة، لاسيما أنها قد بدأت مع الكوميديا الأمريكية التي اعتمدت كأساس على الكلمة والحالة التي تثير الضحك، بعيدا كل البعد عن الصناعة السينمائية. لهذا نجد، أن أغلب الأفلام الكوميدية الكبيرة الفرنسية منها أو الأمريكية مصدرها هو موسيقى- الهال أو مسرح البوليفار: ماكس ليندر، بوست كايتون، لوري وهاردي، شارلي شابلن… هؤلاء جميعا يدينون بنجاحاتهم السينمائية إلى تجاربهم المسرحية، وبمساعدة السينما قد حافظوا وعرضوا تقنيات موسيقى – الهال ومسرح البوليفار. مثلما بإمكاننا أن نلاحظ في الأفلام الكوميدية القديمة حضورا للمسرح بشكل بدائي، ليس على مستوى التمثيل فقط وإنما أيضا على مستوى البناء السردي للحدث. وفي نفس الوقت، لا بد من التذكير، بأن السينما قد أعطت هذه المشاهد والحالات المسرحية الكوميدية نكهة جديدة، إذ حررتها من حدود طبيعة المسرح نفسه التي تفرضها عليه الوحدات الأرسطية الثلاث: وحدة الموضوع، المكان والزمن. وهذا ما يجعلنا أن نقول، بأن هذه الحالات والمواقف الكوميدية البدائية أصبحت بفضل السينما، حالات درامية تعبيرية جديدة وانتشرت بشكل واسع النطاق، ولولا التدخل السينمائي فيها لما وصلت أبدا إلى مرحلة النضج الفني الذي شهدناه. نستنتج مما تقدم، إن العلاقة بين السينما والمسرح هي قديمة جدا، وإن من دون هذه الفترة الطويلة من الاتصال والتبلور الذي عزز الخلافات والاكتشافات بين المعسكرين، لن يستطيع لا لورنس أوليفية، ولا ألسن ويلز، ولا جان كوكتو، ولا بيتر بروك، أن يخلقوا بعض من الهارمونية والانسجام بين هذين (العالمين) المختلفين بشكل كاف، في كيفية اعداد النص المسرحي، وإداء الممثلين، وإخراج النص وتحويله إلى فيلم، وكذلك في اختلاف تأثيرهما على المتفرج.

إن تطور ظاهرة(المسرح المصور) سواء كانت في أمريكا، أو انكلترا، أو في فرنسا، وإذا كانت معدة عن الأعمال الكلاسيكية مثل مسرحية: هنري الثاني، وهاملت، وماكبث، والخ، أو المأخوذة عن الاعمال المعاصرة، مثل مسرحية: الأفعى، لليان هلمان، ومسرحية الآباء الفظيعين، ومسرحية الحبل، والخ … فهي لم تتغير، وإن ما يميز هذا التطور هو إخلاص المخرجين إلى النص المكتوب أكثر فأكثر على خلاف ما كان يفعله أسلافهم الذين حاولوا في اعدادهم السينمائي للأعمال المسرحية أن يخفوا النص الأصلي ويذوبوه في الاثير السينمائي.

ونفس الشيء يكاد أن ينطبق على الأوبرا، إذ لاحظنا، إن الطريقة ذاتها قد اتبعت في نقل الأوبرا إلى السينما سواء على المستوى العام أو الخاص: فهناك بعض المخرجين الذين قاموا بتصويرها من فوق خشبة المسرح، والبعض الأخر جعلها فيلما موسيقيا تقريبا، وهناك آخرون أيضا دفعهم إحساسهم بالواقعية السينمائية، إلى تجريدها تماما من إطارها المسرحي الضيق وتصويرها في الطبيعة الأكثر اتساعا. وهناك أيضا أولئك الذين بحثوا عن كيفية إعدادها وتكيفها سينمائيا من غير أن يمسوا طبيعتها المسرحية الموسيقية. بيتر بروك واحد من الذين كانوا ولازالوا مهتمين بإعداد المسرح للسينما، سواء كان ذلك موسيقيا أو غير موسيقيا. وحينما يتحدث عن تجربته الخاصة في هذا المجال، يقول: ( لقد اشتغلت دائما بهذه الطريقة، وعملي كان دائما وأبدا يشبه إلى حد كبير، الفارس الذي يركب حصان المسرح والسينما في أن واحد). أي انه يشتغل في الحقلين دون إلحاق الضرر بواحد من الاثنين، بل يغذي الواحد من خلال الآخر وبالعكس.

 لقد كان اهتمام بروك منصبا منذ البداية على المسرح والسينما في آن واحد. ولعل هذا أهم ما يميز انشغالاته الدائمة في المجالين، ويفسر اندفاعاته المستمرة في البحث عن كل ما هو جديد. فهو يمقت التكرار، وكل ما هو ثابت غير متحرك، ويبتعد عن كل ما هو مؤكد، ويعتقد أن كل شيء يجب أن يخضع للامتحان والتطبيق لكي يعاد اكتشافه من جديد. لهذا نراه منذ بداية حياته الفنية وهو يرفض هيمنة النظريات والعقائد الجامدة، ويحاول قدر ما يستطيع أن لا يتقيد  بأي اتجاه أو مذهب مسرحي سواء كان ذلك مسرحيا، سياسيا أو فيلسوفيا. ولقد وصل به التطرف حدَّ إن يتمرد على ما كتبه هو بنفسه في كتاب “الفضاء الخالي”، إذ يقول في كتاب ” الشيطان هو الضجر” الذي قمنا بترجمته وصدر عن دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة: ( لقد ذكرت في أول جملة دونتها في كتابي الفضاء الخالي :” يمكنني أن أتناول أي مكان خال، فأسميه مسرحا عاريا. وكل ما يقتضيه الفعل المسرحي هو أن يمشي شخص عبر تلك الفسحة في حين يراقبه شخص آخر”، إن هذا لم يعد كافيا اليوم، لقد تقادم عليه الزمن، لأننا نحتاج من اجل أن يكتمل الفعل المسرحي ويتفجر، إلى شخص ثالث يراقب عملية المرور والمراقبة التي يشترك بها الشخص الأول والثاني الذي يقوم بفعل المراقبة.) انطلاقا، من هذا المنطق المفتوح على التحول والتغير، يمكننا أن نفهم رفض وتمرد بروك المطلق لأي تخطيط أو إعداد مسبق للإخراج والتمثيل وباقي عناصر العرض. انه يعتبر المخرج الذي يأتي إلى التمارين المسرحية مع مخططات جاهزة، مخرجاً ميتاٌ خالياً من الحياة. فهو مع المخرج الذي يعمل على تنظيف حديقة الممثل من الأعشاب الميتة كي لا تقف هذه الأخيرة حجرة عثر في دربه؛ مع المخرج الذي يبحث عن العلاقة المباشرة والواضحة مع الممثل والجمهور؛ مع المخرج الذي يعمل على اكتشاف الفضاء المسرحي، مع الممثل لحظة التمرين، بل وحتى لحظة التقديم نفسها؛ مع المخرج الذي يعمل على تحرير الممثل من كل قيود، ومن كل كليشيهات النظرية الجاهزة. إن مسرح بروك، ليس بمسرح نخبوي، انه يتأسس أولا وقبل كل شيء، على العلاقة الجدلية بين المخرج والممثل والجمهور، على العكس تماما من صاحب نظرية المسرح الفقير “غروتوفسكي” الذي يحبه بروك ويحترمه خير احترام ولكن مع ذلك، هذا لا يمنعه من الاختلاف معه، لان هذا الأخير يعتمد على النوعية ويقوم مسرحه على أساس العلاقة بين المخرج والممثل فقط متجاوزا المتفرج، ذلك السيد الجليل الذي لولاه لما اكتمل أو يكتمل الحفل ولما تفجر الفعل المسرحي. إن المسرح، إذا ما افتقر إلى الجمهور يصبح مفتقرا لوجوده، فالجمهور هو التحدي وبدونه تبقى الصورة كاذبة. أليس كذلك كما يقول بروك؟

يعود بيتر بروك مع (تراجيديا كارمن) إلى الأوبرا ويقدمها في مسرح البوف دي نورد. ولكن لماذا كارمن ؟ ويجيب بيتر بروك: (إنه العمل الذي بالغ في تضخيمه القرن التاسع عشر، فحاولنا أن نتفحصه ونعريه من ثيابه من أجل اكتشافه. يبدو لنا، إن خلف واجهته الأمامية هناك تيار يمر في الأعصاب، وهذا هو معنى عملنا).

أوبرا كارمن

تعد أوبرا كارمن للموسيقار الفرنسي جورج بيزيه[6]، الأكثر شعبية بين جميع الاعمال المسرحية الغنائية، والأكثر تسجيلا، وهي أيضا الأكثر تقديما على مسارح العالم أجمع. وقد كتب نص الأوبرا لها كل من (هنري ميهاك[7] ولودوفيتش هيليقي[8]) باعتمادهما على قصة كارمن للروائي الفرنسي بروسبير ميريميه[9]. عرضت أوبرا كارمن، لأول مرة في أوبرا كوميك بـ باريس في الثالث من آذار/ مارس 1875، لكنها لم تلاق النجاح في وقتها بعد أن شجبها النقاد واعتبروها غير أخلاقية وسطحية تتعارض مع الفضيلة العليا. وقد مات مؤلفها من دون أن يعلم أن عمله سيتحول في ما بعد إلى واحد من أكبر الأعمال الفنية في مجال الأوبرا. وكان أول ظهور لقصة (كارمن) في 1 أكتوبر 1845 في مجلة (العالمين)[10]. حيث تنتهي القصة، في نموذجها الأول الذي نشر، في الفصل الثالث، مع موت بطلها (دون جوزيه). ولكن عند إعادة نشرها من قبل (كلمان ليفي)[11] في الأسبوعين الأولين من شهر فبراير 1847، ظهرت القصة بأربعة فصول وليس ثلاثة. وفي عام 1875، حول كل من (هنري مالهاك، ولودفيك هاليفي وجورج بيزيه) قصة (كارمن) إلى عمل درامي غنائي[12]. حيث تناول هؤلاء الثلاثة موضوع القصة بعد أن أعطاهم ورثة الكاتب (ميريميه) الضوء الأخضر في التصرف في النص بحرية. ولقد حاول كل من (مالهايك وهاليفي) أن يحولا النص ويعالجاه بطريقة تتماشى مع ذوق الجمهور المعتاد على أعمالهما، لكن (جورج بيزيه) منعهم من ذلك خوفا على جمال طبيعة العمل ومن ثم إفساده. وقد كان العرض الأول (لأوبرا كارمن) في3 مارس 1875 غير ناجحا، ولكنه شيئا فشيئا، وبعد أن تدرب عليه موسيقيون ومغنيون جدد استطاعوا أن يقدموه بشكل جيد وحديث، فصار العمل يفرض نفسه على الكثير من المشتغلين في هذا المجال، لدرجة إن بات في كل مرة يقدم فيها تجري عليه تعديلات وصياغات جديدة ولكنها مع ذلك، لم تستطع في مجملها أن تتجاوز القصة الأصل. إن أوبرا كارمن تحكي قصة الفتاة كارمن التي ارتبط اسم الأوبرا بها، وهي غجرية جميلة ولكنها متعالية وذات مزاج متقلب، لا تهتم بمن يحبها ولكنها تسعى لإيقاع الرجال بحبائل جمالها. وقد توددت إلى رجل من إقليم الباسك شمال إسبانيا هو العريف خوسيه نافارو الذي عشقها لتحوله من شرطي بسيط مطيع إلى شقي خارج على القانون مطلوب رأسه بعد أن ربطته بعصابة من المهربين هي عضوة فيها، ليقوده هذا الحب الجارف أخيرا إلى ساحة الإعدام..وشغلت أوبرا كارمن الكثير من الفنانين بتقديمها على خشبة المسارح وشاشات التلفزيون برؤى مغايرة. ولقد ساهمت السينما هي أيضا في تقديم هذه الأوبرا الذائعة الصيت، بحيث أنها أنتجت أكثر من ستة عشر فيلم لقصة (كارمن)، منذ عام 1907 حتى يومنا هذا.

لقد اعتمد بيتر بروك في فيلم (تراجيديا كارمن)، الذي أخرجه في عام 1984، على نسخة (جورج بيزيه، وبروسبير ميريميه، ومالهاك، وهاليفي). إنه، أي الفيلم، عبارة عن صورة للعرض الذي قدمه (بروك) على مسرح (البوف دي نورد) في عام 1981. وقد أخرجه على هيئة ثلاثة نسخ لا يختلف فيها إلا الممثلون فقط، وإن المغنين في العروض الثلاثة التي تعاقبت على مسرح البوف دي نور، قد عوملوا على قدم المساوات مثلما يقول معد النص، جان كلود كاغير: ( إن التوزيعات الثلاثة في العروض الثلاثة التي قدمت، والتي اصبحت فيما بعد ثلاثة أفلام، قد لعبوا من قبل ممثلين وممثلات مختلفين، واعتقد إن هذا يقع لأول مرة بهذه الطريقة. هذا بالإضافة إلى كونه موقف أخلاقي غاية في القوة والروعة من قبل بيتر بروك، أي لم يكن هناك مجال لأن تلعب ممثلة بدلا من أخرى. وحينما نشاهد الأفلام الثلاثة، سندرك جيدا، أن الإضاءة والكوادر السينمائية المستعملة هي نفسها في الأفلام الثلاثة).

تراجيدية كارمن

 بين الهدم والبناء والولادة

إن ما قام به بيتر بروك في (تراجيديا كارمن) ليس بإعداد بسيط وسهل لقصة ميريميه أو لأوبرا-كوميك، التي كتبها جورج بيزيه، وذلك لأن تحويل العمل الأدبي الذي يحتوي على أسلوب معين وخاص به، إلى عمل آخر مختلف ليس بالأمر السهل أو الهين. إنه حتما سيؤدي في شكله ومضمونه إلى ولادة عمل جديد له مميزاته الخاصة. وفي الواقع، إن تحويل بيتر بروك ومعاونيه للأوبرا إلى المسرح والمسرح إلى السينما، بهذه الطريقة، جعلت من التحويل الأول (النسخة المسرحية)، مثل خطوة أولى تحضيرية لمرحلة الفيلم (النسخة السينمائية)، وهذا ينطبق حتى على توزيع الأدوار:

ثلاثة ممثلات لدور كارمن.

ثلاثة ممثلين لدور دون جوزيه.

ثلاثة ممثلين لدور إسكامليو.

ممثلتين لدور ميكائلا.

وقد حافظ بروك على هذه التوزيعات التي استعملها في المسرح في الأفلام الثلاثة التي صورها لـ(تراجيديا كارمن). مثلما اعتمد مع جان كلود كاريير وماريوس كونستان، في كتابة  نص (تراجيديا كارمن)، على نماذج كل واحد منها ينتمي إلى نوع مختلف، وهنا يكمن سر العمل المعقد، إن صح التعبير.

كارمن، قصة لبروسبير ميريميه، نشرة في عام 1845، وتعتمد في كليتها على السرد.

كارمن، أوبرا-كوميك، لجورج بيزيه، وهنري مالهايك، ولودفيك هاليفي، كتبت في عام 1875، وهي كتابة درامية من حيث النوع.

قصة كارمن

دون جوزيه، عريف من مدينة أشبيليه.

تأتي ميكائيلا، حبيبة طفولته من قريتهم، وهي تحمل معها له أخبار من أمه.

تأتي غجرية، وترمي زهرة نحو العريف دون جوزيه، وتغني له أغنية الحب.

تنشب معركة بين الغجرية (كارمن) وميكائيلا، تنتهي بجرح هذه الأخيرة في وجهها,

يأمر الضابط العريف دون جوزيه بقيادة كارمن إلى السجن.

في طريقهما إلى السجن، كارمن تغوي دون جوزيه، فيتركها تهرب من السجن.

دون جوزيه يقضي بعض الوقت في السجن، وعندما يخرج يذهب للالتحاق بكارمن في إحدى الحانات، حيث يجد الضابط الذي أمر بإلقائه في السجن هناك، فيقتله ويخفي الجثة.

في هذه الأثناء، يأتي مصارع ثيران شهير يقع في حب كارمن، ويدعى اسكامليو.

دون جوزيه يغني لكارمن تعبيرا عن حبه لها، في حفل سري لوحدهم.

ثم يأتي فجأة، كارسيا، رجل كارمن.

دون جوزيه، يخرج لقتله، فيقتله.

كارمن تقرأ في حكايته قدرا تراجيديا.

ميكائيلا تعبر عن قلقها.

كارمن تصبح من الآن فصاعدا عشيقة مصارع الثيران اسكامليو.

دون جوزيه يعود لأقناع كارمن بالرحيل معه.

كارمن ترفض وتقول له بأنها لم تعد تحبه.

دون جوزيه يصر.

كارمن ترفض بشدة.

اسكامليو، مصارع الثيران يُقتل أثناء مصارعته لثور في حلبة مصارعة الثيران.

كارمن ترفض دائما مرافقة دون جوزيه في رحيله.

دون جوزيه، يفقدها حياتها، فتموت.[13]

عندما نقارن القصة التي نشرت في كتيب برنامج المسرحية الذي وزع على الجمهور قبل العرض في مسرح البوف دي نورد، مع أحداث أوبرا-كوميك وقصة ميريميه، نكتشف أن كارمن بيتر بروك تنتمي إلى طبيعة أخرى. علاوة على ذلك، إن العمل الذي قام به بروك ومعاونيه لا يقتصر على تخفيض بسيط لقصة كارمن ولا هو بملخص لكارمن جورج بيزيه، مثلما وصفه بعض النقاد، لأنه لم يكن بالعمل السهل والبسيط، الغاية منه الاستهلاك السريع. لهذا، علينا، أولا، أن نقرّ بأن (تراجيديا كارمن) ليست بخلاصة ولا هي مجرد استعارة لموضوع قصة كارمن ميريميه وتقنياتها السردية، بقدر ما هي محاولة لإحياء وتقديم عمل فني حقيقي لميريميه، من خلال فن الإعداد الذي هو هدم وبناء وولادة. وهذا بحد ذاته، ما يجعلنا نعثر على بعض الاختلافات والتشابهات النسبية في هيكلة الأحداث وتسلسلها التاريخي والسردي بين قصة ميريميه وعمل بيتر بروك، خصوصا وأن هذا الأخير، قد قام، في بادئ الأمر، بعمل مسرحية تنتمي إلى الكوميدي ميوزيكال، استنادا إلى أوبرا –كوميك لجورج بيزيه، قبل تحويلها إلى فيلم. وهذا يعني، إن عمل بروك أبعد ما يكون عن مجرد اعادة صياغة لقصة، لا سيما أنه قد أعاد هيكلة الأحداث والشخصيات وابتعد كل البعد عن السرد الوصفي للقصة. وهذا مما جعل من (تراجيديا كارمن)، تكون أكثر قربا من الأوبرا-كوميك منها إلى  قصة ميريميه، ذلك لأن بنائها إلى حد كبير هو نفسه بناء أوبرا-كوميك لجورج بيزيه: أربعة فصول متصلة بالفواصل الموسيقية.

لقد أخذ بروك من القصة بقدر ما أخذ من أوبرا-كوميك، وهذا ما يطالعنا به نص الحكاية الذي نشر في برنامج العرض: (دون جوزيه، عريف من مدينة اشبيلية)، مثلما أخذ بالمقابل، المفاصل الكبيرة لأحداث عمل جورج بزيه: وصول ميكائيلا حبيبة طفولة دون جوزيه، تواطئ دون جوزيه في هروب كارمن من السجن، وجمع شملهما في الفندق، ومشهد الحكاية التي تقرأ فيه كارمن طالعها المأساوي، وعلاقة كارمن بمصارع الثيران اسكامليو، وموتها في النهاية.

لقد حاول بيتر بروك، بشكل عام، أن يحافظ على جميع الأحداث، على الرغم، من التغيرات والتعديلات، التي قام بها واهمل الكثير من التفاصيل التي لم يجدها ضرورية لرؤيته المسرحية/ السينمائية. لأن المهم بالنسبة له، هو أن النموذجين – القصة والأوبرا-كوميك- المرجعين الأصليين اللذين يختلفان في الأسلوب والهيكل، يعالجان نفس الموضوع.

ففي أوبرا-كوميك، على سبيل المثال، توجد أثناء عشر شخصية: دون جوزيه، اسكامليو، لوغومندور، زينغا، ليلياس باستيا، شخصية الدليل، كارمن، ميكائيلا، فراز كيتا، مسيدي. في حين أن في تراجيديا كارمن توجد سبعة شخصيات فقط: كارمن، دون جوزيه، ميكائيلا، اسكامليو، زينغا، كارسيا، وليلياس باستيا.

لقد احتفظ بيتر بروك بالشخصيات الرئيسية فقط من أوبرا-كوميك. إن هذا التقليص في العدد انطوى في شكله ومضمونه على تركيز شديد في العلاقات بين الشخصيات. إنها أصبحت، أكثر تجريدا ووضوحا، إن صح التعبير، وصار من اليسير متابعة الحبكة، وإن الحالات والمواقف أصبحت أكثر عجالة وخالية من التمطيط والتمديد الغير المجدي. وهذا مما جعل الشخصيات تبدو أساسية وضرورية وفي قلب الحدث. أي أن بروك قلص الشخصيات من اثناء عشر إلى سبعة ولكنه، في ذات الوقت، أضاف أحداثا لم تكن موجودة في أوبرا-كوميك، ولكنها موجودة في قصة ميريميه. ولو نأخذ، على سبيل المثال، المشهد الذي يذهب فيه (دون جوزيه) للالتحاق بـ(كارمن) بعد خروجه من السجن، في( تراجيديا كارمن): (إنه يذهب هناك، فيجد أمامه الضابط الذي أمر بألقائه في السجن، فيقتله). إن هذا الموت أو عملية القتل غير موجودة في أوبرا-كوميك، في حين أن ميريميه يشير إليها في القصة[14]. وإن مشهد الشجار في أوبرا- كوميك بين دون جوزيه وزينغا، سرعان ما يتوقف بسبب ظهور المهربين على المسرح بعد أن تنادي عليهم كارمن، في حين أن في تراجيديا كارمن، قد تم إزالة دور المهربين من أجل جعل وقوع فعل القتل ممكنا، وهذا مما أضاف، بلا شك، بعدا دراميا للمأساة أكثر مما هو في عمل جورج بيزيه. إن هذا المثال، يكشف لنا عن الكثافة الدرامية التي تحيط بأبطال تراجيديا كارمن، بحيث نرى في هذه الأخيرة، على سبيل المثال، إن شخصية دون جوزيه التي يفترض أن تمثل القانون لكونه رقيبا، تأخذ شيئا فشيئا طابعا إجراميا، لدرجة أن تصبح في نهاية المطاف خارجة عن القانون. وقد منح هذا التغيير لطبيعة دور جوزيه بعدا مأساوية جعلها تبدو وكأنها شخصية شكسبيرية تقترف فعل الموت الواحد بعد الأخر بفعل الاضطرار والتورط. أما التغير الثاني والأساسي على مستوى توزيع الأدوار، هو حذف الجوقة وأدوارها المتعددة والمختلفة. إن الجوقة مثلما تطالعنا به أوبرا- كوميك لجورج بيزيه تمارس عدة وظائف. فهي يمكن أن تكون موجودة للزينة البحتة فقط، من غير أن تتدخل في الفعل أو تحاول التعليق عليه. وهي موجودة من البداية حتى النهاية. ويمكن أن نلاحظ وجودها في بداية العمل من خلال المشهد رقم (2)، ونشاهدها أيضا من خلال جوقة صانعي السجائر في الفصل الأول، مشهد رقم (4)، مثلما تظهر في لحظات أخرى، لكي تمارس وظيفة سردية بتعليقها على الحدث (جوقة صانعي السجائر في الفصل الأول مشهد رقم (8)، وكذلك جوقة مصارعة الثيران، في الفصل الرابع مشهد رقم (26)، والجوقة النهائية في مشهد رقم (27) من الفصل الرابع والأخير. وبغض النظر عن هذه الوظائف، فإن الجوقة في كارمن جورج بيزيه تمثل عدة شرائح اجتماعية ومهنية مختلفة ومتعددة: جوقة الجنود، صانعي السجائر، المهربين والتجار، ومتفرجين مصارعة الثيران. ومع ذلك فإن بيتر بروك قد حذف الجوقة وأدوارها من تراجيديا كارمن، بهدف أحياء عمل غنائي في شروط مختلفة، وخلق نوع من العلاقة المسرحية التي تستند على تكثيف الفعل، وواقعيته الشعرية، والعلاقة الحميمة في المسرح الحي. إن هذه التغيرات جميعها تصب في رغبة بيتر بروك الحالية بالاشتغال على بعض التفاصيل الصغيرة والمهمة، وتكوين الفعل المتماسك وتقديم أحداث درامية مليئة بالإثارة والتشويق والمتعة الضرورية، وإقامة علاقة مباشرة مع المشاهدين والابتعاد قدر ما يمكن عما هو شامل وعام قادر على زرع الترهل والضجر والغموض في العمل. نلاحظ، على سبيل المثال، في كارمن جورج بيزيه، إن دخول كارمن إلى المسرح يسبقه تحضير من قبل الجوقة التي تقدم وتعلن عن وصولها (الفصل الأول مشهد رقم (4،5)، في حين إنها تدخل في تراجيديا كارمن لبروك بطريقة مباشرة، مثل الجوقة، مثلها في ذلك، مثل اللقطة الأولى من الفيلم، حيث نشاهدها وهي تقوم بالتحضير للقاء دون جوزيه بصديقة طفولته ميكائيلا، نراها قبل وصول هذه الأخيرة، وهي تنخرط في ممارسة طقوس السحر ومراقبة تحركات الذهاب والإياب لدون جوزيه قبل أن يتوارى في الثكنة ووصول ميكائيلا بقليل. إن التغيرات التي أجراها بروك ومعاونيه على تسلسل الأحداث التاريخية سواء الموجودة في أوبرا-كوميك أو قصة ميريميه مختلفة ومتعددة. وهذا ما يؤكده بشكل واضح انعكاس الوقت في لحظتين: في لحظة وصول مصارع الثيران الشهير اسكامليو الذي يقع في حب كارمن، فيتعرض له دون جوزيه محاولا إثارته، فيدخلان في شجار، وتفرق بينهما كارمن، فينسحب مصارع الثيران اسكامليو. وهنا يجمع بروك في مشهد واحد، عدة مشاهد من الفصل الثاني والثالث (الفصل الثاني، مشهد 13، 14، وفي الفصل الثالث، مشهد 23، 24).وبهذه الطريقة من الاختصار والتكثيف يتعامل بروك مع العلاقة الثلاثية (كارمن، دون جوزيه، اسكامليو) دفعة واحدة ومن غير انقطاع. إن هذا المثال هو أيضا يشير ويصب في عملية التركيز الذي حاول أن يؤسسها بشكل جمالي في عمله.لاسيما أن هذا التغير يعتبر كبيرا ومؤثرا وله دلالات في ديناميكية تراجيديا كارمن، خلق مناخا جديدا أعطى للأحداث طبيعة خاصة تختلف عن طبيعة عمل جورج بيزيه وقصة ميريميه، التي لم يهملها، على الرغم من استناده بشكل كبير على أحداث أوبرا- كوميك.

موجز قصة كارمن ميريميه

تدور أحداث قصة كارمن ميريميه في عام 1830، وتلقي الضوء على مفهوم الحياة واصطدام ثقافة المدينة بثقافة الغجر وتناقض القيم واختلاف طرق التفكير بين هذين العالمين، الذي يتجول فيهما ميريميه، من خلال دينامكية السرد وانتقالاته مرة من خلال الحوار وأخرى من خلال المنولوج، زاجا بنا في تفاصيل خاصة صغيرة تتراكم شيئا فشيئا لكي تشكل المشهد العام للقصة. وكل هذا يتم من خلال سرد الراوي، هذا الزائر الغريب الذي يزور اسبانيا بمهمة أكاديمية، وأثناء تجواله في أراضي الأندلس يلتقي بجوزيف نافارو، قاطع طريق، ولص هارب من وجه العدالة. وعلى الرغم من تحذيرات الدليل الذي يرافق الزائر الغريب من خطورة هذا الشخص، فإن الراوي يأنس له ويتابع مسيرته معه، مثلما يساعده على الفرار من الخان عندما يشي به الدليل إلى السلطة. من خلال السرد، نكتشف أن جوزيه، كان في السابق جنديا بسيطا يحلم بالارتقاء برتبته العسكرية والعيش الهادئ، ولكن ما أن يلتقي بكارمن الغجرية الجميلة، خلال حراسته لأحد مصانع التبغ، تتدهور أحواله وتنهار أحلامه، ويبدأ كل هذا التدهور والانحطاط، عندما يساعدها على الهرب من السجن، فيدخل السجن بدلا عنها ويتم تقليل رتبته. هنا تبدأ نقطة التحول في حياته. بفعل الحب والإغواء والأغراء الذي تمارسه عليه كارمن الغجرية، يتغاضى عن عملية التهريب التي تقوم بها هي وجماعتها، ثم يقتل الضابط الذي يجده برفقتها في بيت صديقتها، ولكي تصبح كارمن زوجته وفقا للأعراف والتقاليد الغجرية، يقتل زوجها بعد دعوته للمبارزة. وهكذا يصبح جوزيه بتكرار فعل القتل قاتلا وقاطع طريق خارج عن القانون بسبب حبه وتعلقه بكارمن. ومع ذلك تظل هذه الأخيرة كما هي لا تتغير امرأة لعوب ولا تتردد في الدخول في علاقات عاطفية أساسها النصب والاحتيال والسرقة وخاصة علاقتها مع لوكاس مصارع الثيران. وكلما يحاول جوزيه تضيق الحصار عليها كلما يقل حبها له وتبتعد وتتمرد عليه أكثر فأكثر، ومع ذلك يستمر في محاصرتها، بحيث يصل به الحال أن يطلب منها أن تسافر معه إلى أمريكا للاستقرار هناك وبدء حياة جديدة، ولكنها ترفض شارحة له بأن روح الغجر تأبى الاستقرار والخنوع، ومع ذلك يستمر في إلحاحه، فترافقه في طريق السفر، وعندما يصلان إلى الغابة تواجهه بحقيقة مشاعرها وبرفضها القاطع للسفر، فيستل سكينه ويقتلها. وبعد أن يدفنها يسلم نفسه إلى السلطات. وفي انتظار حكم الإعدام شنقا كان يسرد على الراوي قصته مع كارمن.

جريمة وتوبة

إن حضور قصة ميريميه في تراجيديا كارمن يمكن ملاحظته من خلال البعد التراجيدي للإحداث، لاسيما إنها تعالج موضوعا أبديا: الحب والموت. إنها قصة درامية متوترة، وغامضة بعض الأحيان، وشرسة دائما لا ترحم، خالية من الحنان والرأفة، شأنها شأن أي تراجيدية من التراجيديات الشكسبيرية التي اشتغل عليها بروك كثيرا. إن أحداث القصة تجري وكأنها تراجيديا، ويبدو أن ميريميه قد صور القصة بشكل تراجيدي  مثلما يصور راسين المأساة. فهي تكشف عن صراع بين شخصين، وهذا ما يجعلنا أن نفكر براسين واختراقاته في دراسة علم النفس العاطفي. إن ميريميه يبين لنا في قصته هذا، كيف يولد الحب بين أثنين، وكيف يسلك سلوكه، وكيف ينكسر أو يستمر على الرغم من كل شيء، وهو في طبيعته الصلبة والقوية، وفي روحه المتوحشة التي تخضع للمصير والتفاعل بين المشاعر.

إن قصة كارمن كلاسيكية في شكلها وتبدو صعبة بعض الشيء، تتكثف فيها كل المفاهيم الرومانسية والعاطفة، والنفسية الغريبة. إنها قصة درامية لرجل يدعى دون خوسيه، ضحية من ضحايا العاطفة القاتلة، رجل تقوده امرأة جهنمية، وهو في هذا يشبه شخصية ماكبث التي تقوده زوجته الليدي ماكبث إلى الجريمة. كليهما قاتل ومستعد للمجازفة، وعلى الرغم من توبة جوزيه في نهاية القصة وتسليم نفسه للقضاء، غير أن كليهما يساقان من جريمة إلى أخرى. ولكن هل دون جوزيه ضعيف ؟ نعم، ونستطيع تأكيد ذلك دون اللجوء إلى تحليل أو دراسة. علما إن شخصيته شخصية معقدة بشكل كافي لكي تتسبب في خلق المشاكل. إذ يترك نفسه عرضة لسلسلة من الأحداث التي لم يختارها أبدا. إذن فهو رجل يفتقر إلى الشجاعة والرؤية البعيدة النظر، وإن قلبه وعقله ليس حرين. إنه دائما في حالة تصاد ومحاصرة، ومع ذلك، نراه من حين لآخر رجل فخور بنفسه ولكن نقطة ضعفه الكبيرة إنه لا يعرف كيف يحافظ على مشاعره الطيبة وصواب عقله. كل قوته وجبروته خاضع لإرادة ونظرة كارمن إليه. وهذا ما تبرهن عليه ثورته الغاضبة وخاصة في النهاية، عندما يفشل في الحفاظ على حبه، الذي لا يمكن أن يعيش بدونه، فلا يرى حلا آخر سوى قتل الطاغية التي يعشقها والذهاب لتسليم نفسه للقضاء. جريمة وتوبة. إنه من الغباء إذ اعتقد بأن له الحق على كارمن وأن حياتها يجب أن تكون له وحده، ولهذا أخذ عنده هذا الحب الجهنمي مفهوم الشرف والواجب. فهل استطاع أن يحافظ عليها ؟ لقد كان عريفا نزيها ومنضبطا وبسبب تتبعه خطى محبوبته الغجرية لم يعد يحافظ على تلك النزاهة، مثلما لم يكن باستطاعته أن يكون مهربا صادقا، لأنه قد خان شرف المهنة وأنخرط في لعبة التهريب. ماذا تحمل كارمن من مشاعر لهذا البطل الحزين ؟ الازدراء ولا شيء آخر سوى الازدراء. كارمن لا يمكن أن تحب هذا الرجل حقيقة، لأنها وبكل بساطة، لا تحترمه ولا تعشقه، في حين أنه لا يحب إلا امرأة واحدة، هي كارمن التي تمثل قدره، فيفقد كل شيء من أجلها، لدرجة أن يفقدها حياتها.

إن حضور قصة ميريميه في تراجيديا كارمن، يمكن الإشارة إليه، من الاستعارة المباشرة، لحادث موت الضابط زينغا، وشخصية كارسيا الزوج السابق، الذي يقتل في وقت مبكر في قصة ميريميه. هذين العنصرين اللذين لم يحتفظ بهما جورج بيزيه ومؤلفي كلمات أوبرا-كوميك، قد حافظ عليهما، بروك وجان كلود كاريير اللذين أدخلا شخصية كارسيا في عملهما لكي يجعلا كارمن في علاقة مباشرة مع عالم الغجر. وإنهما بهذه الطريقة قد تناولا موضوع الاختلاف الثقافي والاجتماعي بين أعراف وتقاليد المدينة والغجر كشعب مثلما ما أراد أن يكشف عنه ميريميه في قصته. فشخصية كارسيا مثلما تشير إليه قصة ميريميه، هو رجل كارمن، هذا بالإضافة إلى إنها، أي شخصية كارسيا تكشف من خلال استخدام لغة الغجر أثناء حديثه مع كارمن، عن الانتماء العرقي لهذه الأخيرة. ونستنتج مما تقدم، إن حضور كارسيا، هو العنصر الذي سمح لبيتر بروك أن يُظهر في عمله المسرحي والسينمائي، الجانب البويهمي الذي يعتبر أساسيا في قصة ميريميه. ولم يكتف بذلك، لأنه حاول أيضا، أن يلقي الضوء على الجانب الغجري للقصة في تراجيديا كارمن في أجزاء أخرى من العرض، من خلال شخصية ليلياس باستيا وتمثيله الذي يكشف بشكل واضح ومرئي عن التصرفات والسلوك الغجري. ثم إن موضوع الغجر يذهب بنا مباشرة إلى موضوع السحر، الذي هو أيضا واحد من أكبر العناصر التي يركز عليها ميريميه في قصته. إن جانب السحر في أوبرا-كوميك، يكاد أن يكون محصورا، ونكاد لا نراه بشكل واضح إلا في مقطع/مشهد قراءة الورق، في حين أن بروك يستخدمه، على الطريقة الميريميه، إن صح التعبير، ويموضعه في قلب وبداية عرضه مباشرة:

( لازالت الظلمة حالكة، وعما قليل سوف يطلع الفجر، شحاذة عجوز، مختبئة تحت ثيابها، جاثمة على الأرض في زاوية من الزوايا، إنها كارمن، تضع أمامها مختلف الأشياء، وفي نفس الوقت، نسمع غناء مقطع الورق).(نص تراجيديا كارمن)

ربما إنه ليس من قبيل الصدفة، أن يبدأ العرض بهذا المشهد. فهو، أي بروك ، يعطي بعض الأهمية منذ البداية لجانب السحر في تراجيديا كارمن، هذا بالإضافة إلى أن تلك الشحاذة العجوز التي تقوم بطقوس سحرية، تكشف عن كارمن، الشخصية المركزية في العمل. ومن خلال هذا المشهد أيضا يتم التمهيد لمشهد (الحفل السري) الذي سيجري فيما بعد. نشاهد في هذا المشهد، نارا مشتعلة ودائرة مرسومة على سطح الأرض، إشارة إلى مكان حب كارمن ودون جوزيه تحت تأثير الشعوذة والسحر. ولا بد من التذكير إلى أن هذا المشهد على هذا النحو، لا وجود له لا في قصة ميريميه ، ولا في أوبرا-كوميك لجورج بيزيه. إذن إن الغرض من الإضافات التي قام بها بروك وجان كلود كاريير، في الأساس، هو خلق مناخ مماثل وقريب إلى مناخ قصة ميريميه، وإعطاء بعدا دراميا وجماليا للإحداث بدلا من السرد والوصف, ولهذا السبب بالذات نلاحظ أن بروك لم يتخذ من فن السرد المستخدم في كارمن ميريميه، كأس له في بلورة عمله، بل إنه تجاوز معلمين أساسيين في القصة: وجود وقائع سردية في الأحداث، وتقديم دون جوزيه كسارد أساسي للإحداث. وبهذه الطريقة تجنب بروك الجانب الملحمي الموجود في قلب قصة ميريميه ولم يستخدم من هذه الأخيرة سوى قصة حب كارمن ودون جوزيه. أي إنه حَولّ عناصر السرد بطريقة أصبحت فيها عناصر أساسية في التسلسل الزماني للإحداث، من خلال إدخال المتفرج بالإحداث مباشرة، دون اللجوء إلى التحضير والتزويق الذي يمكن أن يزرع لدى هذا الأخير الضجر، لاسيما أن (الضجر هو الشيطان)[15]. بالإضافة إلى ذلك، إن بروك ومعاونيه، قد أضافوا بعض الأحداث والمشاهد، مثل: المعركة التي تدور بين الغجرية كارمن وصديقة طفولة دون جوزيه ميكائيلا، التي تجرح في وجهها. إن هذه المعركة ليس لها وجود لا في أوبرا-كوميك ولا في قصة ميريميه. وكل ما يوجد في هذين العملين، هو أن كارمن تخوض معركة مع إحدى العاملات اللواتي يعملن في مصنع صنع السجائر، وإن هذه المعركة تدور خارج المسرح، أي في الكواليس، ولا نرى منها أو نسمع منها سوى المؤثرات الصوتية.(الفصل الأول، مشهد رقم 8، أوبرا-كوميك). في حين أن في  تراجيديا كارمن، يحدث الشجار، بعدما تنتزع ميكائيلا السيجار من يدي كارمن وتدوسه بقدميها. من خلال هذا العمل الذي تقوم به ميكائيلا تصبح هذه الأخيرة منافسا لكارمن بشكل علني، لاسيما، إنها تصرح في هذا المشهد، عن حبها بكل عنف ووضوح لدون جوزيه، الذي يتسبب في المعركة، بعد مغازلة كارمن له ومحاولة إغوائه. إن هذا التجديد أو التغيير الذي أحدثه بيتر بروك، قد أعطى إلى شخصية ميكائيلا حضورا دراميا أكثر مما هو في عمل جورج بيزيه، إذ جعلها تجسد الجانب المعارض والمناقض والمقابل لشخصية كارمن من الناحية الأخلاقية. وقد أجرى بيتر بروك أيضا، تغييرات على توالي الإحداث، بإضافة بعض المشاهد غير الموجودة في أوبرا-كوميك: (دون جوزيه يمضي بعض الوقت في السجن). نلاحظ في قصة كارمن لميريميه، أن دون جوزيه يسرد قصة وجوده في السجن مستحضرا، في المقام الأول، حالته الذهنية والمساعدات التي قدمتها له كارمن أثناء وجوده في السجن. أما في أوبرا-كارمن لجورج بيزيه،  يشار إلى موضوع سجن دون جوزيه من خلال تلميحات بعض الشخصيات. في حين أن بيتر بروك اختار أن يقدم مشهد دون جوزيه وهو في السجن لغرض الكشف عن حالة  التدهور الذي يمر بها من جراء حبه لكارمن. من خلال هذه التغيرات التي قام بها تمكن بروك من خلق بعض التوتر التراجيدي في تسلسل الأحداث وعرض الشخصيات، على غرار التراجيديات الشكسبيرية. هذا بالإضافة إلى إن بروك وجان كلود كاريير قد اختراعا مشهد (حفل سري في الليل)، الذي لا وجود له في أي مكان، لا في كارمن ميريميه ولا في أوبرا-كوميك. إن هذين العملين، على سبيل المثال، لا يظهران أبدا حالة الحب والوئام التي نشئت ما بين كارمن ودون جوزيه، ولا يوجد فيهما سوى مشاهد الإغواء، والخصام، والفراق، والرجوع إلى بعضهما البعض، مثلما لا نرى أبدا الجانب الايروسي الغريزي للعلاقة بشكل كامل أو شبه كامل. إن بروك الوحيد الذي حاول أن يظهر هذا الجانب من خلال مشهد (حفل سري في الليل)، وأن يظهر مصائر أبطاله، بالطريقة التي تذكرنا بالمسرح الإليزابيثي. وباختصار، إن بروك حاول أن يصنع نوع من التوازنات الدقيقة بين الطرفين، وإنشاء تكافؤ منطقي وموضوعي لصداماتهما، ومن أشد هذه المواجهات العنيفة، هي تلك التي تقع في نهاية العمل، عندما ترفض كارمن أن تتبع دون جوزيه. (كارمن الآن عشيقة مصارع الثيران اسكامليو. دون جوزيه يعود لإقناع كارمن بأن تترك مصارع الثيران وتتبعه، ولكنها ترفض وتقول له بأنها لم تعد تحبه. دون جوزيه يصر. كارمن لا تزال ترفض. فيقتلها) (تراجيديا كارمن).

لقد حافظ بيتر بروك على النهاية التي رسمتها أوبرا-كوميك لجورج بيزيه، ولكنه في نفس الوقت أجرى عليها بعض التغيرات المهمة، تتمثل في مقتل مصارع الثيران اسكامليو في حلبة المصارعة من قبل الثور. على العكس تماما لما جاء في أوبرا-كوميك التي تعلن نهايتها عن انتصار مصارع الثيران، وكل هذا يجري في الكواليس، حيث نسمع صدى هذه المعركة والانتصار أثناء المشهد الأخير الذي يدور بين كارمن ودون جوزيه. إن تزامن الانتصار والموت في هذه الأوبرا، يخلق النقيض الذي يكمن وراء نهاية كل كارمن. إن هذا التعارض لم يحتفظ به بروك في عمله ولم ينظم أحداث عمله وفقا لعلاقة التزامن والتباين بين الانتصار والموت، ولكنه تسلسل لا مفر منه. إن موت مصارع الثيران له وظيفة تشير وتجعل كارمن توافق على مرافقة دون جوزيه وتتحمل مسؤولية موتها الخاص، في حين أن نهاية قصة ميريميه تختلف عن نهاية أوبرا-كوميك وتراجيديا كارمن وخاصة من حيث الشكل، لأن كارمن في قصة ميريميه هي أيضا ترفض السفر مع دون جوزيه إلى أمريكا، لكي تعيش معه حياة جديدة ومختلفة، ولكن المضمون والمظهر يبقى هو نفسه أيضا في جميع الإعمال الثلاثة. ( بدء حياة جديدة، بعيدة من هنا، وفي أماكن وتحت سماوات أخرى )[16]. وعلى الرغم من رفض كارمن لمقترح دون جوزيه، لكنها توافق على متابعتها لملاقات حتفها إلى درجة إنها تختار هي نفسها مكان موتها. وهذا ما أختاره بيتر بروك لختام عمله التراجيدي وليس كلام دون جوزيه بعد قتله لكارمن، مثلما في أوبرا-كوميك.

