أخبار الهيئة العربية للمسرح

الندوة الفكرية للملتقى العربي لفنون العرائس والفرجة الشعبية

الندوة الفكرية للملتقى العربي لفنون العرائس والفرجة الشعبية

975 مشاهدة

الندوة الفكرية للملتقى العربي لفنون العرائس والفرجة الشعبية

 ومهرجان دمى طنجة لفنون العرائس والأدائيات تقرير تركيبي - محمد العناز المغرب

المصدر: موقع الخشبة

 نظمت كل من الهيئة العربية للمسرح، وجمعية طنجة بوابة في سياق حوارية علمية وثقافية وفنية دالة فعاليات الدورة الرابعة للملتقى العربي لفنون العرائس والفرجة الشعبية، والدورة الثانية

من مهرجان دمى طنجة لفنون العرائس والأدائيات إفريقيا بمركز "أحمد بوكماخ"  الثقافي أعلت من قيمة الانخراط المشترك الساعي إلى تشبيك بين خيال الظل، وصندوق عجب، ودمى ودفعه نحو ممكناته الجمالية القصوى من أجل استنبات حقيقي يعيد مركزيته في هذا الأفق المفتوح الذي احتضنته "طنجة" بوصفها مدينة للفنون والأحلام الطرية، والهويات المتناسجة الهادفة إلى ترسيخ قيم التعايش والسلم والجمال والاختلاف كما ألمحت إلى ذلك كلمات الأساتذة: "اسماعيل عبد الله" الأمين العام للهيئة، والدكتور "رشيد أمحجور" رئيس جمعية بوابة إفريقيا، و"دادي بودمجي" رئيس الاتحاد الدولي لفنون العرائس، و"محمد الثقال" المدير الجهوي لوزارة الثقافة والاتصال بجهة "طنجة تطوان الحسيمة"، و"فتيحة زاير" نائبة عمدة "طنجة"، و"حسن النفالي" مدير جلسة الافتتاح.

انطلق المؤتمر الفكري بالجلسة العلمية الأولى التي ترأسها "د. محمد نور الدين" من "مصر" بمداخلة قدمها "د.رشيد أمحجور" من "المغرب" وسمها بـ”في تفاعل فنون العرائس والفرجات الشعبية في المغرب” حيث استهلها بحفريات عميقة تهم أساسا انتقال تأويلية الظواهر الكونية من الطقوسية المرتبطة بالتعبد، والاحتفال، والفرجة التي عملت على توظيف لباس الحيوانات، والأقنعة، والدمى إلى تعبيرية شعورية ترجمها الإنسان بوساطة الرسم، والنحت، والقول، والرقص أفضت إلى أشكال فرجوية تطورت إلى درجة تحولت معه الممارسات البدائية إلى فنون من التشخيصات المتخيلة سواء أعلى مستوى التعبيرات الجسدية والموسيقية أم الفنون القولية المجاورة أم الأدائية أم اللعيبة قبل أن تصير أعمالا تجسيمية تتصل بما هو حاصل من تحولات جذرية في حداثة الفنون الرقمية والوسائط الجديدة وما بعدها. ملمحا في السياق ذاته، إلى أن فنون الدمى والعرائس يعرف تراجعا على الرغم من سطوة الطقوسية والممارسات الفرجوية في تقاليدنا العربية التي لم تفرز سوى فرجات ضئيلة لم تتجاوز بعضا من الأنشطة الأدائية في ظل واقعنا المهدد لقيم الفن. لينتقل بعد ذلك، إلى الحديث عن الممارسة العرائسية المغربية التي انشغلت بتوظيف التراث السردي الشعبي والفرجات الموسيقية صانعة دمى الجوقة بالإضافة إلى حلقات “صندوق العجب” بالمدن والقرى مع نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات قبل أن يصبها فتورا في التسعينيات؛ ممثلا بتفاعلات بعض الفرجات مع فنون العرائس من قبيل: “ماطا” التي يتم الصراع فيها بين القبائل حول دمية في طقوسية احتفالية، و”إمعشار” التي تستخدم دمى وأقنعة وملابس تنكرية مع أداء ولعب متنوع يتبعها غنائية رقصية وتمثيلية كرنفالية يأخذ فيها "الحاج" دوره في إلقاء الأشعار، في حين يقوم حاملو الأعمدة الخشبية بالاصطفاف والاستعداد إلى جانب طاقم المجسمات من لابسي الأقنعة ولباس بعض الحيوانات كالجمل، والحمار، والبغل، والبقرة، والضبع بالإضافة إلى البابور، أي المركب البحري، كما فككك الباحث "رشيد أمحجور" طقوسية “الحلقة”، و”البساط”، و”عبيدات الرما” قبل أن ينهي ورقته بسؤال يتصل بوضعية الممارسة العرائسية على مستوى الممارسة وصناعات الدمى وكيفية تحريكها وأدائها ولاسيما في ظل غياب نصوص إبداعية جديدة يمكن أن تحرك التصورات الجامدة على مستوى التلقي، ودفعها الفرجات العربية نحو مزيد من التفاعلات المنتجة مع مختلف الفنون من داخل اشتغال واعي يقرأ تراثه الغني في ضوء أسئلة جديدة.

وقدم "د.مداح سيدي أحمد" من "الجزائر" المداخلة الثانية تحت عنوان “فنون العرائس والفرجات الشعبية في الجزائر؛” عاد فيها إلى الأصول التاريخية لأشكال التعبير الشعبي التي عرفها المجتمع الجزائري قبل ظهور المسرح منذ الحضارة الإغريقية إلى الراهن، مبرزا أن كل شعب يتميز بعروسته على مستوى الثقافة المحلية الشعبية، ويعمل على تسميتها قبل أن تتحول إلى مسرح بوصفه فنا للخيال غير المحدود. إن هذا الفن - يضيف الباحث - يضطر إلى تقديم تنازلات جراء استحالة تجسيد الممثلين للشخصية بفعل طبيعة المواصفات الجسدية، وحركية الأشكال وتنوعها مقدما نماذج من العرائس التي تتطلب مهارات معينة خاصة بطريقة التحريك تبعا لخصوصية الموضوعات والأحداث. وقد ربط الباحث بداية فن العرائس بالجزائر بقدوم الأتراك خلال القرن السادس عشر، وذلك عبر شخصية “القراقوز” المستعلمة إلى حد الآن كمرادف لهذا الفن. ويظهر هذا التأثر بخاصة عند العروس الحضرية مقارنة بالعروس الريفية “بوغنجة” العملاقة التي تكون في مقدمة الطقوس المصاحبة لمسيرة الصبايا في فصول الجفاف رغبة منهن في تحقق الغيث، فضلا عن توظيفاتها المتعددة ودورها في نشر الوعي بين أفراد الشعب. كما أـشار الباحث إلى وجود دمية قبل القرن السادس عشر على الرغم من تباين الشهادات، ملمحا إلى منع الاستعمار الفرنسي العروض المسرحية عام 1847 لما مثلته من معارضة حينما ظهرت شخصية كراكوزية ثورية، ومع ذلك تواصلت العروض السرية في أماكن معينة قبل أن تأتي سلطات الاستقلال عام 1962 وتجعل فن الدمى في صدارة اهتماماته عبر تكوين جيل من المنشطين وإذاعته بين الجمهور الصغير والكبير، ولاسيما مع برنامج “الحديقة الساحرة”، لتوالى بعدها التكوينات الاحترافية قبل أن يتم إطلاق ورشات خاصة بفنون الدمى. وقد شكل عام 1973 لحظة أولى في مسار التأسيس من خلال إطلاق مهرجان وطني للعرائس بمدينة الشلف، لتتوالى بعدها ملتقيات وإنشاء المراكز والأقسام الفنية بالجامعات إلى غاية إطلاق المهرجان الثقافي الوطني لفنون العرائس عام 2007. لينتقل بعدها تحت هاجس الحفر إلى الفرجات الشعبية بالجزائر لما تحتله من مكانة، وبخاصة الفكاهي منها، وما يتصل بها من عروض سواء أكانت مقدمة من لدن الشعراء الشعبيين في الشوارع والقرى، وطرائقهم في إبداع مواقف عجائبية تشد انتباه الناس. ليعرج بعد ذلك إلى الحديث عن “الحلقة” و”المداح” نجح من خلالهما الحكواتي في تجسيد واقعية المجتمع الحضاري إبان فترة الاستعمار لما كان يتمتع به من خيال سمح له بأداء أدوار درامية عن طريق تحبيك محكم يوظف الحركة، والكلمة، والصوت، والغناء، والرقص، وعزف الموسيقى على الرغم من كل أشكال الهيمنة التي حاول بها الاستعمار تحطيم سلطة الراوي، وتسطيح الوعي وتفتيته. غير أن الاستقلال كان دافعا لهذه الفرجات من أجل بَثِّ وعي وطني عند الشعب، وتطوير المجتمع. ليتطرق في الأخير، إلى أهمية استثمار العروسة في المدرسة بوصفها أداة بيداغوجية يمكن أن تسهم في تمكين الأطفال من قدرات شفاهية على مستوى التعبير، والتنبيه إلى بعض المآزق النفسية والاجتماعية المهددةِ للطفولة العربية.

وتطرق "د.أسامة محمد علي" من "مصر" في مقدمة مداخلته ” عروسة المولد كمشغولة فنية لرمز شعبي احتفالي” إلى طبيعة الاحتفالات المصرية وما اتسمت به على مر العصور من رغبات الفرد المتعددة تجاه التقرب من الآلهة لدرء الأخطار أو البحث عن الحماية أو جلب الخير، ومع دخول الثقافة الإسلامية ومكونات أخرى من قبيل الثقافة المسيحية القبطية والتبادلات الرمزية وتعايشها، وبداية الاحتفال بعروسة المولد النبوي وما صاحبها من ظهور لطقوس أدائية تنبع من الموروث الثقافي المصري ورمزياته إلى أن أضحت مقبولة شعبيا على مستوى الشكل والتصنيع وبخاصة عرائس الحلوى أو غيرها حسب تطور المجتمع في ظل سطوة التكنولوجيا وغزو الأسواق. وسعى الباحث في ورقته إلى النظر في إمكانية تطويع الأدوات التشكيلية والتعبيرية لتحقيق تناسج ما بين البعد التقني، والتاريخي، والثقافي، والاجتماعي، والرموز العالمية بهدف تقديم رؤية تشكيلية معاصرة كما هو الأمر بالنسبة إلى عروسة المولد. وقد مهد الباحث لورقته بإطار نظري حول العرائس الرمزية والفن الشعبي، أشار فيه إلى السميائيات التجريدية التي طبع بها الإنسان القديم حيواته منذ 50 ألف عام حينما عمد إلى رسم الحيوانات التي يراها أو يصطادها، وتحولت بموجب هذا الفهم إلى رموز ذاكراتية؛ فالرمز يتغيا الحصول على جوهر الفكرة بوصفه استعارة بصرية، ومنه الطوطم Totem الدال على قبيلة أو عشيرة معينة. وربط الباحث بين اختيار الرمز وتطوره عند الفنان الذي يسعى إلى انتقاء أقوى الدلالات التعبيرية بما تتميز به من تحققات على مستوى الفهم وبناء العلاقات الاستبدالية بين الوقائعي والمتخيل، ومن ثم عمل الباحث على اختزال أهميتها في تعاملها مع محاور رئيسة أجملها في: العادات، والطقوس، والأفكار؛ حيث سمحت هذه المحاور الثلاثة في تحريك الفنون الشعبية في الحضارات المختلفة بانية رموزها الدالة، فكما يقول الباحث” أينما وجد الإنسان صاحبته دائما عرائسه”. كما تحدث الباحث عن عرائس الاحتفالات المصرية التي لبت الاحتياجات التخيلية من أجل بناء الوجدان والإدراك وتحقيق الرغبات سواء أكان ذلك متعلقا بالتربية أم الفنون أم الثقافة أم طقوس العبادة والترفيه. ليعمل بعد ذلك إلى تفكيك العرائسية الرمزية في الحضارات القديمة المتعاقبة من خلال نماذج من العرائس: القمح، والنيل، والتناجرا، والقماش، والخشب، والمتحركة، والتعبير الدرامي، والفخارية.. ومع الإسلام سوف يتم استحداث عرائس خيال الظل والأراجوز وصولا إلى عروسة المولد/ عروسة الحلوى التي مارست تأثيرا قويا ونفسيا وعاطفيا على الجماهير لارتباطها بمولد النبي صلى الله عليه وسلم محاولا تأصيله عند كل من الدولة الطولونية والإخشيدية والفاطمية. كما عالج الباحث في ورقته حضور عروسة المولد في الفنون البصرية المصرية ولاسيما في الأعمال الفنية بوصفها ملهمة للخيال ولما تحفل به من رمزيات متعددة، حيث تم توظيفها في فنون الدراما التمثلية والأوبريت والرقص الشعبي والباليه والشعر والفنون التشكيلية مستحضرا في السياق ذاته عدد من الفنانين والأدباء قبل أن يعرج على تطورها تبعا للتحولات الحاصلة في التقاليد الاجتماعية في ضوء المستجدات الصناعية والتكنولوجية على مستوى الخامات والمعدات. كما حلل الباحث الهيئة الأنثوية لعروسة المولد وبنيتها الشكلية التي تتكون من الملابس، والهرمية، والمراوح الدائرية ذات العدد المتغير والنظام التجميعي التكراري. أما الإطار التطبيقي فقد تناول فيه الباحث الصوغ البصري التجريدي بوساطة الإضاءة كتشكيل رمزي، والبناء النحتي بعدِّه انعكاسا بصريا يشمل الضوء والزمن وكتلة الشكل المتغيرة وطبيعة التراوحات بينهما التي لخصها في ضرورة مراعاة العرض الخارجي والذوق العام، والتقنيات والخامات وملاءمتها للعنصر البشري على مستوى الشكل والمقاسات، والمنطقي في توزيع الضوء. لينتهي في الأخير إلى مجموعة من التوصيات أهمها: تطوير عروسة المولد في ظل الثوابث الثقافية والاجتماعية، وجعلها عملا فنيا تشكيليا ميدانيا، وإحياء رمزيتها في الشارع المصري ودراستها.

