مواضيع للحوار

المعالجة الإخراجية لثنائية الحب والكراهية في العرض المسرحي

المعالجة الإخراجية لثنائية الحب والكراهية في العرض المسرحي

3864 مشاهدة

 

المعالجة الإخراجية لثنائية الحب والكراهية في العرض المسرحي

 

د.عباس عبد الغني

 

                                           

                                             الفصل الأول

 

1 – مشكلة البحث :

 

تتضح حقيقة مذهب أفلاطون عن الحب "بترفعها عن شوائب المادة والسمو إلى نورانية الروح فالحب شوق يدفع إلى الحصول على المعرفة والخير والجمال ويبدأ الإنسان بحب الأشكال الجميلة ,ثم يرتقي إلى حب النفوس, ثم إلى حب ثمرة النفس وبخاصة القوانين الإنسانية وينتهي إلى آخر الأمر إلى حب المعرفة لذاتها"[1]

حلل الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) , الحب والكراهية  تحليلاً مفصلا مؤكِداً على أن الحب والكراهية يستندان إلى أصول عدة عامة ونفسية,"اولاً:-انه لامحبة ولا كراهية إلا بعد معرفة وإدراك,ثانيا:-إن مايوافق طبع المدرك ويلائمه يلذه وماينافيه وينافره يؤلمه فالحب ميل الشيء إلى الطبع الملذ والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب, ثالثاً :- إختلاف  المحبوبات بإختلاف الحواس والأدراك فلذة العين في الأبصار وإدراك المبصرات الجميلة ولذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة رابعًا:-الألفة ثمرة حسن الخلق والتـفرق ثمرة سوء الخـُلُق "[2]

الحب واقع مجتمعي يعيشه الأفراد , ولما كان على المسرح تفسير المدلول الحياتي الذي يسقطه المجتمع على الفرد لذا كان المسرح ولازال , هو الوسيلة التعبيرية عن هذا الجانب المهم من جوانب البناء الإنساني في مجتمع ما , مما جعله يجاور " الدين في مرحلته الأولى في تطور جدلي حضاري , فقد أدى ظهوره – المسرح – إلى اعتماد الدين , المواكب والطقوس الدينية وتمثيلها وسيلةً للوصول إلى المعتقد , ووصف ذلك بأنه الشكل الأول للفن , فالاحتفالات البابلية القديمة التي كانت تقام للتقرب إلى إله الشمس والربيع ومردوخ , وكذلك احتفالات ( ديونسيوس ) في اليونان القديمة , والعروض التي تقدم حياة ( بوذا ) في جاوه , وعباد الإلهين ( إيزيس و اوزريس ) في مصر ومسارح الأقنعة في الصين والهند واليابان التي تقدس ديانة الأجداد والمسرحيات الدينية في العصور الوسطى , كل تلك الاحتفالات ولد فيها المسرح من الطقوس الدينية "(10, ص39)   , وهذه الطقوس خلقت في نفس الإنسان الحب بأدائه للطقس , والحب في  التلقي لمراسيم هذه الطقوس باعتبار أن الحضور للمسرح واجب ديني.

إن المسرح ظاهرة ولدت في أحضان الدين لأنه خدم الإغراض الدينية عندما وظف بصورة ايجابية, مما جعله يولد الحب في النفس الإنسانية,فحب أوديب لأمه كان محرماً بالنسبة للمتلقي في حين أن نظرة المتلقي لهذا الحب على انه محرم جعل من المسرحية تكون من أروع ما أنتجته الدراما الإغريقية  وجعل الحب من قلب (فالير) في طبيب رغماً عنه مريضاً وقادرا على فعل المستحيل للظفر بـ(سابين) إبنة (جورجيبوس) وجعل من (عطيل) القائد البربري منقاداً لـ(دزدمونة) الشقراء كما جعل من قلبه الذي ملئه الكراهية مجرماً بعد أن كان العاشق الملهم.

قد يكون الحب مرهوناً بالكراهية , فـ (الليدي مكبث) وحبها للسُلطة إرتهن بكراهيتها لـ (دانكن) ملك اسكتلندا, فقد ينعكس الحب ليكون كراهيةً والعكس صحيح , كما يمكن أن يبدو القبيح جميلاً والجميل قبيحاً . وبما أن الفن بشكل عام يدخل في بناء المجتمع  والمسرح احد فروع الفن المهمة, ولما كان العرض المسرحي ينقل للمتلقي جوانب ثرية من نتاج الكاتب عبر عناصر العرض المختلفة التي عبرت عن الحب تارة والكراهية تارة أخرى فأن مشكلة البحث تتمحور حول الآلية التي عالج بها المخرجون المسرحيون ثنائيتي الحب والكراهية في العرض المسرحي.

 

2– أهمية البحث: تنطلق الأهمية للبحث في كونه يسلط الضوء على أهمية المعالجة الإخراجية في إظهار ثنائيتي الحب والكراهية في العرض المسرحي وبذلك يمكن أن يحقق الفائدة لكل العاملين في مجال المسرح.

3 – أهداف البحث : تعرف المعالجة الإخراجية ودورها في المسرح والفائدة المتوخاة منها في إبراز الحب والكراهية في العرض المسرحي .

4 – حدود البحث: أ – الحد الموضوعي: دراسة تأثير المعالجة الإخراجية في إبراز الحب والكراهية في العرض المسرحي.

                         ب – الحد المكاني: الموصل

                   ج – الحد ألزماني: 2000-2008

 

5- تحديد المصطلحات:-

 

المعالجة:-" لغةً من العلاج, المراس والدفاع وعالج الشيء معالجةً وعلاجاً أي زاوله وعاناه وكل شيء زاولته ومارسته فقد عالجته" (1, ص 327).

 

أما المعالجة اصطلاحا وفق  تعريف سامي عبد الحميد: "هي ممارسة للعـمل وتقويمه , أي كيفية بناء المادة من ناحية الشكل والمضمون من اجل إيصال الموضوع"(13,ص 6).

 

الإخراج:  يُعرف سعد أردش , الإخراج نقلا عن تنظيم أكاديمية المسرح بروما بأنه" فهم النص المسرحي واستنباط المحتوى المسرحي منه,وتحويله من الحالة المثالية للكتاب إلى  حياة مادية على خشبة المسرح .ولتحقيق مثل هذا الهدف يجب أن تكون للمخرج القدرة على توجيه وتحريك مجموعة العاملين وفي مقدمتهم الممثلون ثم الفنيون الموكلون بالأزياء والمناظر والأضواء وفي النهاية ميكانيكا العرض والموسيقى والرقص :هذا هو الإخراج"(2,ص15).

ومن اجل الوصول إلى نتائج عملية للبحث فقد ارتأى الباحث إلى صياغة تعريف إجرائي للمعالجة الإخراجية يتفق وأهداف البحث.

المعالجة الإخراجية:- القراءة الدقيقة لجزئيات النص ونقل هذه الجزيئات إلى صورة حركية أو حركية حوارية أو سينوغرافية أو الكل مجتمعا ً بغية الوصول إلى تحقيق الرؤية الشاملة للنص عبر العرض وإيصال الرسالة التي يحتويها النص إلى المتلقي بصورة مفهومة لالبس فيها.

الحب:  "مأخوذ من الحُباب . وهو الذي يعلو الماء عند المطر الشديد. فكأنَّ غليان القلب وثوراته عند الاضطرام والاهتياج إلى لقاء المحبوب يُشبه ذلك"(31,ص65-79).

وحسب تعريف ويبكيديا للحب انه" الميل الدائم بالقلب الهائم , وإيثار المحبوب على جميع المصحوب , وموافقة الحبيب حضوراً وغياباً , وإيثار مايريده المحبوب على ماعداه والطواعية الكاملة والذكر الدائم"(27).

وقد ارتأى الباحث أن يصيغ تعريفاً إجرائياً للحب يتفق وأهداف البحث .

الحب:- الإحساس الكامل بالتوافق الدائم والمتكامل نحو الطرف الآخر والتفهم المتعمق لحدود العلاقة بين الطرفين مجملاً إياها بالاحترام المتبادل.

الكراهية:-"كلمة تصور شعور كبير من البغض لشخص ما, أو مجموعة أشخاص, أو فكرة ما,من قبل شخص معين ينوي أن يقتص من الشخص أو المجموعة إما بإظهار البغض علنا بالقتل أو سراً  متجاهلا لشعور الشخص وأحاسيسه" (28).

ويعرف قاسم حسين صالح الكراهية بأنها: " أحد أنواع الانفعالات ، ويعني الانفعال Emotion بلغة علم النفس ، شعور ايجابي أو سلبي نحو شخص أو جماعة أو موضوع يكون مصحوباً باستثارة فسيولوجية ، و بفكرة أو خبرة عقلية شعورية ، وبسلوك صريح " (29).

وقد ارتأى الباحث أن يصيغ تعريفاً إجرائيا للكراهية يتفق وأهداف البحث, الكراهية:- إختلاف وجهات النظر بين شخص وآخر أو شخص ومجموعة أشخاص ,أو فكرة وفكرة أخرى, أو بين عقيدتين ينتج عنها اتخاذ موقف سلبي تجاه الطرف الآخر سلما أو حرباً دون مراعاة للجانب الطبقي فيمن يُصَدِر الكراهية , التي قد تنتج عن طرف واحد دون الآخر أو عن الطرفين معا.

 

 

                                             الفصل الثاني

المبحث الأول:

 

1 –الحب والكراهية في المسرح كموضوعة اجتماعية:-

    منذ النشأة الأولى للمسرح وقع على عاتقه مهمة التعبير عن الجوانب الدينية قبل الدنيوية , انطلاقا من مفهوم أن المسرح وجد لخدمة الآلهة ولأن حضور العرض المسرحي كان عُرفاً  دينياً أساسه الحب والتقرب إلى الآلهة زلفى جعل من أهمية الحضور ومتابعة العروض التي تستمر إلى أيام متتالية واجباً دينيا مقدساً.

 إن دخول المسرح كأنموذج إنساني في حياة الفرد  جاء ليُعَبِر عن الأتراح والأحزان التي يعانيها الفرد بالإضافة إلى اعتبار المسرح بالنسبة لعدد كبير من الناس, احد الأشكال البديلة للتسلية , فهو " يتوجه إلى جمهور أغلبه من الأميين يحاكي توجهاتهم بمحاكاتهم باللهجة التي يفهمونها ليوصل هدفاً تعليمياً وثورياً فلغته قريبة من لغة المتلقي البسيط  " (24) . وبذلك عُدَّ كلغة عالمية اجتماعية مهمتها الوصول إلى كل طبقات المجتمع.

ينقل المسرح  الفرد من مكان عام كالحياة الاجتماعية إلى مكان يجري فيه حدث منعكس عن هذه الحياة ألا وهو مكان العرض المسرحي ,فمدينة (طيبة) التي أصابها الطاعون في بداية مسرحية (أوديب ملكاً) حين يفتتح الكورس ذلك هي ليست طيبة الحقيقية التي يعي المتلقي لحظتها انه يعيش فيها  حيث يتسم هذا الانتقال الذي  ينتجه وينتخبه المتلقي بحسب وعيه وذائقته وثقافته وميوله الفكرية والعقائدية , ذلك أن المتلقي شريك في أنتاج العرض فهو وأن يواجه مختلف المقترحات المكانية ( التجريدية , الطرازية المقترحة , أو الواقعية ) والتي يقترحها المخرج أو المؤلف فأنه سيعمل في النهاية على أحالتها ذهنياً إلى مكان أثير لديه وراسخ في ذاكرته الجمعية وبهذا دخلت ثنائيتا الحب والكراهية  المسرح كوسيلة , تمد الأحداث بالتواصل الدائم فحب اوديب لوالديه جعله يترك (كورنثة) ويتجه صوب طيبة معتقداً أن ملك كورنثة هو والده الحقيقي بعد أن اخبره العراف انه سيقتل والده ويتزوج من أمه وهنا فأن الهدف الذي دفع بأوديب لترك كورنثة لئلا يقع في الخطيئة هو الحب الذي يكنه لوالديه والكراهية من أن يقع في الخطيئة.(14,ص 22). وبالتالي فإن خلق ثنائية الحب والكراهية(حب اوديب لوالديه-وكراهيته من أن يؤذيهما) تتخذ لها مكانة مهمة عبر الانتقالات التي يمهد لها المؤلف الدرامي باتخاذه لهذه الثنائية محركاً لكل الدوافع والأحداث .

عُدَّ المسرح أكثر الفنون مساساً في الحياة الاجتماعية بوصفه أساساً للبنية الفكرية للفرد الذي يتجه للوَلَه-أعلى درجات الحب- بالمسرح  من أيمانه بضرورته الحياتية في الحياة المعاصرة , ذلك انه يمس الحياة البشرية بطريقة فريدة من نوعها قد تعجز الفنون والآداب الأخرى عنها فهو انعكاس للواقع المعاش من لدن البشر ,مما يؤثر عليهم ويتأثر بهم.فحب الفرد للمسرح يجعله يتحسس كل مشاعر الحب التي تلد في العرض الذي سيتفاعل معه كونه متلق فاعل  وركن مهم من أركان العملية المسرحية المتمثلة بـ الممثل-المخرج- المتلقي وهنا جانب نفسي يلقي بظلاله على حالة التلقي لنوع العرض وما يحتويه.

إن المسرح كموضوعة اجتماعية, هو تقليد للحياة يجعل من المتلقي يهاب الأفعال التي يقوم بها البطل فينئ بنفسه أن يكون مكان البطل " فتكشف بذلك المسرحية , من تحت الشخصية المتذبذبة المهتزة عن الإرادة الدءوبة اللاواعية  , ومن تحت الهدف المصمم للطبيعة الحيوانية عن الإنسان كضحية للظروف  , فمعرفة شخصيات الناس في الحياة الواقعية تقف في سبيلها عوامل شتى منها : غلبة الحياء على الناس مما يجعلهم يلتزمون إخفاء ما بدخيلتهم أما لشعورهم بأن حياتهم الداخلية لاتهم أحدا سواهم , وإما لإحساسهم بان معرفة الغير لهم على حقيقتهم قد تؤدي إلى احتقارهم أو الهجوم عليهم إلى غير ذلك من الأسباب الغريزية أو المكتسبة في الإنسان" (12,ص94).

أتخذ المسرح لوناً اجتماعياً في تاريخه الطويل لُيبادر وبكل حُسن نية عملية التعبير عن الروح الاجتماعية للفرد , " وأظهر ما يتجلى ذلك في مسرحيات ( يعقوب صنوع ) التي يدور معظمها حول القضايا الاجتماعية خاصة , قضايا الحب والزواج وما يعتريهما من عقبات مصطنعة تتمثل في تدخل الأبوين أو في وجود الفوارق الاجتماعية " (11,ص 121)

وبهذا يرى الباحث أن سبب دخول المسرح كعنصر يخلق الحب والكراهية هو أن المجتمع بكل ما يعتلج فيه كان مصدراً يستمد الكاتب منه موضوعاته . والمجتمع مكون من هذه الثنائية .ففي حالتي"الحب والكراهية يحصل الاستلاب والاستنزاف للمشاعر والفكر والعمر... وإذا كان هذا الثمن مقبولاً في حالة الحب الذي نشعر فيه بالمسرات وراحة الضمير والمعنى لحياتنا، ولكن في حالة الكراهية لماذا نخسر مساحات من مشاعرنا وفكرنا، ونخسر أعمارنا استسلاما لمشاعر الكراهية"(26).

إن ثنائية الحب والكراهية دخلت المسرح للتخفيف من تراجيدية الأحداث ,فالحب كان ذو وقع خفيف جعل مسرحية النعمان بن المنذر ذات وقع محبب لدى المتلقي فبالرغم  من أن حكاية النعمان" هي الحادثة الرئيسية , فأن المؤلف قد أضاف قصة حب نمطية , طرفاها( قراد الكلبي ) و ( هند بنت النعمان ) هادفاً إلى ترطيب جو المسرحية الصارم المتجهم , والتخفيف من وطأة الوعظ والإرشاد , بدغدغة عواطف الجمهور وتسليته وطبيعي أن تؤول المسرحية إلى نهاية سعيدة انسجاماً مع وظيفتها الخلقية التعليمية " (11,ص 127).

إن الحب في  المسرح ينبع من الممارسة العملية للحياة والتي تؤثر تأثيراً كبيراً في الفن , وبهذا فأنه يُدخل المادة التعليمية لموضوعاته وذلك للعلاقة " الوثيقة بين الفن والتطور الاجتماعي , فالفنان عندما يبدع عملاً فنياً إنما هو يستقي موضوعاته من عالمه الذي يعيشه ( الرعي , الصيد , الزراعة .....الخ ) ومضمونه يكون محكوماً بالتطور الاجتماعي ونظرته إلى العالم عبر نسيج معقد من المؤثرات والعلاقات " (5,ص33). أو يستقي موضوعاته من البحر كما في مسرحيات (أونيل) التي نقل فيها رغبة الكاتب في سبر أغوار البحر والبحث عن المجهول .