المرحلة النهاية

دون شك، بالنسبة لبيتر بروك، لا توجد مرحلة نهائية للعمل الفني، وهذا ما يجعل الجدل مستمرا، ومثلما يقول كلود كاريير: (إنه من الصعب بالنسبة لنا أن نعرف متى ينتهي الإعداد والتعديل، ومتى يبدأ الإخراج)[17]. ونسأل بدورنا، ماذا يمكن أن تكون الرؤية الجديدة التي منحها بروك لكارمن من خلال التغيرات والتعديلات التي أجراها مع معاونيه في مختبرهم المسرحي ؟، خصوصا ونحن نعرف أنه منذ أن أسس المركز الدولي للبحوث المسرحية، لم يتوقف مع معاونيه، عن السعي لبناء لغة مسرحية جديدة خاصة بهم، من دون التجاوز على المؤلف وإلغاء دوره، وإصرارهم على العمل معا، أي مع المؤلف أو نصه في شكل ومظهر يتناسب مع (الحقيقة المسرحية) ، التي يبحثون عنها باستمرار. ولهذا السبب نجد أن بروك يقسم النص إلى مراحل: مناقشة النص، الحذف والإضافات والتعديلات التي يراها ضرورية لعمل الإعداد. يقول بروك: ( أنا لا أريد أن أجعل مجموعتنا تحل محل المؤلف، بعد أن رأينا اليوم أن هناك مزايا وعيوب في عمق الخلق الجماعي. إنه يمكن أن يقدم لنا كل أنواع النتائج، ولكنه لا يحل محل المؤلف)[18].

البعد الإليزابيثي في تراجيديا كارمن

إن بيتر بروك، منذ أن أسس المركز الدولي للبحوث المسرحية، وهو يتعامل مع نصوص شكسبير وتشيخوف. وهذا ليس بالغريب أو المفاجئ، لأن تاريخ المسرح، بالنسبة له، يمر عبر ثلاث قمم: الإغريق، وشكسبير، وتشيخوف. وهذا يعني، إنه قد يكون قادرا على العثور على ما يبحث عنه بإتباعه لهذا التوجه. لاسيما أنه يقول: ( إن علاقتي مع الأدب الدرامي، تبقى حتى يومنا هذا علاقة ذات موقف استفزازي نوعا ما وقاطع). إذن، بالنسبة بروك، لا يوجد إلا شكسبير وتشيخوف. هذين النقيضين اللذين لا توجد بينهما خلافات عميقة. وفي كلتا الحالتين، ومن أجل أن نتكلم بطريقة أخرى، إن في نصوص هذين العملاقين اللذين يعتمدهما بروك دائما وأبدا، كل شيء يتجاوز الصورة الظاهرة. خاصة وأن المسرح بالنسبة لباقي الفنون الأخرى، يمكن أن يعتمد على الرموز. وفي مسرحيتي (بستان الكرز والملك لير)، على سبيل المثال، يوجد الرمز القوي اللازم والدقيق، مثلما لا يوجد فرق جوهري بين الرمز في نهاية مسرحية (بستان الكرز)، عندما نشاهد الخادم العجوز (فيرس)، بعد أن يذهب الجميع الذين اصطحبوا معهم زوبعة الحياة إلى مكان أخر، يبقى وحيدا، في هذا المنزل الذي التبست عليه وفيه الرؤية. فيتمدد على مصطبة قديمة، وهو يردد: (الحياة قد مرت، كما لو أننا لم نعش) .. وهنا يكمن كل ما كان يريد أن يقوله تشيخوف. وبين شخصية (غلوستر) الذي أدى غدر إبنه غير الشرعي له إلى اقتلاع عينيه في مسرحية،(الملك لير). ولعل الناقد (يان كوت) أفضل من يبرز الجوانب المعاصرة في هذه المسرحية، إذ يقول: ( هناك أثنتا عشر شخصية رئيسية، ستّ منها خيّرة وعادلة، وست منها شريرة وظالمة. هذا التقسيم منطقي وتجريدي كما في المسرحيات الأخلاقية القديمة، غير أن الملك لير، مسرحية أخلاقية يتحطم الجميع في النهاية، الفضلاء مع الرذلاء، الظالمون مع المظلومين، المعذِّبون مع المعَّذبين. والتشريح يستمر إلى أن يخلو المسرح بالمرة … ولكن قبل أن يتم ذلك، يجب اقتلاع الشخصيات كلها من مراكزها الاجتماعية وجرّها إلى المهانة الأخيرة. عليها أن تبلغ الحضيض الصخري. وليس هذا السقوط مجرد أمثولة فلسفية، كقفزة غلوستر في هوّة المهانة الأخيرة. فموضوع السقوط يستمر به شكسبير بعناد، وتماسك، ويكرره أربع مرت على الأقل. فالسقوط هو، في الوقت نفسه، مادي روحي، جسدي واجتماعي)[19]. إن الخادم العجوز (فيرس) و(غلوستر) الذي يقتلع عينيه، كليهما يقدمان بشكل رمزي ومادي ملموس مصير الكائن البشري. إن هذا التوجه الذي يتبعه بروك، وهذا الاختيار المعتمد من قبله، يطبقه حتى على النصوص الأخرى التي لا تكون بالضرورة من تأليف شكسبير وتشيخوف، مثل: مسرحية (الأيك)، (مؤتمر العصافير) و(المهارباراتا). في الواقع إن هذه النصوص ليست ذات أصل مسرحي، وإنما هي نصوص تم إعدادها وتكييفها، بطريقة جعلتها تتوافق وتتلاءم مع بروك وجان كلود كاريير وتوجههما المختبري. وهذا ما حدث مع قصة كارمن التي أصبحت عملا جديدا بعد كل التغييرات والحذوفات والإضافات التي أجريت على القصة الأصلية وعلى أوبرا-كوميك. وهذا يعني، إنها أصبحت عملا جديدا ويختلف اختلافا جذريا، على الرغم من عثورنا على الأصل في قصة ميريميه وخاصة في أوبرا-كوميك لجورج بيزيه. إن تراجيديا كارمن تعتبر مشروعا فنيا آخر، إنها عمل غنائي يعيش في ظل ظروف مختلفة، لأنه وبكل بساطة، يتبع نظاما وتوجها مسرحيا جديدا في كل شيء. إن العنوان وحده، يشير مباشرة وبلا إنكار إلى البعد التراجيدي لكارمن، بل، إننا نكتشف من خلال العنوان نفسه قرب هذا العمل من التراجيديات الشكسبيرية، مثل: تراجيديا هاملت، وتراجيديا ماكبث، وتراجيديا كوريولان، وعطيل، وإلى أخره . مثلما إن العنوان يشهد بطريقة واضحة على رغبة بيتر بروك  في التأكيد على حالة العمل الاليزابثي. وبالإضافة إلى العنوان، هناك أيضا، خصائص المسرح الاليزابيثي، التي يتعدد فيها فعل القتل، ويكثر الموت، وينتشر العنف والوحشية. إن هذه السمات والمميزات جميعها نشاهدها في جميع محطات عمل تراجيديا كارمن، وخاصة موضوع الغيرة وليس هناك موضوع أشد إثارة من الغيرة الجنسية التي تتصاعد إلى ذروة من اللوعة والألم لدى دون جوزيه، فتجعله يشعر بالعار والمهانة، تدفع به إلى الجريمة تلو الجريمة، فتتحول عاطفته إلى مزيج معذب من التوق والكراهية إزاء حبيبته كارمن فيقتلها.

 

إن فعل الموت في كارمن جورج بيزيه، لا يقع إلا في نهاية العمل، عندما يقتل دون جوزيه كارمن بعد رفضها إليه. وهذا الموت، هو الوحيد في أوبرا-كوميك، والذي يختم به العمل. ويعتبر هذا القتل، أي موت كارمن، مهما وأساسيا بالنسبة لمعمارية العمل الداخلية. في حين نجده في تراجيديا كارمن يتكرر، وبقدر ما يقع،  يُخرج ويبعد دون جوزيه من سياقاته الاجتماعية لدرجة أنه يتحول إلى قاتل ويشبه إلى حد كبير شخصية مكبث لشكسبير، إذ أن كليهما قاتل، ويساقان من جريمة إلى أخرى، دون أن يتوهما بان لديهما أي مبرر لفعلهما، او إنهما كانا يعرفان بالضبط ما يفعلان، بألم وعلى مضض، كما لو أن ما يقومان به هو واجب مريع.

وقد رسم بيتر بروك وجان كلود كاريير شخصية دون جوزيه بطريقة جعلت منه بطلا تراجيديا، عندما زامنا فيه بين الحب والموت، فهو بمجرد ما يقع تحت إغراء كارمن، تبدأ حياته بالتدهور بشكل متتالي. ويصبح كلما يقترف جريمة قتل تتدهور حياته أكثر فأكثر. فجريمة القتل التي ارتكبها في شبابه، أبعدته عن قريته وأقصته عن مكان طفولته، وقتله للضابط زينغا أخرجته من الخدمة العسكرية، وقتله لكارسيا رجل كارمن أبعده عن كارمن وأطفأ جمرة الحب بينهما. وقد حدث هذا التدهور المتسلسل بشكل تدريجي إلى درجة أن فقدت هذه الشخصية، في النهاية، كل علاقاتها. وقد استنطق بيتر بروك في هذا العمل المأساوي الغنائي أيضا ، فعل الحب والموت، والخيانة، والوحشية والعنف، مثلما ناقش آلية مصير شخصياته بكيفية تشبه إلى حد كبير آلية مواضيع شكسبير، وإذا كان قد نجح في إعطاء هذا العمل بعدا وطابعا اليزابثيا،إن صح التعبير، فالفضل يعود بجزء كبير منه إلى اشتغاله على نموذج ميريميه القصصي. وإذا كان ميريميه قد دعا القارئ لاكتشاف عادات الغجر في أسبانيا عام 1830، وجورج بيزيه دعا المشاهدين لمرافقته في تأمل طويل حول مصير امرأة حرة، فإن بيتر بروك قد جرّ شخصياته والجمهور في نفس الوقت، في رحلة مذهلة ورائعة إلى جانب الموت، من خلال قضائه على كل الألوان المحلية، ومحافظته على الحلقات الأكثر عنفا من القصة. ومن أجل خدمة هذه الأفكار وهذا التأمل، إختار بيتر بروك، الرصانة الكلاسيكية، والتقشف في الديكور، والأزياء، ولعب الممثلين/المغنين. إن عمل بروك، في تراجيديا كارمن، قد برهن أيضا، على أن الأساطير القديمة يمكن أن تحيى من جديد، تحت أشكال جديدة، وإن الفن الغنائي، ليس محكوم عليه بالسجن في ماضيه مدى الحياة.

[1] –  André Bazin, Qu’est-ce que le cinéma ? Paru en : Janvier 1975 à Paris, Edition CRF. Collection « Septième Art » N° 60.p.7.

[2] – Peter Brook, Points de suspension, édition Seuil, Paris,1987,P 270.

[3]– André Bazin, Qu’est-ce que le cinéma ? Paru en : Janvier 1975 à Paris, Edition CRF. Collection « Septième Art » N° 60.p.10.

[4] – Anne Ubersfeld, Lire le théâtre, édition sociale, Paris, 1977, P.14.

[5] – Peter Brook, espace vide, Edition seuil, Paris 1977.P 25.

– جورج بيزيه، مؤلف موسيقي فرنسي ولد في القرن التسع عشر في باريس ،25 أكتوبر 1838، وتوفي في 3 حزيران 1875، وهو مؤلف موسيقي لأشهر أوبرا فرنسية في العالم (اوبرا كارمن).[6]

– لودفيك هاليفي، ولد في باريس 1 يناير 1834، وتوفي في باريس 7 مايو 1808، وهو كاتب مسرحي، وواضع كلمات للاوبريتات، وروائي فرنسي.[7]

– في باريس  21 فبراير 1831، حيث توفي 6 يوليو 1897، وهو كاتب مسرحي وواضع كلمات للاوبريتات، والأوبرا الفرنسية.[8]

– بروسبير ميريميه، ولد في باريس في 28 سبتمبر1803، وتوفي في مدينة كان الفرنسية في عام 1870 وهو كاتب ومؤرخ وعالم آثار فرنسي.[9]

[10] مجلة العالمين، مجلة فرنسيةـ -تأسست في عام 1829 من قبل فرانسيس بلوز ، وتعتبر اليوم أقدم مجلة في أوربا .

[11] – كارمن، بروسبير ميريميه، (الأدب الكلاسيكي)،دار نشر فلاماريون، عام 01/01/1999,

[12]– جورج بيزيه، لودفيك هاليفي، هنري مالهايك، (كارمن)، باريس، مجلة مقدمة المسرح، عدد خاص بالأوبرا، شهر مارس-ابريل، 1980، عدد 26. 66.

[13] – إن هذا النص موجود في كتيب برنامج العرض الذي وزع على المتفرجين قبل العرض.

[14] – جورج بيزيه، لودفيك هاليفي، هنري مالهايك، (كارمن)، باريس، مجلة مقدمة المسرح، عدد خاص بالأوبرا، شهر مارس-ابريل، 1980، عدد 26. 66.

– بيتر بروك، الضجر هو الشيطان، أراء في المسرح، السلسلة المسرحية للدراسات، ترجمة محمد سيف- الشارقة: دائرة الثقافة والأعلام، 2006.[15]

– كارمن، بروسبير ميريميه، (الأدب الكلاسيكي)،دار نشر فلاماريون، عام 01/01/1999.[16]

[17] – حوار مع جان كلود كاغيير، مجلة تلغراف الفرنسية، عام 1999.

[18] – حوار مع بيتر بروك، مجلة المسرح ، باريس 2000.

 

– جبرا ابراهيم جبرا، مقدمة مسرحية الملك لير،المؤسسة العامة للدراسات والنشر، بيروت 1968، صفحة، 9.[19] مقدمة مسرحية الملك لير،المؤسسة العامة للدراسات والنشر، بيروت 1968، صفحة، 9.[19]