وقد ترأس الجلسة العلمية الثانية "د. الطاهر القور"، الذي أعطى الكلمة في البداية للأستاذ "مصطفى استيتو" من "المغرب" الذي سعى من خلال مداخلته الموسومة بـ”مسرح العرائس وأثره على شخصية الطفل” إلى رصد وظيفة محرك الدمى المتمثلة في “طرد الأرواح الشريرة وتحمل الخصب” قبل أن يتحرر من إسار الكنيسة نحو الفضاءات العامة بطقوسيته المتعددة والتي تختلف من ثقافة إلى أخرى؛ لأن الدمية تعمل على تقويض الأعراف الإيهامية. ومن ثم، تابعت العرائس طريقها الفرجوي إلى أن اقتحمت عوالم الطفولة من مدارس وحضانات ودور الرعاية بوصفها طقسا تربويا، وترفيهيا، وتعليميا مسعفا في بناء شخصية الطفل وتنميتها، وتحصينها من كافة الانزلاقات التي يمكن أن تغتصب نموه بطريقة سليمة ومنفتحة. وقد انبثق السؤال المعرفي لفنون العرائس وخلفياته المرجعية من طبيعة التأثير الحاصل على الطفل ودورها في النمو الفيزيولوجي والسيكولوجي والعقلي، ويشترط الباحث في هذا الصدد أن تحقيق هذه الغايات التربوية لا يمكن إلا بوساطة أرضية نظرية صلبة. لينتقل الباحث بعدها إلى إبراز الخصوصيات الفيزيولوجية والنفسية لدى الطفل في علاقة مضطردة بالتحولات السلوكية التي من شأنها أن تسهم في تطوير قدراته وكفاياته الحياتية ولاسيما في امتداداتها السوية والمنحرفة في سن الرشد، ليظل الطفل لغزا يحتاج إلى ضرورة النهل من إمكانات المعرفي بوصفه أداة من أدوات التربية لتحقيق نمو حس حركي، وإدراكي، وعقلي، وانفعالي، ولغوي، واجتماعي، وجسدي، وأخلاقي. ويستدعي هذا الأمر استحضار هذه المعرفة كلما أردنا الدخول إلى عالم الطفل عبر الحكايات أو المسرحيات أو أي مواد ثقافية أخرى. أما الشق الثاني من المداخلة فقد خصصة الباحث إلى أثر مسرح العرائس على شخصية الطفل بوصفه آلية من آليات اللعب الطفولي الجالب للمتعة واللذة، والانطلاق الابتكاري الإبداعي، والكشف عن مخزون طاقات الطفل ليغدو بموجبها منتجا لتبادلات رمزية في الحياة على نحو إيجابي قد تستحيل داخل ما هو مؤسساتي صرف سواء أتم ذلك بوساطة صناعة العروسة من القصب أم الورق أم بقايا الأثواب أم رسومات الوجه أم اختيار شكل ولون الملابس والإكسسورات؛ لأن إمكانات التعبير الحر متحققة من داخل اللعب العرائسي لما يتضمنه من سلطة الإبهار والإثارة وتحريك المشاعر وتنمية الخيال وتربية الذوق الجمالي، فضلا عن عنصر الإيهام بوصفه خاصية طفولية تسمح بالتماهي مع الشخصيات البطولية على نحو يعيد فيها الطفل تمثيل أقوالها وأفعالها، ومن هنا يؤكد الباحث على خطورتها الشيء الذي يتطلب من المشتغلين داخل هذا الحقل الفرجوي مساءلة طبيعة الموضوعات والقيم التي يتم نقلها وتمريرها إلى عالم الطفل من دون توسطات جمالية، وتربوية ونفسية وإنسانية، ليقدم في الأخير توصيات تتتصل بضرورة تشجيع النقد المسرحي الخاص بالطفل، وخلق محترفات قارة لمسرح العرائس، وإحداث مسابقة الأطفال لصنع العرائس.

وتمحورت مداخلة "د.رضا حسنين" من "مصر" حول “الجروتسك والتجريب ومستقبل فنون العرائس” محددا فيها التجريب والحداثة ورحابة فن العرائس، حيث أبرز بداية أهمية المهرجان التجريبي في دفع مسرح الدمى نحو المعاصرة، وإسهامات المخرجين الذين تأثروا بالمدارس العالمية بعد عودتهم من دراساتهم لفن الدمية بالخارج، وتمردهم على أركان العرض المسرحي، وبحثهم عن التناسج داخل هذا الكوني من دون تدمير الخصوصيات الثقافية؛ فالتجريب بالنسبة إلى الباحث يعمل على تحقيق خاصيات التفاعل والتهجين بين المسرح العربي والأوروبي على مستوى الأفكار والتقنيات سواء أكانت بصرية أم سمعية لما لها من فاعلية على مستوى التلقي المنتج. كما كان لتوظيف الدمية في متاح العروض أثرا بالغا في تكوين وجدان الشباب الذي أقام علاقة نقدية أثمرت أفقا جديدا على مستوى الرؤية إلى الحاضر. إن التجريب يتيح للنفس البشرية أن تترجم عذاباتها في الكون والحضارة آملة تحقيق السعادة، ولاسيما مع تيارات حاولت استلهام تجليات المتعددة في المسرح القديم سواء أمن حيث معماريته أم أدائه التمثيلي أم التشكيل أم علاقة الجمهور بالممثل مقدما نماذج لذلك حصرها الباحث في فاجنر، وإدوارد جوردن كريج، وأدولف أبيا الذين اعتمدوا في عودتهم على البساطة والتجريد والترميز، والاتكاء على الكتل والمستويات والخطوط والضوء في الشكل. وقد ألمح الباحث في هذا السياق إلى تميز مسرح العرائس بعلاقة تتأسس بين الممثل والدمية على مستوى التجريد الحر المطلق؛ أي تطويع الشكل في الفعل الدرامي، وبخاصة في تشكيل الفراغ واستخداماته المرنة داخل عرض فرقة “أمبروبيل” البريطانية عام 1997. وقد حدد الباحث محورين اتسم به التجريب في مسرح العرائس، أولهما يرتبط بطبيعة استخدام العرائس في العرض الأدمي بطريقة تجريدية، وثانيهما يتعلق بتغيير الشكل عند شخصية الممثل. ليعمل على تطبيق مفهوم الجروتسك انطلاقا من تحديدات "إلين ارنانديت" القائمة على غرائبية الشكل وتنافرها في الآن نفسه؛ (فالجروتسك) يعرف بوصفه قطعة زخرفية تتضمن أشكالا بشرية وحيوانية غريبة وروسومات وأوراق نباتية يحيل إلى البشاعة على نحو مضحك ومغاير يفوق الطبيعي في علاقة بالخيالي، وقد قام الباحث بمحاولة لتأصيل المفهوم عند "باختين" واستعمالاته المتعددة سواء أفي التشكيل أم الآداب أم الفنون، مطبقا هذه التقنية على عرض “عم نجيب” للدكتور "أحمد حلاوه" الذي نهج توظيفا مغايرا لما هو مألوف من حيث المزج بين فن الدمى وفن التمثيل وبعث الموروث بطريقة جديدة مما منح للعرض طقوسية تفاعلت مع مكونات الأدائية التمثلية الساخرة في سياق الصراعات التي تسود المجتمع المصري؛ حيث اعتمد العرض الجروتسك كشكل من أشكال النقد لاسع الذي يروم تشويه الواقع بهدف إحداث صدمة عند الملتقي، ودفعه نحو قراءة مغايرة له.

أما المداخلة الأخيرة فقد كانت للأستاذ "حسان السلامي" وحملت عنوان” الطقوس والاحتفالات بالعرائس في البلاد التونسية” والتي استهلها بتقديم سمات العلاقات التي تتشكل بين الإنسان ولاشعورية التراث، متوقفا عند التراث السمعي الذي ينقل بوساطة الشفاهي كما هو الحال مع الأمثال والأغاني، والتراث البصري الذي يظل موضع بحث لما يحدثه الرمز من فجوات قد تمس المقدس وتعمل على تحويله إلى شيء ممنوع. إن العرائس- بحسب الباحث- موروث يتمثله الإنسان منذ أن كان يصنعها من الطين، وبث أحاسيسه فيها على الرغم من تطابقية الرؤيات في ميلاد التوحيدية التي اختزلت هذه العرائس في تماثلها مع الأوثان المعبودة واقترابها من دوائر الشرك؛ فالتقليد هو بدعة، لكن سيرورات الحضارة لا تتوقف عند هذه القاعدة، بل تخضع لتبادلات رمزية عندما يتعلق الأمر بالفنون وقيمها الجمالية الداعية إلى معاني نبيلة تحث عليها كل الديانات. ليعرج الباحث بعد ذلك نحو طبيعة التمثلات التي تتصل بالاقتراب من الآلهة بغاية الحماية من الأخواف (هكذا بصيغة منتهى الجموع) إلا أن رواسبها على الرغم من إعلان نهايتها ظلت حاضرة في طقوس فلكلورية كما هو الأمر عند طلب المطر في زمن الجفاف، حيث قدم الباحث في هذا الصدد مثال الإلهة “تانيت” بوصفها رمزا للخصب، وذلك عبر اقتباسها من لدن المجتمع التنوسي” أمك طنقو” في فرجاتهم داخل الأحياء الشعبية التي تتكون من عصا أفقية صغيرة وعصا عمودية طويلة تتقاطعان، ويتم كسوها بخرق من الملابس البالية، في موكب يردد فيه الأطفال أغان حتى يظل عليهم النساء بأواني مملوءة بالماء يرششن بها أمك طنقو. إنها طقوس الاستسقاء التونسية التي تعاقبت مع الحضارات، بما تتضمنه من ترميزات في المخيال الشعبي وإيحاءاتها الجنسية. ليظهر بعض العادات المتمثلة في صناعة عرائس السكر عند كل بداية سنة هجرية، وما يرافقها من مراحل على مستوى إعدادها الذي يتطلب وقتا طويلا تجفيفها وتزويقها، ثم عرائس الطين كمرادف للهوية.

وقد تميزت الجلسة العلمية الثالثة التي أدارها "د.الزبير بن بوشتى" بمداخلات علمية رصينة افتتحت بمداخلة "د. سالم اكويندي" من "المغرب" الموسومة بـ” توظيف الحكايات الشعبية في عروض فنون العرائس” بدأها بمدخل ركز فيه حول علاقة الإنسان بالعروسة ودواعي النشأة بما تسمح به هذه المرافقة من معايشة لتفكير الإنسان، وهو يسعى إلى جعل العروس قرينا لما كان يعيش به هذا التفكير البدائي الغيبي الطامح إلى مغالبة قوى الشر حتى غدت امتلاكا سحريا وصل إلى درجة التعبد. ومن ثم قامت بتجسيم حيوات الإنسان المصغرة في هذه الصورة انطلاقا من عاطفتي الخوف والشفقة بوصفهما تمثيلين لنوازع الخير والشر عبر صراع درامي نشأ في ما هو ديني - كما تذهب الأنتربولوجيا - رغبة في بناء علاقات إنسانية اجتماعيا مع كل ما يحيط به، وكأن صناعة العروسة والدمى ما هو إلا حنين نحو إعادة حكي أسطورة الخلق من جديد. ليحاول الباحث بعدها تعريف العروسة/ الدمى انطلاقا من تحديدات هلين بنيون Helen Bnyon التي تراها شكلا من أشكال الفن الدرامي يقوم على نصوص مسرحية مرتجلة أو معدة تؤدي أدوارها في إطار ديكور مسرحي منمنم، ومورو الذي ينظر إليها باعتبارها أسلوبا يستخدم فيه المعلم عناصر الدراما التعلمية من حركة وإبداع ولعب درامي وإيقاع، وراوية قصة وتمثيلها أو ارتجالها وتمارين وألعاب خلاقة في الموقف التعليمي تستند على عناصر التجسيد. ويرى "سالم اكويندي" من خلال التعريفات أن فن العرائس يتأسس على المشهدية التي تنسجم والأداء التمثيلي غير المباشر القائم على التحريك البشري، فضلا عن انصهار فنون عديدة تتناسل داخله إلى درجة تكوين سلسلة تؤدي معناه كمسرح، كما أن فنون العرائس/ الدمى تثبت وجودها بوجود العروسة/ الدمية نتيجة وجود الإنسان نفسه. كما ألمح الباحث إلى طبيعة المقاربات التي تناولت بالدرس والتحليل، ولاسيما عندما لم تتناوله بشكل مستقل، بل ربطته بفن خيال الظل لعلاقته الوطيدة بفن الحكي والسرد العربيين العتيقين كما هو الأمر في ملاحم السير الشعبية، والمقامات، وألف ليلة وليلة. إن العروسة تعيد صوغ المحكيات بهدف إعطاء معنى للوجود، وإظهار بنيات التفكير. كما تطرقت الدراسة إلى أنواع العرائس والدمى وتصنيفاتها، ووظائفها الأسطورية، والتوليدية، والحضرية، والتمثيلية، والتربوية، ليتطرق بعدها إلى علاقة فنون العرائس والدمى بالموروث الشفهي الشعبي بما تستدعيه من لغة منسية في اللاوعي الجمعي، وما تحدثه تداعيات الأساطير والحكايات الخرافية على مستوى التشخيصات الرمزية داخل المتخيل؛ حيث يتيح هذا الاستدعاء بوساطة هذه الحكايات على انوجاد تأويلية على مستوى الفكر من أجل تحقيق الاطمئنان بوصفه معادلا موضوعيا لها. فالعروسة هي موروث شعبي مادي أما معطاها اللامادي فيكمن في المنطوق السردي الذي يكسبه المعرفة و%D