يرى الباحث أن المسرح يعتبر المنظومة الحيوية التي ترسل إشعاعاتها إلى المتلقي لتثيره إلى مجسات يهدف لها مسبقاً لتؤثر وتتأثر في الجو الذي تعوم فيه الإحداث خالقة محبة وكراهية تختلفان في النسبة لدى المتلقي مؤسساً  جوانب الوعي التعليمي للفرد منذ بدء نشأته في أحضان الدين إلى وصوله إلى ما هو عليه , فعملية العرض المسرحي تؤطر بجوانب تعليمية عبر عرض موضوع يمتلك الجوانب الإرسالية للحب والكراهية , فمسرحية ( تاجر البندقية ) لـ( وليم شكسبير ) مليئة بثنائية الحب والكراهية لاسيما الحب بين الأصدقاء فهو حب الصداقة كحب انطونيو لبسانيو وحب بسانيو لبور شيا والعكس  والكراهية التي يكنها شايلوك لأنطونيو من ناحية تختلف عن حبه للمال لذا فان محبته للمال لها مايضارعها من كراهية لسكان البندقية أولا ولأنطونيو ثانيا  , فنسبة الكراهية غلبت المحبة عند شايلوك لافتقاره للجانب المعرفي الذي يمد الإنسان بالحب ليولد قبل الكراهية, وهذا مايُوَلِد معادلا موضوعيا في المأساة الشكسبيرية للثنائية المتلازمة أحيانا والمتباينة أحيانا أخرى _الحب والكراهية_ فالحب والكراهية يولدان داخل العمل الفني لأنهما يخلقان الصراع بين الشخوص ,فمحبة عطيل لدزدمونة جعله يصل لقناعة تامة بأن هذا الحب وصل إلى طريق مسدود حين علم عطيل بوصول المنديل إلى ياكو وهذا المنديل الذي كان أيقونة اشارية ولدت الحب بين عطيل ودزدمونة كان هو نفسه الأيقونة التي ولدت الكراهية بين المحبين لدرجة إقدام عطيل لقتل دزدمونة.

إن التوظيف الدرامي لثنائية الحب لابد وان يتبعها توظيف آخر للكراهية يزامنها أو يليها في التسلسل ألحدثي وقد يسبقها في بعض الأحيان ,وفق الضرورة الدرامية التي يرنو اليها الكاتب المسرحي فالفعل الدرامي المتأسس على الحبكة يعتمد هذه الثنائية –الحب والكراهية- لخلق الصراع في العمل المسرحي والذي يعد بمثابة ترياق الحياة الذي تنبض به المسرحية.

 

2: معالجة المخرج للحب والكراهية عالمياً:

عُدَت ثنائية الحب والكراهية منظومةً للوعي المعرفي للفرد عبر محاكاتهما لأحاسيس هذا الفرد " فالمسرح يحشد الانفعالات ويدفعها في الأفاق الطبيعية والاجتماعية, فيجعل الإنسان واعيا لحب الخير العام وكراهية الضرر العام... المسرح يدرب النفس الإنسانية على إعادة تقدير مواقفها واعتماد العقل والمنطق أساساً للرأي والموقف , أنه يثير الإنسان ليتخذ الموقف السليم ويزوده بالحافز السليم لبناء موقفه من الحب والكراهية " (16,ص88).

الكراهية بكل ماتحتويه من معاني تجعل الأفراد يحاولون أن ينتقصوا من بعضهم البعض غافلين الجوانب الإيجابية في المقابل لكن ربما يحدث أن تولد الكراهية حبا كما حدث في مسرحية (روميو وجوليت ) فأسرتي روميو وجوليت من ألد الأعداء لكن من الكراهية المشتعلة بين هاتين الأسرتين ولد الحب المستعر بين روميو وجوليت وهنا أراد (شكسبير) أن يقول عبر مسرحيته أن الحب يقتل الكراهية كما حدث في الحب الذي جمع روميو وجوليت ومن ثم ناقض نفسه حين حكم على المحبين بالموت معلناً أن الكراهية ممكن أن تقتل الحب.

في حين يرى سترندبرج أن الحب هو معركة بين زوجين يحاول كل منها أن يدمر الآخر  من اجل التوحد .

التمثيل يعتمد على ثنائية الحب والكراهية فالممثل يتقمص الشخصية التي يروم أداءها عبر تخيله لهذه الشخصية وهو هنا إما يكون محباً للشخصية أو كارهاً لها اعتماداً على فعل الشخصية المتضمن للخير أو الشر , ففي حالتي الحب والكراهية تكون النتائج خطيرة إن لم يعي الممثل الدافع وراء حبه أو كراهيته للدور فهو إن أحب الدور اندمج بالشخصية إلى درجة أن ينسى نفسه ربما وهو على خشبة المسرح مما يفقده توازنه , أما إن كره الشخصية فإنه سيجد صعوبة فائقة في أن يتقمص الشخصية وهي إحدى دواعي وجوده على الخشبة لأنه يجب أن يكون موجودا بشخصه وشخصيته متخيلاً للشخصية التي يروم تقمصها  فالتخيل يعد " جزءاً ضرورياً في عدة الممثل فهو الذي يساعده على تحويل نفسه ليكون هاملت أو لير أو صاحب بيت عصري في إحدى الضواحي  فالتخيل هو مايوحى إليه بإمكانية وقوع كل أحداث المسرحية له ,لأنها أحداث تقع داخل نطاق التجربة البشرية , ومن ثم تزداد خصوبة العرض المسرحي"(17,ص39).

لقد دخلت ثنائية الحب والكراهية في المعالجة الإخراجية بِإعتبارها لمحةً من لمحات خلق الصراع في المسرح ولأن المخيلة الإخراجية هي الرحم الشرعي لأية معالجة فإن السعي الحثيث للمخرجين لتكون معالجاتهم نابعة من هدف ينطلقون منه لحظة الاختيار للنص ليكون هذا الاختيار احد الثوابت التي تخلق الدافع وبالتالي الهدف للمضي قدما نحو معالجة تتفق وقدرات المكان والزمان في الآن نفسه, وتأتي المحبة في المعالجة عبر المجال ألحميمي الذي "يشغل مساحة تبدأ من نقطة التلامس الجسدي والتصاق الجلد بالجلد وتمتد إلى مسافة ثماني عشرة بوصة تقريبا بعيداً عن الجسد ,فالمجال ألحميمي ينقسم إلى منطقتين :أمام الجسد وخلفه (مجال خلفي), ويتسم المجال الأمامي بمشاعر الاطمئنان والتحكم في الموقف بينما يتسم المجال الخلفي بأحاسيس الضعف  والتخوف وتوقع الهجوم " (19,ص50).بينما تأتي الكراهية عبر معالجة المخرج لها  وخاصة " حين يتطلب العرض من الممثل أن يدخل في علاقة حميمة مع آخر يشعر تجاهه بالنفور والكراهية ,فإذا استطاع الممثل أن يفصل المجال ألحميمي داخل العرض عن مجاله ألحميمي الخاص خارجه أصبح من السهل عليه أن يتغلب على إحساسه الغريزي بدلالات المسافات " (19,ص53). وبهذا على الممثل أن يعي الجوانب النفسية للشخصية التي ينفر منها وان يراعي إظهار هذه الجوانب على المتلقي لتكون شخصيته بكامل وعيها الذي يجعلها تتكامل في الأبعاد المكونة للدور.

في المعالجة التي اعتمدها المخرج (كليفرد وليمز) لمسرحية عطيل و" قبل أن يظهر عطيل يظهر ظله ويشطر ياجو أمام رودريجو روح عطيل , هذه المعالجة التي نحسبها قاتمة كسيحة , هل يستبق ظهور عطيل بهذا التمهيد ليظهره لنا كما لدى شكسبير , أم أن هذه الآلية السفلية للإنسان  هي مكونات عطيل الإيقاعية , التي يعزف عليها ياجو كما يريد لها أن تكون, الجواب بالنفي كما يبدو لأن عطيل يظهر بلا سعادة , فالمخرج أراد أن يغلق فكرة رئيسة في التراجيديا هي فكرة الحب فهو يشك بقيمة الإنسان وإيمانه بالحب "(9, ,ص 68). فشطر ياجو لروح عطيل عبر ظله معالجة أراد لها المخرج أن تكون بمثابة فصل الحب عن عطيل عبر شخصية ياجو الذي وضعها المخرج ,هذا الفصل أكد حقيقة عدم بقاء أي اثر للحب في قلب عطيل لدزدمونة  وبهذا فقد لعب الظل دوراً ايجابياً في أن يوصل انطباع تجسد الروح والجسد معاً.

يحاول بعض المخرجين عبر معالجاتهم أن يخلقوا نوعا من التقارب ألحميمي الذي يخلق المحبة بين المتلقي والممثل عبر توحيد المساحة التمثيلية مع مساحة التلقي , فقد عالج ماييرهولد في إخراجه لمسرحية ميترلنك(الأخت بياتريس) عبر " خلقه نوعا من التقارب بين الممثلين والجمهور , فجعل المنظر تدور فيه الأحداث –الشقق بديكوراتها – تحت خشبة المسرح , بحيث ترك مساحة ضيقة يتحرك فيها الممثلون كما لو كانوا نقوشاً بارزة في لوحة جدارية جاعلا ممثليه يتحركون في كتلة متناغمة مثل معمار واحد " (7,ص26).  فاعتماد ماييرهولد الحركة للتعبير عن العلاقة البشرية التي تربط كل إنسان بآخر سواء كانت العلاقة متحركة على أساس الحب أو الكراهية جعل معالجته للنص تنحو منحاً واقعيا عبر تجسد الأجساد أمام بعضها البعض أولا ومحاكاتها لبعضها البعض في لغة الجسد ثانياً.

عالج فيرمان جيمييه في إخراجه (اوديب الملك) النص عندما "قدمه في ساحة سيرك وخلط العرض برقصات وموسيقى والعاب بهلوانية مما يعرض في السيرك , وقد كان العرض في كليته محببا للجماهير التي تجذبها خيمة السيرك ويعتقد جيمييه أن هذه هي الطريقة الفعالة لكسر الحدود الضيقة للمسرح البرجوازي وربط أواصر صداقه بينه وبين الجماهير"(2,ص 108). إن معالجة جيمييه لأوديب الملك جاءت من وعيه المعرفي الذي بشر بأولوية وهي خلق المحبة عند المتلقي للعرض المسرحي وهنا كان المتلقي يهوى عروض السيرك أكثر من حضور المسرح فجاءت معالجته للنص باستدعاء السيرك ليكون في خدمة العرض المسرحي

اعتمد المخرج البريطاني جون كاريد في معالجته لثنائية الحب والكراهية في مسرحية (رقصة الموت) للكاتب السويدي اوغست سترندبرج على السينوغرافيا التي بينت مدى الكراهية التي يكنها الزوجين احدهما للآخر فالزوجين هما الكابتن ايدغارو  والزوجة هي أليس الممثلة سابقاً "وهما يعيشان منعزلين في جريرة نائية، العلاقة المتوترة التي تربطهما وقساوستهما في  معاملة احدهما للآخر يشكَل جوهر الصراع في المسرحية. لكن علاقتهما تتأزم أكثر بحضور  صديق العائلة كورت في زيارة مفاجئة أليهما.
وكورت هو ابن عم أليس، كان يرتبط  بها بعلاقة حب في شبابهما، فتتأجج في أعماق الزوجين مشاعر الحقد و الضغينة، لتستحيل  حياتهما جحيما لايطاق من كيل الاتهامات والطعنات النفسية القاتلة بين الاثنين , أما في الجزء الثاني فتنقلب الآية تماما، حيث يظهر جيل جديد من فتيان وفتيات، هم  أطفال شخصيات الجزء الأول وقد بلغوا سن الرشد. فإن كان الجزء الأول عن الكراهية  والتصورات الكئيبة للحياة وكيل الاتهامات والشجار الدائم، فإن الجزء الثاني هو  مسرحية عن الحب ومرح الشباب والغزل في عز صيف جميل.
فجوديث ابنة إدغار وأليس  غارقة في حب ألن أبن كورت، و قصة حبها مع ألن تذكَرنا بعلاقة حب أمها أليس لكورت في  شبابهما. إلا إنها تمر بمرحلة نضج إنساني تتسم بكونها أكثر صدقا إذا ما قورنت  بتجربة والدتها"(22).  فقد صور المخرج في معالجته للنص الجزئين وفق ما يعتريهما فالجزء الأول المليء بالكراهية كان عبارة عن عالم مغلق يتمثل ببرج منعزل في جزيرة نائية عالم تمتلئ فيه الكراهية عبر الأفكار السوداوية والتصورات الكئيبة عالجها على شكل غيوم سوداء تلبدت وجه السماء وفي حركة متواصلة احتلت خلفية المسرح عكست المزاج المتقلب للزوجين اللذان ملأ فؤادهما الكره والتقلب ,هذه المعالجة التي عبر عنها المخرج بالسينوغرافيا جاءت لتوضح لنا عالم كبير ومعزول يعاني ساكنيه من انعزال روحي وجسدي عالم من الفراغ مليء بالآلام في لون رمادي توسط الأسود والأبيض ," أنه صورة مطابقة لعالم الكابتن الداخلي حين يقول: انه  خريف في الداخل وفي الخارج.
في حين تكون الصورة في الجزء الثاني مغايرة تماما،  حيث الفضاء الشاعري الرحب بألوانه البهيجة، والسماء الزرقاء بكتل غيومها البيضاء  المتحركة باستمرار لتمثل الحب بكل ما يعكسه من صفاء وجمال"(22). . وبهذا تكون معالجة المخرج لثنائية الحب والكراهية التي انبثق منها العرض دور في تقسيم مساحة المسرح إلى ألوان وأشكال وديكورات متنوعة بحسب التجسد الذي يمثله الموضوع الذي يفرض بالتالي نفسه ليكون مناسباً مع الطرح الذي أراده الكاتب والصورة الحركية التي نقلت الكلمات إلى حركة ولون وروح على الخشبة.

استطاع بيتر بروك إن يعالج موضوعة الحب في مسرحية (حلم منتصف ليلة صيف ) لشكسبير حين حدد كلمة الحب في قلب المسرحية  وهي ماتتردد فيها واليها يرجع بناء المسرحية كلها فجعل المؤدين يخلقوا مناخاً للحب أثناء أداءهم , ولأن المسرحية قدمت صورا للحب كما تقدم لنا الموسيقى سلالمها المتراتبة  ,فالحب له مايصارعه لذلك حدد بروك معالجته بأهمية الصراع مع الحب ونقيضه الكراهية ,فقد جعل الأب يضع العراقيل أمام ابنته ليحول دون حبها لأنه ينظر للشاب بأنه خيالي واهم وهنا يصدق الأب إذ تثبت شخصية الشاب عدم مصداقيتها مع الفتاة ويتركها  وبالتالي يتحول حبه إلى كراهية لها وهذه الكراهية التي جاءت بعد الحب عالجها بروك بسكب سائل في عيني الشاب وبالتالي فعل السائل فعلته حين جعل الشاب ينظر للفتاة على أنها  مخلوق غير محبب له بعد أن كانت أحب البشر لفؤاده وهنا جاءت المعالجة عبر الاستخدام الأمثل لمفردة العقار السائل الذي تم سكبه في عين الشاب ليكون الترياق المهم للصراع الذي دار بين الحب والكراهية كأهم ثنائية حاكت حبكة المسرحية.(8 ,  ص106,107,108).

 

المؤشرات التي أسفر عنها الإطار النظري

1.  - المسرح وسيط فكري ..... روحي .... اجتماعي ... فهو فكري بعقيدته .. روحي بسموه .. اجتماعي بانزياحه إلى التموضع السوسيولوجي للحياة الخاصة بالفرد .

 

2.   - دخل المسرح كعنصر يخلق الحب ويسهم في تنشئة الفرد باعتبار أن المسرح يقتبس أغلب مصادره من المجتمع كموضوعات يسقطها على شخوصه .

 

3- اعتمد ماييرهولد الحركة للتعبير عن العلاقة البشرية التي تربط كل إنسان بآخر سواء كانت العلاقة متحركة على أساس الحب أو الكراهية.

 

 4  - أن العلائقية المعرفية بين المسرح والمجتمع أنتجت معادلة متوازنة للمرسل والمتلقي على السواء فالمتلقي يستلم شفرات معينة من المرسل ليؤطرها ويحلها ليحتويها في رؤية خاصة ينبلج منها إما الكراهية لما يتلقاه من فكر أو الحب لعقيدة أو فكرة أو موقف. .

 

5.-  يؤول على المؤسسات التربوية والأكاديمية الدور الكبير في رفد عملية بناء الفرد بزرع الحب وترحيل الكراهية عند دعم الأفكار التي تتموضع مع الهدف التنموي للبشرية لبناء أسس ثابتة معنية بالقضية الإنسانية .

 

6. - أن المسرح يبرمج الفرد وفق خطة موضوعة وهادفة يتبناها الواقفون على العملية المسرحية وبالتالي يأتي الحب كتحصيل حاصل لأية فكرة تتبعها ثورة او قانون وتأتي الكراهية للسلبي المستهجن من قبل الناس  .

 7. - يحاول بعض المخرجين عبر معالجاتهم أن يخلقوا نوعا من التقارب ألحميمي الذي يخلق المحبة بين المتلقي والممثل عبر توحيد المساحة التمثيلية مع مساحة التلقي.

 8. - دخلت ثنائية الحب والكراهية في المعالجة الإخراجية بعدها لمحة من لمحات خلق الصراع في المسرح ولأن المخيلة الإخراجية هي الرحم الشرعي لأية معالجة فإن السعي الحثيث للمخرجين لتكون معالجاتهم نابعة من هدف ينطلقون منه لحظة الاختيار للنص ليكون هذا الاختيار احد الثوابت التي تخلق الدافع وبالتالي الهدف للمضي قدما نحو معالجة تتفق وقدرات المكان والزمان في الآن نفسه.

 9.- المسرح يعتبر المنظومة الحيوية التي ترسل إشعاعاتها إلى المتلقي لتثيره إلى مجسات يهدف لها مسبقاً لتؤثر وتتأثر في الجو الذي تعوم فيه الإحداث خالقة محبة وكراهية تختلفان في النسبة لدى المتلقي . 

10.- إن لمعالجة المخرج ثنائية الحب والكراهية في العرض دور في تقسيم مساحة المسرح إلى ألوان وأشكال وديكورات متنوعة بحسب التجسد الذي يمثله الموضوع الذي يفرض بالتالي نفسه ليكون مناسباً مع الطرح الذي أراده الكاتب والصورة الحركية التي نقلت الكلمات إلى حركة ولون وروح على الخشبة.

 

سيتبع الجزء الثالث والرابع من الدراسة



[1]:- الأهواني , أحمد فؤاد,الحب والكراهية,(القاهرة :  1980, دار المعارف ),ص11.

[2]:- المصدر السابق نفسه, ص21.

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية