قصة قصيرة

شراكة صباحية قصة للأديب القاص محمد عزوز

شراكة صباحية قصة للأديب القاص محمد عزوز

1877 مشاهدة

شراكة صباحية

 

                                                     قصة : محمد عزوز

 

عندما لحق بها لم تكترث للأمر ، سار بمحاذاتها ، التصقَ بأسفل فخذيها ، فخافت قليلاً ولاذت بحائط مبنى مجاور ، ولكنها لم تفعل شيئاً مهماً ...

كنتُ أتوقع أن تطلب النجدة ، أن تلتفت إلي ، فأدرك فحوى طلبها ، وأسرع إلى ذاك الذي ظل يلهث إلى يمينها تارة وإلى شمالها تارة أخرى ، أزجره .. أفعل أي شيء آخر من أجل ألا يشاركني أحد ما متعتي الصباحية هذه ، لكن شيئاً من هذا لم يحدث ..!!

اعتدتُ أن أسير خلفها في كل صباح بعد أن تمر بي ناشرة عبقاً مميزاً ، أتابع هذا العبق مسافة ، أختلس نظرات شبقية إلى استدارة ردفيها ، أحس أن هناك من يراقبني فأخفض بصري وأهجس :

ــ لا يستطيع أحد أن يمنعني من السير خلفها في هذا الشارع .. رائحة هذا الأريج المنبعثة منها ، تنعشني وتضفي على نهاراتي ألقاً مميزاً ..

وعندما انعطفتْ إلى أحد المداخل ، أقعى ، أصدر أصواتاً مبهمة ... تصورتُ أنه سيتبعني أنا الآخر، لكنه لم يفعل ، التفتُ إليه بعد أن صرت في آخر الشارع ، رأيته يطوي ذيله ويعود من حيث أتى ..

شيء وحيد كان يجمعنا في كل صباح ، هو هذا الخروج المتوافق إلى أماكن عملنا ، ولم نكن بحاجة إلى اتفاق ما ، بل كان على أولئك القابعين على أبواب منازلهم أو محلاتهم أن يضبطوا ساعاتهم على موعد انطلاقنا الصباحي .

ولم تكن تهتم لوجودي ، إذ أنني لم أر أي انعكاس لمرآي على وجهها ، خاصة أنني كنت أعبر هذه المسافة دوماً خلفها ، ولم يكن من اللائق أن تلتفت إلى الوراء إذا لم يكن هناك من داع لذلك .

وصار هذا الداعي واقعاً ملموساً منذ بدأ هذا الكلب يلاحقها مثلي صباح كل يوم ...

كنتُ أكتفي بالعبق واختلاس نظرات الشهوة المجنونة إلى ثنايا جسدها ، وكان يحاول أن يكون أكثر جرأة مني عندما كانت أنفاسه تلاحق نصفها الأسفل ..

حاولتْ ألا تفعل شيئاً في البداية ، أن تستسلم لحركات وأنفاس هذا الذي يبدو مسالماً ، لكنه أدمن انتظارها كل صباح في أحد المداخل ، وما أن يراها مقبلة حتى يخرج ويمارس طقسه اليومي هذا غير مبالٍ بحركات يدين بدأت تطلقها باتجاهه أملاً في إبعاده ..

وكنت غير بعيد عنهما أراقب المشهد يومياً ، بل صار يشغلني عن ممارسة طقوسي المعتادة أنا الآخر ..

نفد صبرها عندما أحست بسخونة أنفاسه عند أعلى ساقيها ، فركلته بإحدى قدميها وصرخت .. ،

ابتعد قليلاً ثم عاد إلى عادته ..

أحسست أن علي الآن أن أفعل شيئاً ما ، لأن ما تفعله كان شكلاً من أشكال النجدة غير المعلنة ..

هرولت مقترباً أكثر منهما وصرخت به بقوة محاولاً أن أستخدم قدمي ويدي لإبعاده .. ، لم يبتعد كثيراً ، لكنه ترك لي المجال لمحاذاتها ...

ـ صباح الخير يا آنسة ..

ـ صباح النور .. شكراً لك .. إنه يضايقني ..

ـ أنا أراه منذ مدة .. كان عليكِ أن تزجريه بقوة ..

ـ فعلت .. لكنه لم يبتعد ..

أحست أنها تعدت حدوداً مرسومة لها في الكلام مع غريب ، حثت الخطا وتراجعتُ ، وأقعى هو في أول المنعطف ...

تكرر المشهد في اليوم الثاني والثالث والرابع ... وعشش العبق أكثر في داخلي ، وصرت ألقي تحيتي بشيء من الجرأة وأقابل بابتسامة غير مكتملة .. وصرنا نقطع جزءاً من المسافة المشتركة سوية ، ترافقنا فيها بعض كلمات تحاول أن تختصرها .. وهو مصرٌ على مرافقتنا أيضاً ، محافظاً على مسافة لم يعد يستطيع تجاوزها ، خوفاً من زجر هذا الرجل الذي بدأ يزعجه ويقطع عليه متعته الصباحية ويحول بينه وبين التنعم بساقين دافئتين ناعمتين..

وعندما شاهدني أقترب منها أكثر ، نترافق لمسافة أطول ، حيث لم يعد بإمكانه أن يمارس طقوسه اليومية ، صار يزمجر كشبل جائع ، يقطع طريقنا ، يروح ويغدو محاولاً الالتصاق بنا ..

وصرت مستعداً لممارسة فعل أشد قسوة تجاهه ، بعد أن تنعمت بأنس ورفقة آنستي ، وتماهت صباحاتي مع عبقها وكلماتها وضحكات عيونها ...

لم يزد على زمجرته ورواحه ومجيئه بعد ذلك شيئاً .. ، ولما أحس بأن ذلك لم يفده ، استسلم لواقع فرض عليه ، وصار يقبع في إحدى الزوايا ، يراقب صباحاتنا صابراً متألماً ، ينتظر أن أغيب عن هذه الصباحات العبقة الدافئة ، كي يعود إلى عادة افتقدها منذ زمن ...

ـ أطلت الغياب هذه المرة ..؟

ـ وهل اشتقتِ إلي ..؟

ابتسمت دون أن تجيب ، ثم استدركت :

ـ لكنه..!!

ـ وهل فعل شيئاً ما ..؟

ـ عاد إلى عادته اليومية ... لقد بات يخيفني فعلاً ..

ـ اطمئني .. سأقتله .. سأزيله من دربك بأي ثمن .. أريدك أن تحسي بالأمان في غيابي .

 

كانت المسافة قد قاربت على الانتهاء فانعطفت ، بينما رأيته قابعاً في زاويته ينظر باتجاه لم أستطع تحديده تماماً .

دنوت منه ، لم يأبه لي ولم يستجب لغضب مفتعل حاولت أن أسقطه صراخاً في وجهه ، تشبث بموقعه وتركني أذعن أخيراً للمغادرة كي لا يلومني المارة الذين ألف معظمهم مرآي كل صباح .

في أيامنا التالية  عاد إلى صمته ولم يفعل شيئاً مهماً يستحق عليه عقاباً ، ولم يأبه لرفقتنا التي باتت جزءاً من طقوس الشارع الذي نعبره ..

أحس أننا نراقبه ، وأنه موضوع كلماتنا القليلة في كل صباح ، ابتسم ، أو هكذا خيل لنا ، ثم صار يرضى بقسمته في مرافقتنا على بعد خطوات قليلة ، يتنعم بما آل إليه بعد دخولي عالم عشقه ، وينتظر أن أغيب كي ينعم بحصة أكبر .

طال أمد حضوري ، فبدا عليه التذمر ونفاذ الصبر ، وقررت من باب الفضول أن أتأخر قليلاً كي أراقب ما يمكن أن يفعله ..

ظل خلفها حذراً  وصارت تلتفت على غير عادة منها إلى الخلف ، وبان على وجهها قلقٌ واضحٌ

حاول أن يلتصق بها بعد أن اطمأن إلى غيابي .. وكنت أرى ذلك من بعيد ..

أسرعت كي أحول دون تنامي الخوف عند وردتي العبقة الجميلة ، أحس بخطواتي خلفهما ، فزمجر وابتعد تاركاً لي المجال كي أدنو أكثر من رفيقة صباحاتي بعبقها وطلاوة حديثها ومواطن الشهوة المأمولة في ثنايا جسدها ، وقد بدا في عينيه رضوخ وقبول لحصة آلت إليه في هذا الصباح المفعم بالطلاوة والنعومة وعبق الأنوثة ...

 

 

   سلمية في 26/3/2006

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية