مواضيع للحوار

سمها ما شئت  مفتاح الرؤية والأسئلة والجسد الشاطح

سمها ما شئت مفتاح الرؤية والأسئلة والجسد الشاطح

752 مشاهدة

سمها ما شئت  مفتاح الرؤية والأسئلة والجسد الشاطح

بقلم : يوسف الحمدان

المصدر: موقع الخشبة

 

أن تتجدد ، أن تحيا في كل مرة بروح أكثر قدرة على التشبث والتواشج مع الحياة والانبعاث بشكل مختلف من رحمها كما العنقاء ، أن تكتشف وجودك وحواسك وأحاسيسك وذاتك وكما لو أنك تراها للمرة الأولى في كل مرة ، أن تزيح عن نفسك وجسدك كل بوادر الملل والبلادة المتوقعة والمخاتلة لتكون أنت المتحفز لاقتحام مغامرة أخرى ملؤها الحيوية ونقض المتكرر ونفض فخاخه اللئيمة عن مسامات أنفاسك ، أن تتخيل أفضية جديدة في كل تجربة تمنح روحك وجسدك لها ، أن تختزل الأمكنة والأزمنة والمرئي واللامرئي في ذواتك الأثيرية والمتفلتة في كل تجربة تعيشها وتحياها وترتحل بها ، أن تقتل الموت في كل لحظة يباغتك فيها موقف قد يعيق الروح عن التجسد في أفضية لم تألفها قط ..

أنْ .. هي مفتاح الرؤية والأسئلة القلقة والشائكة في مونودراما ( سمّها ما شئت ) التونسية لمخرجها المبدع وليد الدوغسني ومؤديتها الهائلة الهيولية أماني بلعج ، والتي أشاهدها للمرة الثانية في مهرجان الكويت الدولي للمونودراما على خشبة مسرح كيفان ، بعد الأولى في مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما ، حيث تكون خلايا العين والمخيلة في مواجهتها مهيأة لقراءة ثانية أو جديدة أو مكملة ..

وتعتبر هذه المونودراما المغايرة روحا وجدة ، واحدة من أهم عروض المونودراما العربية وربما الدولية التي أزعم أنها تجربة تستحق بامتياز الدراسة والبحث والتعرف على النموذج الحداثي للمونودراما الخارج على سكة وأسيجة السائد والمألوف في المونودراما العربية ، في أغلبها ، حيث يكون الممثل أسير ماض موجع ، يظل يلوكه طوال وقت العرض حتى يهمش دون أن يعي في غالب الأحيان ذاته ووجوده وجسده وروحه من العرض كله ، ولا يبقى منه سوى بقايا كلام لذاكرة ماضوية استلبت منه كل ممكنات الفعل الحي المتجدد القادر على أن يكون اللحظة والآن والما بعد في فضاء مخيلة المتلقي .

لقد اتكأ مخرجها المبدع الشاب وليد دغنسي في رؤيته على ممكنات الجسد الهائلة والمركبة واشتعال وهجها في حيز فضاء يختزل عالما يعج ويضج بقضايا وأحداث اشتباكية يتعذر في كثير من الأحيان فك شيفرتها نظرا لتداخلاتها المعقدة وازمنتها المتفلتة التي تتقاطع فيها ماضويات سياسية واجتماعية مخاتلة ومخادعة ومريبة وراهنيات لا تمهد إلا لمستقبل مرتبك مضطرب يلغي ما قبله وما قبل قبله وكما لو أن هذه الأزمنة لم تؤسس إلا للفتك بمن يقودها نحو تخوم نقائضها واشتباكاتها الخلاقة لوعي إنساني يروم في جله حياة أكثر استنارة وجمالا ..

وتتجلى هذه الحالة الإشكالية المركبة في مختزلها الجسدي البليغ عبر أداء الفنانة أماني بلعج التي شغلت كل ممكناتها الجسدية الهائلة روحها المكتنزة بعذابات ومعاناة امرأة تداخلت وتشظت في حناياها عوالم الفدح والفجع إلى درجة لم يعد تحمل ثقلها ومحاولاتها السحلية القهرية ، فلم يكن أمامها أي خيار سوى التمرد والرفض والمواجهة وتعرية كل أنواع السلطات وتابوهاتها الخانقة من أجل أن تسلم هذه الروح من الموت الزاحف بشراسة نحو ابادتها كليا .. وكان الجسد المستهدف هو عنصر المواجهة ضد شل حركته وموته ، وهو الذي يستعيد طاقته وحيويته كلما سعت سلطات القهر إلى تدميره واخماد آخر ما تبقى فيه من نفس احتضاري .

