قصة قصيرة

رائحة المكان ... بقلم ..جميل مطر..

رائحة المكان ... بقلم ..جميل مطر..

1541 مشاهدة

بقلم: جميل مطر

 في هذا المكان كان يوجد المطعم الصغير بموائده الخمس. تعودت أن أنزل عليه ضيفا مرة أو مرتين في الأسبوع لأتناول غذاء متأخرا. معروف عنه، في ذلك الوقت، أنه لا يخدم زبونا يأتي متأخرا عن موعد الإغلاق، إلا أنا وصديقي صلاح ماميش. كان سي المبروك صاحب المطعم، هو الطاهي، وإذا وصلت متأخرا هو الطباخ والنادل في آن واحد.

*******

غبت عن هذه المدينة سنوات، وحين عدت أول مرة بعد عشر سنوات لم يسعفني الوقت لزيارة مطعمي المفضل. تغيبت سنوات أخرى وعدت وفي نيتي ألا تضيع مني الفرصة مرة أخرى. ذهبت إلى المكان يدفعني الفضول وتقلصات الجوع لنسرع الخطى أنا ورفيقي، ولنلحق بالمطعم قبل أن يغلق بابه الخشبي الصغير. غلبنا الإحباط حين وصلنا. لم نجد للمطعم أثرا. اختفي هو والبناية التي كان يحتل أمتارا منها. وقفت أمام باب المبنى، وطال وقوفي، مما أثار فضول حارسها. توجهت ناحيته فاطمأن وسألته عن عمر البناية فقال خمس سنوات. استفسرت عن سي المبروك فقال أنه لا يعرفه فهو قادم لتوه إلى المدينة من الريف. لم أفهم ساعتها السبب وراء هذا الندم على غيابي الطويل الذي حرمني من زيارة سي المبروك ومطعمه، ولماذا هذا الشعور بفقدان شيء عزيز جدا لا تربطني به علاقة دم أو مصلحة.

*******

ذات يوم قال لي رئيس عمل كان خبيرا في السفر والمدن والجمال والفن، قال فيما يشبه النصيحة، لا تعود إلى مدينة أحببتها حبا جما «فلن يروق لك ما تغير فيها». لن يروق لك الجديد مهما كان جميلا ومبهرا. ولن يروق لك القديم حتى لو ظل جميلا ومبهرا. حفظت النصيحة، وقد تأكدت صحتها مرة بعد أخرى فأنا من هواة العودة. أعود دائما. يشدني للعودة ما هو أكثر من الشوق. يشدني شعور من يعرف أن الماضي كان أكثر امتاعًا من الحاضر. كان أحلى وأنعم وكان كريما معي وإن كان دائما متسرعا. جربت، وأعرف كثيرين ما زالوا يحاولون، العودة إلى الماضي، وفي كل مرة عدت إليه وجدت جزءً قد اختفى، أو تغيرت معالمه. وفي كل مرة عدت إليه غلبني شعور قوي بأنني غير مرحب بي فكلانا للوهلة الأولى لم يتعرف ماديا على الآخر، أبدو للمكان غريبا فأنا أكبر سنا وأقل شعرا وربما أثقل وزنا. والمكان يبدو غريبا فالشارع أضيق والمباني المطلة عليه أعلى والرجال نبتت لأكثرهم لحى. أحدنا أنا والماضي وربما كلانا رافض للآخر الذي سرق منه بعض خياله وجزءً من ماضيه.

*******

هناك أماكن تتغير معالمها ويبقى عبقها. قال الأوائل الشيء الكثير عن المادة، ويردد بعض المعاصرين رأي لافوازييه فيها. المادة موجودة دائما. موجودة منذ بدء الخليقة وباقية إلى نهايتها، هي فقط تتغير من شكل إلى شكل آخر. وأنا أقول، وكذلك عبق المكان ومجموعة الذكريات التي شاركت في صنعها. هي أيضا باقية ما بقيت في الفرد منا حاسة الشم، وباقية ما بقى في المخ والقلب قدرة على الاحتفاظ برائحة المكان وأحاسيس تخلقت فيه وبقيت في فضائه لتحمي، من غدر الزمن، لحظة من الماضي.

موقع التجديد العربي

ثقافة وفنون

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية