مواضيع للحوار

جدلية التأصيل في المسرح المغربي الحديث

جدلية التأصيل في المسرح المغربي الحديث

1576 مشاهدة

جدلية التأصيل في المسرح المغربي الحديث

مجلة الفنون المسرحية

 

 د.عبد الرحمن بن إبراهيم

استهلال:  متى عرف المغاربة المسرح؟

 

    سؤال إشكالي يصعب الحسم فيه. إشكاليته تتمثل أساساً في المحددات التاريخية. فإذا تعلّق الأمر بالعصور الموغلة في القدم فلا شك أن سكان المغرب ابتدعوا أشكالاً احتفالية محلية تُنعت بـ "الما قبل مسرحية". وهي تعبيرات بدائية تندرج في إطار <<"غريزة العمل المسرحي" التي تؤلف الشكل البدائي للمسرح، حيث ظهر في الحركات والرقص والايماءة، وفي تقليد ظواهر الحياة>>1. ومناسباته موسم جني المحصول الزراعي، والاحتفال بالسنة الفلاحية، ومراسيم الزواج، والابتهاج بالمولود الذكر... وتقابها طقوس ذات نَفَسٍ مأساوي كمواسم الجفاف، وما يترتَّبُ عنه من مجاعات، انتشار الأوبئة، الهزائم في الحروب القبلية، والمآتم ...  وهي احتفاليات ظرفية تؤكد على الروح الجماعية السائدة، وتندرج  في ما يمكن اعتباره "أدب شفوي". ونقصد بالأدب الشفوي الأهازيج الغنائية، والرقصات الفردية والثنائية والجماعية، والتراتيل الدينية وحكايات القصاصين والجوّالين ... التي يمكن تصنيفها في إطار ما اعتبره الدكتور حسن المنيعي "الاشكال السابقة للمسرح". وسوف ترتقي الأشكال الاحتفالية البدائية بفعل التأثير الواضح والجليِّ للحضور الروماني في المغرب الذي استمر طويلا. تأثيرٌ يتبدّى في المسارح التي أُقيمت في العديد من المدن المغربية؛ <<حيث ما زالت (المسارح) قائمة حتى الآن بالمدن المغربية الرومانية... التي أتاحت فرصة اللقاء والاختلاط للتجاذب الثقافي المغربي والروماني. وفي نظر الدكتور عباس الجراري، والأستاذ حسن السايح فإن هذه الفرصة أتاحت للشعب المغربي أن يعرف المسرح، وأن يتعامل معه، وأن يرث عنه تقاليد وأشكال وقيم، ما زالت راسخة في فنوننا الشعبية حتى الآن.>>2 وإذا كان معظم الآثار الرومانية قد اندثر بفعل التعرية وعوامل الزمن؛ فإن أهم أثرٍ ما تزال بنيانه قائمة لحد الآن، هو قوس النصر والمدرجات في مسرح وليلي في المدينة الرومانية على مقربة من مدينة مكناس وسط المغرب. وقد تضاربت آراء المؤرخين بخصوص مدى التأثير الروماني في المغرب. بعضهم يذهب إلى القول برفض الأمازيغ للاحتلال الروماني، وامتناعهم عن الذوبان في ثقافته على الرغم من بقائهم مدة طويلة تحت سيطرته؛ والبعض الآخر يؤكد على <<أن التأثير الفكري الروماني في إفريقيا كان عظيماً؛ ذلك أنه إذا كانت بعض المدن الصغرى كما يقول بواسيه – Boissier "تحتوي على هذا العدد من الأبنية الرائعة؛ فإن القصد من ذلك هو إثارة خيال السكان المحليين، وكسب إعجابهم بالقوة اللاتينية.>>3 وفي تصورنا، فإن إعجاب المغاربة بجمال العمارة الرومانية، وببهاء المعابد، وبروعة نحت التماثيل كان مُبهراً إلى حدٍّ بعيد. غير أن أهم ما لفت الاهتمام أكثر فأكثر هو اللعب المسرحي. وبعيداً عن روح المأساة التي كانت سِمة المسرح الروماني بحكم التزامه الحَرْفي بالنموذج الإغريقي؛ فإن محل الإثارة كان <<في المسرحيات القائمة على الايماءة وتقليد الحركات،>>4 ويبدو هذا الرأي أقرب إلى الصواب لاعتبارين:

         اعتبار أول: أن التعبيرات الاحتفالية السائدة عبارة عن رقصات جماعية قوامها الإنشاد والحركة والأقنعة.

        اعتبار ثان:  أن الرومان آثروا العروض المسرحية القائمة على الحركة والايماءة عن قصد بغاية استمالة المحليين، وإثارة أعجابهم بالفن المسرحي لتحقيق غاية استراتيجية تتمثل في كسب ودهم وثقتهم.

   في الفترة الإسلامية،  ومع التَّقبل السريع للأمازيغ المغاربة للإسلام، ورسوخ قيمه الدينية الجديدة، استمروا في ممارسة الطقوس الموروثة والشعائر الموروثة عن الحقبة الرومانية على الخصوص من دون أن يشكل ذلك بالنسبة إليهم أي حرج يذكر. وتفسير ذلك يتجلّى في إعجاب السكان المحليين بالموروث الفني والثقافي الروماني الذي استهواهم، وتبنوا الكثير من أشكاله وطعَّموا بها العديد من تقاليدهم الاحتفالية، وتحديداً المواويل الشعرية التي كانت وما تزال لها حظوة كبيرة في الكثير من البوادي المغربية. ويتعلق الأمر بـجماعة من الممثلين البهلوانيين الجوّالين. ويُعرفون في البوادي المغربية بـ "إيمديازن". وهي فرقة من الممثلين المقنعين، يقدمون عروضا قوامها الإنشاد المصحوب برقصات معبرة عن وضعيات درامية معينة. وغالباً ما يتعلق موضوع العرض بقصة معلومة لدى العامة. ورغم حضور الفعل الدرامي المتمثل في الحدث الرئيس والأحداث المتفرعة عنه التي تتضمنه الحكاية المروية بتزامن مع اللعب، فلا يمكن الإقرار بعرض يرتقي إلى مستوى الأداء المسرحي، ولا يجوز القول بحبكة مسرحية ذات بداية ووسط يجسد العقدة ونهاية بمثابة الحل؛ لأن الأمر يتعلق بمجرد لَهْوٍ ارتجالي عشوائي لا يستدعي تدريباً أو مهارةً فنية. ولا يحتاج إلى إعداد أو تداريب.

   وكان لا بد من انتظار العصور الحديثة لكي يتسنى الحديث عن مسرح مغربي عربي الهوية، غربي القالب. وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن النص المسرحي شكَّل لأمَدٍ غير قصير عقدة المسرح المغربي. حتى أن مقولة "أزمة المسرح المغربي"، - التي هي بالتأكيد أزمة المسرح العربي أصلاً- لازمت مسار المسرح في المغرب منذ انطلاقته في مطلع القرن العشرين على يد الجيش الفرنسي، كان ذلك سنة 1912. العروض المسرحية التي رافقت التواجد الفرنسي الكولونيالي بالمغرب كانت مُشبعةً بالإيديولوجية الاستعمارية في توجهاتها، ومُحمَّلةً بقيم وفكر غربي استعلائي في موضوعاتها، تلبي حاجة الذوق الأوربي عموما، وتكرس مركزية الثقافة الغربية. وقد ترتب عن هذه السياسة الإقصائية لكل ما هو محلي أصيل ردة  فعل مضادَّة تمثلت في انبعاث موجة تأصيل يمكن أن نصطلح عليها بـ "مسرح المقاومة".

 2- "مسرح المقاومة": وهو مسرح ذو توجه عروبي قومي اتخذ من الحوادث المشرقة في التاريخ المغربي والعربي الإسلامي، ومن الشخصيات العظيمة التي صنعت الأمجاد مادة وموضوعا. فقد اتجهت الأنظار إلى الفرق المسرحية المشرقية التي دأبت على زيارة المغرب ابتداءً من مستهل القرن العشرين. <<فقد وصل المسرحي المصري سليمان القرداحي إلى تونس سنة 1907، ومن بعده محمد عز الدين المصري الذي نظَّم جولاتٍ في كل من الجزائر والمغرب. وكان أول اكتشاف للمسرح من طرف المغاربة على الأرجح؛ إذ قدمت عروضا على الطريقة الغربية باللغة العربية.>>5 

    وتوالت  زيارات الفرق المسرحية المصرية على الخصوص. وقد شكل قدوم فرقة محمد عز الدين المسرحية إلى المغرب سنة 1923 نقطة تحوُّلٍ في مدِّ الجسور بين المشرق والمغرب. فقد ألهبت مسرحية "صلاح الدين الأيوبي" الحماس القومي وحركت العزة العربية الإسلامية في أوساط الجماهير. بله، إن صداها خلف صدًى قويا في القرى والبوادي. وقد ساعد على ذلك كون <<رواد المسرح المغربي كانوا سياسيين فاعلين في الحركة الوطنية المغربية. وكان المسرح – باعتباره فنّاً جماهيريّاً- أداةً للتعبئة ومستنهضاً للهمم: <<جمعية الثقافة المسرحية في الرباط من تأسيس محمد اليزيدي، عضو قيادة حزب الاستقلال سنة 1927. في تطوان تأسست فرقة مسرحية تحت عنوان "فرقة فتيان حزب الإصلاح الوطني"، اختصت في تشخيص المسرحيات العربية الكلاسيكية، وبقصد مواجهة المد الإستعماري الإسباني. في مدينة الدار البيضاء تأسست سنة 1936 الجمعيات المسرحية بدعم من رجالات المال والاقتصاد المغاربة من أجل دعم الحركة الوطنية المغربية. تأسيس فرقة مسرحية "جمعية زهرة الآداب بمشاركة العديد من الأدباء والشعراء، وحملوا لواء التقارب الفكري بين المشرق والمغرب.>>6

    وإذا كان مسرح المقاومة قد ارتبط زمنيا بالفترة الاستعمارية، واتسم بكونه نحا منحاً صداميّا مضادّاً للتوجه الإستعماري، فإن موجة "مسرح التأصيل" سار في اتجاه البحث عن خصوصية محلية منسجمة و التراث الفرجوي الأصيل. ونستشهد هنا بما أشار إليه الدكتور حسن المنيعي في مؤلفه الرائد "أبحاث في المسرح المغربي" بخصوص فرقة مسرحية رائدة من فاس "جوق التمثيل الفاسي" التي ترأسها عبد الواحد الشاوي الذي جمع بين صفات المؤلف والممثل والمخرج. ونجحت في إنجاز العديد من العروض المسرحية من:

تمثيليات مؤلفة (مستوحاة من التاريخ المغربي والعربي): المنصور الذهبي لمحمد بن الشيخ- مجنون ليلى لمحمد القري- الرشيد والأمير غانم لنجيب حداد- العباسة أخت الرشيد للمهدي المنيعي- أميرة الأندلس لأحمد شوقي.

بـ-   تمثيليات مؤلفة (مستوحاة من الواقع الاجتماعي): اليتيم المهلهل- خطورة الزواج- عوائدنا في الزواج لعبد الواحد الشاوي، أدب العلم ونتائجه لمحمد القري.

وواضح أن هذا الزخم الذي طبع المسرح المغربي في الفترة الاستعمارية مرده إلى <<عاملين اثنين:

عامل أول: مرور الفرق المسرحية العربية التي حملت الشباب على تقليد أشكال المسرح المصري.

عامل ثان: الشعور الوطني الذي طبع فترة الاحتلال.>>7

   وقد كان لتأثير الفرق المسرحية الوافدة من المشرق العربي آثار جلية تتبدى أساساً في تحمس الفرق المسرحية على تقديم عروضهم باللغة العربية الفصيحة، مع الحرص الشديد على سلامة التعبير، والتزام النطق السليم. وفي ذلك رسالة إلى السلطات الاستعمارية التي سعت إلى إقصاء اللغة العربية وإحلال اللغة الفرنسية والعامية المحكية بهدف فصل الإنسان المغربي عن تاريخه، وبث التشكيك في تراثه الحضاري.

   من الناحية الفنية لا يجوز الحديث عن مسرح حقيقي. وبناءً عليه، فـ "مسرح المقاومة" <<أنتج تمثيليات، وليس نصوصاً درامية بالمفهوم المتعارف عليه. وحين نؤكد على لفظة "تمثيليات" فإننا نقصد تحويل المادة التاريخية، وبعض الوقائع الاجتماعية إلى عروض ذات مضامين أخلاقية أو هزلية تفتقر إلى الحس الإبداعي والعمق الفكري والرؤية الفنية. ومن المؤكد أنها لم تكن تبتغي التوعية  الاجتماعية أو ترسيخ قيم ثقافية بديلة لما هو سائد ومكرس.>>8

 

3-  مسرح التأصيل:  موجة عمت العالم العربي. ويندرج فيه إبداعات توفيق الحكيم، يوسف إدريس في مصر، سعد الله ونّوس في سوريا، يوسف العاني في العراق، عز الدين المدني في تونس، وأحمد الطيب العلج، والطيب الطديقي في المغرب... وتَحَوَّلَ – جراء ذلك- التقليد المسرحي المغربي المتمثل في العديد من مظاهر الفرجة الشعبية: "الحلقة" و"البساط"، "سلطان الطلبة"، "المداحون"، "منشدو المولودية"، "بوجلود"، "أزلان"، "تكميد يازن" و"عريفات"...  إلى مشتل لاستنباط صيغة/صيغ جديرة باعتبارها البداية الممكنة للمسرح المغربي. <<وأصبحت بنية الفرجة المسرحية مجالا خصبا للتجريب تولَّد عنه هاجس كبير: ألا وهو تأصيل الفعل المسرحي الذي قاد بدوره إلى بروز نظريات مسرحية تهدف إلى ترسيخ تقليد مسرحي مغربي عربي يحقق تميزه عن أشكال المسرح المستورد.>>9

وقد اقترنت موجة التأصيل في المغرب بتوجهين اثنين:

توجه أول: المسرح الشعبي (فرقة التمثيل المغربي)

يقترن هذا المسرح بأحمد الطيب العلج الذي تفنن في اقتباس النصوص المسرحية الكوميدية على الخصوص لموليير الفرنسي، وإعدادها بشكل يجعلها شديدة الارتباط بالواقع المغربي المباشر. وقد أبان هذا الفنان عن موهبة فذة في تطويع اللغة الفرنسية الكلاسيكية إلى اللسان المغربي الدارج، وفي تقديم الأحداث بلباس الزمن الراهن من دون المساس بموضوع النصوص المسرحية. ولعل ما يفسر موهبة أحمد الطيب العلج في الاقتباس كونه يمتلك ناصية لغة تعبيرية ذات شحنة درامية كثيفة. <<فقوة الكلمة ووقعها في نفوس المشاهدين والمستمعين على السواء كانت خصوصية مسرحه. والمسرح بالنسبة إليه يبدأ أولا بالكلمة الساحرة والمثيرة، واللفظة المعبرة والرنانة، وسوف يتكرس ذلك أكثر في أعماله الإذاعية. إن امتلاكه لناصية اللغة الشعبية العامية (أكثر من خمسين مسرحية)، لا يوازيها سوى إبداعه الدرامي باللغة العربية الفصيحة (أكثر من ثلاثين مسرحية) التي كانت تلقى إقبالاً ملفتا لدى مختلف الشرائح الاجتماعية.>>10

بـ- توجه ثان: المسرح العمالي (فرقة المسرح العمالي) و(المسرح البلدي)  

    مباشرة بعد عودته من فرنسا حيث استكمل تكوينه المسرحي، أسس الطيب الصديقي مسرحه الخاص في الدار البيضاء استنادا إلى خلفية سياسية - نقابية، وهو القائل: <<المسرح العمالي يطمح إلى أن يكون قبل كل شيء اجتماعيا ومسليا في آن واحد.>>11 وما نجح فيه الصديقي هو قدرته على استقطاب شريحة العمال الذين رأوا في مسرحه مكسبا اجتماعيا وثقافيا. وقد اتسمت تجربته بالنزوع التجريبي الجلي في كل أعماله المسرحية. فإلمامه بالمسرح الغربي، وتعرفه بمختلف اتجاهاته، واستيعابه لطرق الإخراج ساعده على اقتباس أهم نصوصه، وخصوصاً منها مسرح العبث. وهو ما أهَّله لابتكار لغة مسرحية أصيلة تستمد مقوماتها  من صميم المادة التراثية، لغة تقوم على الإبهار البصري. وفي مرحلة لاحقة، انتقل الطيب الصديقي إلى الاستلهام من الفرجات الشعبية التراثية (الحلقة، البساط)، أو من الشخصيات التاريخية (عبد الرحمن المجذوب، عبد القادر العلمي، المولى إسماعيل، المولى إدريس، الحراز)، أو الحدث التاريخي (المغرب واحد، معركة وادي المخازن). ويعتبر الطيب الصديقي من أهم رواد التأصيل في المغرب والعالم العربي على السواء. وفي اعتقاده فإن الأدب العربي القديم يفيض بكم هائل من النصوص الدرامية القابلة للتمسرح، بل إنه صرح أكثر من مرة أن إبداعات الجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، والمقامات نصوص مسرحية بامتياز، كما أكد أن الأدب العربي عرف المسرح قبل الآداب الغربية. وهو ما حفزه على تقديم عروض مسرحية ناجحة عن مقامات بديع الزمان الهمذاني، والإمتاع المؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وألف حكاية وحكاية من سوق عكاظ، ...

4- مفهوم التأصيل في المسرح المغربي:

على مستوى النص الدرامي:

اقترن مفهوم التأصيل في المسرح المغربي على مستوى الكتابة المسرحية بأحمد الطيب العلج. فبعد الفكاك من الأسر المولييري الفرنسي الذي حصر مسرحه في نطاق الاقتباس ولج عالم التأليف. وتعتبر مسرحية "الأكباش" التي أخرجها الطيب الصديقي، ومسرحية "السعد" من أنجح النصوص الدرامية التي أبدعها أحمد الطيب العلج. كما أنه حقق نجاحا باهراً في المسرح الإذاعي على الخصوص. نجاح يتمثل في الشعبية الكبيرة نالتها المسرحيات التي قدمت بالعربي الفصيح أو باللسان الدارج. والسر في الاستقطاب الواسع لجمهور المستمعين عائد إلى موضوعاتها التي كانت شديدة الارتباط بالواقع المعيش للإنسان المغربي. <<فقد كان فهمها عاما ما دامت تعالج مواضيع تمس المستمع المغربي مباشرة في كل ما يتعلق بحياته ومشاكله الاجتماعية، وتقاليده، ورغبته لإدراك حياة سامية بانسلاخه عن الخرافات والمعتقدات الجوفاء، وبتثبته بتعاليم الإسلام.>>12 كما أن نجاحه عائد أيضاً إلى تألق نصوصه الدرامية التي قدمها "مسرح القناع الصغير"، ومن بعده "فرقة المعمورة". وهو ما يستخلص منه أن الكتابة الدرامية عند أحمد الطيب العلج انصبت في المقام الأول عنصرين اثنين:

عنصر أول: استلهام موضوعاتها من المعيش اليومي.

نصر ثـــان: الارتقاء باللغة الكتابية والشفاهية من الابتذال والإسفاف إلى مستوى جمال التعبير والذوق السليم.

بـ- على مستوى الإخراج المسرحي:

   عرف عن الطيب الصديقي أنه مخرج أكثر منه مؤلف ومقتبس. وأن احترافيته تتبدى أكثر فأكثر في "النص المسرحي" (الكتابة الركحية). فإذا اقترن تأصيل النص الدرامي بما هو لغوي (الكتابة الأدبية)، فإن الـتأصيل في الكتابة المسرحية اقترن بالإخراج. وإلى الطيب الصديقي يعود الفضل في تأصيل نص المخرج في مقابل نص المؤلف. وهو من طوَّع اللغة الأدبية لتصير لغة سينوغرافية قوامها ما هو بصري سمعي (لغة الجسد، الإنارة، قطع الأثاث، المؤثرات الموسيقية، الغناء، الفراغات البيضاء (الصمت)...). وبذلك يكون أول مخرج على مستوى العالم العربي من طوَّع النص الأدبي النثري والشعري الموروثين لشروط العرض المسرحي، وأثبت – وهذا هو الأهم- قدرته الفائقة، موهبته المذهلة على بث الحياة في النصوص الأدبية الراكدة بين دفتي كتاب، وجعلها حية تُرى وتُسمع وتحيا حياةً مثيرةً على ركح المسرح.

 

هوامش:

حسن المنيعي، أبحاث في المسرح المغربي، مطبعة صوت مكناس، ط1- 1974، 8

محمد  أديب السلاوي، المسرح المغربي- جدلية التأسيس، منشورات مرسم الرباط، بدون رقم الطبعة وتاريخ الإصدار، ص7

حسن المنيعي، أبحاث في المسرح المغربي، مرجع سابق، ص9

نفسه، ص9

عبد الواحد عوزري، المسرح المغربي بنيات واتجاهات، دار توبقال للنشر- الدار البيضاء، ط1-1980، ص19

محمد أديب السلاوي، المسرح المغربي من البداية إلى الإمتداد، دار وليلي للطباعة والنشر-مراكش، ط1- 1996، ص18-19

حسن المنيعي، ابحاث في المسرح المغربي، مرجع سابق، ص45

عبد الرحمن بن إبراهيم، النقد المنهجي في المسرح المغربي المعاصر، أفريقيا الشرق-الدار البيضاء، 2017، ص17

حسن النيعي،  المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية - فاس، ط1-1994، ص19

عبد الرحمن بن إبراهيم، النقد المنهجي في المسرح المغربي المعاصر، مرجع سابق، ص134-135

حسن المنيعي، أبحاث في المسرح المغربي، مرجع سابق، ص111