لذا كنا بصدد عرض بدأ قبل دخولنا القاعة لمشاهدته ، وما استرخاء الممثلة أماني المضطرب بجوار كرسي وحيد متعدد الدلالات على الخشبة ، إلا بمثابة استراحة محارب يحاول استنهاض طاقته الجسدية والروحية لمواجهة جديدة لهذه السلطات التي تتحين الفرصة للفتك به وسحله تماما .

إن الاسترخاء بحد ذاته يحتاج إلى تدريب غير عادي ، خاصة ما إذا تم إخضاعه لتحولات الفعل وتشظياته في العرض ، لذا تتبدى مثل هذه الحالة في سياق تحولات دلالية في الجسد بالرغم من مواته الاسترخائي الظاهري الذي توهم به بداية العرض ، وهذا النوع من الاسترخاء لم يوظفه المخرج الدوغسني من أجل تغلب الممثل على رهبة المسرح كما يذهب إلى مثل هذه الحيلة الكثير من المخرجين ، إنما جاء ليكون بوصفه جزءا من صميم الفعل في العرض المسرحي ، وبالتأكيد أن هذا الفعل تشكل أيضا من خلال استثمار مثل هذه التدريبات في الاسترخاء ليتحول إلى حالة تشتغل فيها كل خلايا اليقظة والقلق والتوتر التي يتطلبها العرض المسرحي نفسه ، ولم يأت لينفض هذه الحالات ليسلم الجسد نفسه للاسترخاء بوصفه تدريبا غرضه طرد كل توتر أو تفكير مزعج أو قلق من جسد وتفكير الممثل كما يقتضي التدريب نفسه ، وهنا نلحظ الطاقة الجسدية الهائلة للمؤدية أماني بلعج ، وذلك بقدرتها على تجسيد هذا النوع من الاسترخاء بالرغم من مشقة الأداء جسدا وروحا ، بجانب قدرتها على استثمار هذا النوع من الاسترخاء للتحكم في مضخة جهازها التنفسي والتي تصحب أدائها طوال العرض ، سواء في لحظة الاسترخاء أو دونه عبر الحركة العنيفة الضاجة والعاجة بتحولات الذات في العرض ، ليصبح فضاء العرض كله مشغولا بهذه الأنفاس ومحاورا رئيسا معها .

إننا أمام ممثلة تتملك قدرة غير اعتيادية ، ليس في اختبار جسدها على استثمار ممكناته الدلالية المعبرة شبه الصامتة بل الأشبه بلوحة صامتة صاخبة في مستهل العرض ، إنما في اختبار تلقينا لمثل هكذا حالة ، حيث تلفت ابصارنا نحوها بوصفها لوحة تشكيلية حية تستدعي تأملها وقراءة تفاصيل خطوطها الحادة قبل أن تأخذنا معها في رحلة عذاباتها وهي تتجسد أمامنا على خشبة المسرح .

ولقد تمكن المخرج الدوغسني من أن يشظي هذه اللوحة في العرض ، لتصبح كل أحداث العرض أشبه بلوحات تشكيلية حية قوامها الجسد والفضاء السينوغرافي الذي يشكله الجسد أيضا ، وليصبح هذا الجسد مشعا بأضوائه الخاصة به ، ليقودنا مثل هذا التشظي إلى حالة تقترب من نحت الجسد ، وإعادة تكوينه من جديد ، إذ كلما تشكلت لوحة هي أقرب للمعطى الواقعي ، هدمها المخرج ليشكل وينحت من خلالها أجساد أخرى تقترب من الروح المجردة في تكويناتها المتعددة ، وهي حالات أقرب لتشظيات المنحوتة لدى جيوكوموتي وكاندينسكي وخوان ميرو ، حيث يبدو الواقعي فيها غير مألوفا ، هكذا نلحظ هذه اللوحات والمنحوتات في جسد بلعج ، في لحظات الزواج الغروتسكي ، وفي لحظات التواصل مع اللاتواصل عبر الهاتف ، وعبر المشنقة اللاسلكية الرقيقة ، وعبر التكوينات المتعددة العلائق بين الجسد والكرسي ، إنها حالات اللامكتمل ، حيث المخيلة هي فسحة التأويل في العرض .

إنها قراءة إخراجية نابهة لحالة استحضارية لأحداث بدأت قبل العرض واثنائه وبعده ، كما أنها قراءة بحثية شاخصة في أزمنة متواترة قوامها الحدث قبل المكان أو أي شيء آخر .

إنه اشتغال بحثي استقصائي على الطاقة السحرية الكامنة في روح هذا الجسد المتفلت المختزل والمحاور في جوانيته وبرانيته ومحدوسه ومخيلته لتفاصيل القهر والرفض في مجتمعاتنا العربية وليس في تونس فحسب .

إننا أمام ممثلة استثنائية في استيعابها لممكناتها الجسدية والروحية إلى درجة تكون فيها هي الآخر الذي ولدته قسوة الآخر الخارجي الند ، وتكون في مواجهة شرسة مع وباء هذا الآخر الذي يسكنها وترفضه ، بل ويكون كل ما يحيطها ويتزيى عنوة بها هو في لحظات التجسيد جزءا لا يتجزأ من أواخر اخرى تسكنها وتواجهها في الآن نفسه ، كما أن هذا الآخر يأخذ في هذا العرض ابعادا دلالية متعددة ومتوالدة عبر استقصاء ادائي لا يروم الالتياذ لمنطقة ساكنة بقدر ما يروم تحريك رمال هذه المنطقة كلما سكنت أو إشعال أوارها كلما خمدت جذوتها .

لقد تمكنت الفنانة الرائعة أماني بجهود مخرج العرض المبدع دغنسي أن تجعل من كل قطعة تشغل فضاء العرض ، كائنا ينتمي لها ويتحول الى كائنات تصبح شخصيات وأحداث أخرى تعج بها ذاتها وعالمها ، وبالتأكيد أن هذا الأداء المحترف لم يتشكل أو يتأسس بهذا المستوى الرفيع والخلاق لولا الدربة الجسدية الباحثة والمستمرة والمسئولة ، والتي تعي تماما كيف تتخلق الطاقة الفاعلة في جسد وروح ومخيلة المؤدي ، وكيف تصبح قادرة على محاورة الأزمنة والأحداث الصعبة والمركبة بنفس متمكن ومسترخ في الوقت نفسه .

ومن أهم المشتَغَلات المختبرية المتميزة في هذا العرض ، هو اشتغال المخرج مع فضاء التجربة ، إذ في اللحظات التي تلجأ فيها مؤديته أماني بلعج لتغيير بعض مستلزمات العرض من خلف وبين كواليس الخشبة ، يشغل المخرج فضاءه بأجواء تتواشج مع أزمنة هذه اللحظات ، وكما لو أن هذه الأجواء ، سواء كانت دخان أو أصوات أو أضواء ، أجساد وأرواح أخرى لهذا الجسد الرئيس في العرض تشكل غيابا حاضرا في طقس التجربة ، وهو اشتغال واع وذكي من قبل المخرج يروم من خلاله إزاحة الفراغ الميكانيكي المعهود الذي لا يوميء إلا إلى القصدية التكميلية المباشرة كما يحدث في كثير من العروض ، وخاصة عروض المونودراما التي تتطلب أحيانا بل كثيرا تغييرا مستمرا لأدوار ونماذج الشخصية المحورية ، ويعزز ذلك الاشتغال وأهميته الدرامية ، ثقة الممثل واكتشاف علاقته بالمكان في كل لحظة تغير أو تحول .

لقد تمكنت فنانتنا اماني أن تقدم لنا بهذا الجسد الساحر والاستثنائي كل فنون الأداء ، الكيروغرافي والغناء الممسرح والفودفيل بشكل غروتسكي تصب كل معانيه ودلالاته في قلب القضايا التي تصدت لها أماني .. وبالرغم من مباشرة النص أو الخطاب في أحيان كثيرة ، إلا أن المخرج دغنسي تمكن من تهشيمه وازاحة ثقليته عبر الأداء الجسدي المتمكن للممثلة أماني التي منحت هذا الخطاب صورا أخرى أكثر غنى من منطوقه اللفظي ، كما استطاعت أن تنقلنا في لحظات عبر مكيجتها الطبيعية لوجهها إلى أزمنة أخرى تعود بعدها إلى حالتها الزمنية الشابة .

ولشد ما استوقفتني لحظات وحالات الاسترخاء بل والاستراحة إن جازت تسميتها ، حيث تتحول فيها المؤدية أماني إلى كائن ينتمي إلى تيهه بحثا عن خلاصه وكما لو أن هذه اللحظات هي في حد ذاتها حدثا متصلا ومتعالقا دلاليا مع الذي سبقه ، وهي لحظات ذكية مدروسة ومخدومة من قبل المخرج بوعي مدرك أهمية قراءة الفراغ في العرض المسرحي وكيفية استثماره .

إنه فضاء لا يتجاوز حدود ممثلة وكرسي ولكنه عالم عشنا فيه وتعايشنا مع أحداث سنرى ما الذي سيصبح بعدها بعد عودة المرأة المثقلة باقسى همومها ومعاناتها وعذاباتها المجتمعية إلى الاسترخاء ثانية بعد مجاورتها لكرسيها ، وطنها الصغير وصخرة سيزيفها الذي بدأت معه ومنه أحداث مسرحيتها ..

تحية ومحبة للمخرج وليد دغنسي ولممثلته الآسرة الساحرة أماني بلعج ولكل صناع العرض .