مواضيع للحوار

بنائية الحركة والصورة في المسرح المعاصر مسرحية صبح ومسا نموذجا

بنائية الحركة والصورة في المسرح المعاصر مسرحية صبح ومسا نموذجا

730 مشاهدة

بنائية الحركة والصورة في المسرح المعاصر

مسرحية صبح ومسا نموذجا

حسين السلمان

قدمت فرقة (دوز تمسرح) المغربية مسرحية (صباح ومسا ) على المسرح الوطني ضمن عروض ايام مسرحية عراقية .تأليف غنام غنام وأخراج عبد الجبار خمران وتمثيل رجاء خرماز وتوفيق ازديو.

ضمن هذا الفضاء الذي يبدو عائما ، هامشيا ، ضبابيا تتصارع داخل فراغاته شخصيتان تحمل معاناتهما وأحباطاتهما وانكساراتهما. وفي ذات الوقت تعكس ذلك الضياع الذي تعيشانه في فراغ تدميري هائل لا يجدان فيه غير اجترار ذكريات متعبة كروحيهما المنشطرتين باتجاهات متعددة ضائعة ضمن طرق مظلمة ومعقدة بقدر، أو أكثر، من الواقع الذي ينصهران فيه، على الرغم من أن المكان بحقيقته هو مكان عام ويمكن أن يكون مكانا مكتظا بالبشر، لكنه هنا دالة منحت العرض بعدا فكريا مهما للغاية. هنا يأخذ المكان دورا أساسا فاعلا في بنائية العرض مثلما تأخذ الشخصية دورها في النسق النصي ولإخراجي .

هنا في هذا المكان الجاثم على روح الشخصيتين والضاغط عليهما من كل الجهات يعملان بأقصى طاقات الخلاص والانعتاق عبر حركة تعبيرية يقدمها الجسد كعنصر احتجاجي يستمد فعله التأثيري من ذلك الوضع الانساني الكامن في داخل الجسدين لينتجا لنا خطابا فكريا ــ جماليا منطلقا من عناصر الرقص، الأغنية، الموسيقى، وهي عناصر فاعلة في البناء الدرامي المسرحي .

يكمن في دواخل الشخصيتين بوح وجودي، ربما يكون بوحا عاما، لكنه يظل تعبيرا عن حالة اختناق  كبيرة تعيشها الشخصية ضمن واقع تراه فاسدا، قاتما وقاتلا في أغلب الأحيان، وهذه حالة تفاعل معها النص بشكل عام دون أن يتوقف عندها كثيرا، وهي حالة وضعية يمكن أن تأخذ موقعا أكبر بحكم الوضع العربي الراهن، والذي كان متواجدا وحاضرا ضمن السياق الدرامي للنص .

أن هذه الأفكار تجلت بواسطة الجسد أولا واللغة ثانيا، حيث ذهب المخرج في رؤيته الإخراجية الى توظيف الجسد بأقصى ما يمتلك من قدرات فكرية وجمالية. ولهذا جاءت كل حركة عبارة عن جملة لغوية تترابط وتتداخل، وفي أحيان ، تتقاطع لتصنع صورة تعبيرية، حتى وأن جاءت تجريدية في المحتوى والشكل، تمنح متن النص حركة إضافية في التعبير الجسدي. هنا يتوارد الى الذهن ما قدمه هارولد بنتر عن عبثية الواقع وإفرازات النظام الاقتصادي والاجتماعي الانكليزي أنذاك، وهي الموضوعة التي شغلت الفكرة الأساس للمسرحية، ألا أنها ظلت على هامش الأحداث الكبرى للمسرحية .

هنا كما يتضح وضمن الرؤية الاخراجية التي اتخذت المسرحية شكلا ثابتا ، لكنها اعتمدت على حالتين مهمتين هما :

1ــ بنائية الحركة وتشمل (حركة الممثل (بما فيها الرقص) حركة النسق النصي ،الأفكار والآراء، الحركة الصوتية وتشمل الموسيقى والأغنية.

2 ــ بنائية الصورة وتشمل التكوين والتشكيل البصري ( المتغير طبقا لحركة النسق النصي)، واللون الذي أصبح هنا حكاية لها من الخواص والسمات ما لبقية الحكايات الأخرى الفاعلة في العرض المسرحي. وهوــ أي اللون ــ يعد حالة تصاعدية بدأت من زي طبيعي( تجسد ضمن أزياء الممثلة ) لينتقل مع التصاعد الدرامي وتشابك الأحداث الى رموز وإيحاءات فكرية متمثلة بروابط اجتماعية ما بين الشخصيتين وتصاعدت بوتائر ذات أبعاد فكرية لتحيط وتحاصر كل الموجودات داخل الحياة العامة للشخصيتين أخيرا تأتي الإضاءة التي تداخلت مع بقية العناصر لتمنح المعنى العام للمسرحية متعة وتشويقا إضافيين.

هذه البنائيات جاءت عمودية في مجمل الأنساق المتداخلة والمتشابكة. هذا ما خلق تفاعلا كبيرا بين معادلتي العرض المسرحي. فالمتلقي هنا لا يتماثل تماثلا كاملا، كما أنه لا يمنح نفسه للشخصية لتقوم بأداء الفعل والتفكير نيابة عنه، هو الآن يقظ، يحتفظ بمشاعره وأحاسيسه وتفكيره. ففي تلك البنائيات ما بين المتلقي الذي ظل واعيا، يدرك جليا أنه أمام واقع يعرض عليه، لكنه من جانب آخر كان مشاركا فاعلا يتمتع بقدر كبير من حرية التفكير وما بين الشفرات المتتالية التي يدفع بها النص بشكل متواصل, فالحكي يعتمد على طريقة تراتبية حيث يتم بناء حكاية ومن ثم بناء حكاية أخرى فوق الحكاية السابقة عبر طريقة الاستذكار (الفلاش باك ) والذي آراه جاء دقيقا ومفيدا للحكي لأنه شكل من أشكال التشتت لذاكرة الشخصيتين وهامش من هوامش الحياة التي يكتنفها الماضي الزاخر بالكثير من المفاجئات من دون أن تخضع لأي حركة في الزمن، فالزمن هنا سائب يتطابق تماما مع الوضع الاجتماعي بكامل تعسفه وقهره الذي تعيشه الشخصيتين، بمعنى عدم وجود زمن حقيقي للحدث ولا زمن لذات العرض، بل هناك أزمنه تتداخل ضمن نسق حكائي ينتقل بنا حرا وفقا لمتطلبات الرؤية الفكرية التي كانت تضع لها التصميم المعياري من خلال الرؤية الاخراجية وما تحتاجه من حركة صورية تخدم إيقاعية العرض الذي اعد بدقة متناهية، وهي معالجة من رحم النسق النصي على الرغم من أنها اقرب ما تكون الى ثانوية من حيث مركز الأهمية، وهذا وليد جديد جاء بحكم فاعلية الإخراج والمهارة الفائقة للتمثيل ( خاصة فيما يتعلق بالجسد حينما يكون أنموذجا تعبيريا يمتلك خواصه ومعايره وأسسه ). لكن هنا لا بد من ذكر دلالات وشفرات النص التي جاءت على شكل إيحاءات سيطر على توصيلها الى المتلقي عبر منظومة الجسد الذي قدم متعة جمالية وفكرية. كما اعتمدت المسرحية في بنائيتها على المشهد القصير (سواء جاء ذلك عبر النسق النصي أو النسق الإخراجي ) وهذه الخاصية مفيدة للممثل حيث ساعدته كثيرا في استرداد نشاطه وأخذه قسطا من الراحة لحركة أو مشهد آخر يتطلب منه جهدا خاصا من دون أن نراه يلهث متعبا ويفقد السيطرة على طريقة ألقاء الحوار بطريقة جيدة وكذلك الحال مع الحركة التي تحتاج الى قدر كبير من التحضير والاستعداد لأدائها .