دراسات أدبية

شــجــرة الـــتوت وجذور الانتماء

شــجــرة الـــتوت وجذور الانتماء

626 مشاهدة

شــجــرة الـــتوت وجذور الانتماء

#القاصة _فداء _سلوم _سوريا

#بقلم _عباسية _مدوني _سيدي _بلعباس_الجزائـر

      #السيدة " فداء سلوم " من أرض الياسمين –سوريا  ، في مجال سردها القصصيّ  تلمحها  تنهل من الذاكرة الجماعية ، مستحضرة إرث وتراث الرعيل الأول من الأجداد ، مع السعي نحو استخلاص عبق الماضي ، وسحر الحاضر وشغف المستقبل ، ومدّ الأجيال الواعدة بلفيف من المواعظ والحكم ، والرحيل بهم نحو ماض عتيق ، ونحت لحاضر واعد ومستقبل مغر، بغية حثّهم على الحفاظ على الإرث الجماعي باعتباره الأصل والأصالة .

    وههنا ومن ضمن مجموعة من القصص التي تكتبها معتصرة الذاكرة ، ومستحضرة شخوصا حقيقية ممّن عايشتهم ، ونهلت بدورها من روحهم الطيبة ومن خير ما بذرته أياديهم زرعا ، وحبا وإنسانية ، تشبّعت من كل ذلك ضمن مرحلة عمريّة ، لتكون في مرحلة ناضجة ممّن يحفظ تلكم الذاكرة ويسعى بكل إبداع ووفاء ومحبة أن ينقلها بكلّ أمانة ، رابطة حبل الانتماء بين الماضي والحاضر، داعيّة كل قارئ إلى الاستعداد لرحلة حبلى بالشغف واللهفة والمفاجآت ، على أن يتوقف ذلكم المتلقي برهة للتمعّن واستخلاص العبر.

    في قصتها " شجرة التوت "  تزاحم الذاكرة والذكريات ، تحلق بالمتلقي وتفتح معه كتاب الماضي العتيق ، وهي تنسج وإياه بعدها السردي المحبوك بعناية ، معطّرة الوجود بأصالة ذلكم الماضي ودهشة الحاضر وهوية المستقبل ، تراها تراقص تلكم الشخوص لتلبسها ما يليق بها من بوح أنيق في زمن الشتات ، حاثّة جيل الوعي أو ما تبقّى منه على التشبث بالأصول والجذور والإنماء والهوية ، ليكون وفيا لتاريخه ، وماضيه وأصالته ، لتكون شجرة التوت شجرة الانتماء والبذل والعطاء وتظل مثمرة بالظلال والحنو ....وما شجرة التوت تلكم سوى عينة ضئيلة من بذخ وكرم أرض الياسمين ...وما تلكم الجدة التي تسكن روحها ذكْرا وذاكرة وحنيّة ،سوى دمشق الأم الرؤوم ، الولاّدة التي تحبل ونادرا بقلم قصصي مبدع ، يملك آلية تحقيق المتعة للمتلقي للسفر دون حزام أمان ، لأن السلام الروحي والأمان موجودين بين بيادر هذا البوح الأنيق ....فشجرة التوت تلكم قصة صمود وثبات واستمرارية ...قصة وفاء وحب ...قصة ذكريات تظلّ عبقة عبق الوجود ...قصة الزمن الجميل بين دروب هذا الواقع ...

شــجرة الــــتوت

حزيران عاد ...

وشجرة التوت بدار أهلي تنتظر عودتنا...

تترقب اندفاعنا ... لنعانق أغصانها ، ولنملأ كفوفنا الصغيرة

بحباتها البيضاء الطيبة، التي لم يحالفها الحظ ان تطعم وتصبح حمراء ؛ قد تكون عنيدة كعناد أهلها ...

وجذع شجرتنا ليس له مثيل بالكون ! من أيام الجد وجد الجد نما وترعرع بوطننا ؛

وكم أفزعني ذلك الجذع البني اللون الخشن بتعرجاته وتجاعيده العميقة القاسية على الزمن ، الحنونة على نعومة ايادينا الصغيرة  ،  هذا الجذع أنبت مئات الفروع الكريمة، المضيافة، المستقبلة لعصفور الدوري، المحتضنة لأعشاشه ، المستمتعة بتراتيله الصباحية، تلك الشجرة كانت وطنا لكل حي اقترب منها ومن أوراقها الخضراء القلبية الشكل، اللامعة من شدة النضارة والنظافة ؛ كم تحملت تلك الفروع عواصف وهوى الوديان ...كم وقفت عارية شامخة رافضة الركوع لثلج كانون !!

كم تباهت بفستانها الشديد الاخضرار المتصدي للهيب شمس تموز الذي يجعل الماء يغلي بالكؤوس، كم تحملت هزات يد الكبير والصغير... ليتساقط كبوش التوت الطيب المذاق، الحلو النكهة، الذي يرد الروح لمـن  نظر إليه.. ولمن قطفه.. ولمن أكله ...

هوى التوت مبارك ملأ عيوننا ، ووادينا بنسائمه الرقيقة، وأنعش الصدور ، وانعس العيون بقيظ تموز وآب اللهاب ، نتهامس قبل دخولنا للدار :

قادمين من قاسيون الشام ، نتهامس ضاحكين.. متخيلين ستي

مستلقية بأرض الدار على دشك خشبي تحرس شجرة التوت، من اللصوص الصغار المخترقين لحرمة الدار بغيابنا بالشام !! فقد أصبحت دارنا مقصدا" للعشاق ، ولطلاب البروفيه  والبكروريا كما تدعوها ستي ؛

اصبحت توتة أبــي مزارا ، لطالب الحب، وطالب العلم ،وطالب الاختلاس من كرم تلك الشجرة العتيقة العريقة بأصالتها، الممتدة من جيل لجيل، رافضة التنازل عن مكانتها ... فقد امتدت جذورها لتحت أساسات بيتنا الحجري الذي تعمر بذهب أمــي !

نقوط عرسها ...وهدايا أبيها  المغترب بفنزويلا، وعم عريسها المغترب ببلاد العم سام ؛ بيعت الاساور والاونصات ليعمر الدار، ولتبقى دموع امي على خدودها طول العمر ؛ وتبقى توتتنا تجمع تحت فيئها المحبين للنسمة العليلة ، و لكلمات صاحب الدار ذو الصوت الهادر، الصادح عبر الجبال ،المرتد لحجارة بيتنا البيضاء بصدى عميق جميل ممتلئ حنان وحنين ...ممتلئا أحلاما ...وآمالا ...إنّ  اغصان شجرة التوت ستشهد ضحكات الجد ،  الأب ، الأولاد والأحفاد ...

والويل لكل من قال :

اقطعوا جنديع (غصن) من شجرتكم فقد غطت على الشمس، وحجبتها عن الدار!!

لا نقطع نحن ! نحن يدنا خضراء تزرع وتتمسك بالجذور وبالأصول... يا لكبرياء تلك العريقة الاصيلة  التي ربت على اوراقها دودة القز... لم تستطع روحي الصغيرة ان تستوعب ان التوتة كانت بيتا آمنا لدود القز ... بيت كريم يطعمها ويحميها لتأكل وتترعرع بربوعنا لتعطينا خيط الحرير ! لم يكن التفاح معروفا بقرانا !  فقد كانت الحواكير وطنا لجذور التوت ، ولدود القز، وللحرير وللحريرة التي تشترى من الدكان، كلما بيعت شرنقة الحرير والحريرة نوع من الحلويات المحببة للصغار ملونة بخيوط بيضاء وزهرية كانت عشق امي بطفولتها... وبمجرد ان ذكرت الدودة امتنعت عن أكل حبات التوت !

لم استوعب كيف سأكون انا والدودة بنفس المكانة ؟  وعقلي الصغير ارتعب من فكرة ان يأكل حبة توت

فتدخل دودة القز بفمي وتأكل أسناني وحلقي وصوتي  ... كيف سأغني ..؟

كيف سأقول للعصفور بحلفك بالغصن يا عصفور ...

كيف سأتخانق  مع اخوتي ومع امي الرافضة لمحبتي لحضن ستي ورائحة صدرها المعطر بحبق الدار ؟

تم الخصام مع شجرة التوت ومع حباتها ومع دودتها حتى الحرير لم يعد يهمني واكتفيت بالقطن والصوف لبعدهما عن اي نوع من الدود ... وتستفيق ستي من قيلولتها ،على وقع اقدامنا وخطواتنا الشامية ،وهمساتنا وضحكاتنا ... ونصرخ ستي ...ستي...ستي :  وصلنا من الشام

ارتاحي من الحراسة يا حبيبتي فلن يجرؤ اللصوص بعد الآن على مداهمة ارض الدار ، وسرقة التوت

فقد عدنا مع حزيران ،  عدنا مع الحصاد، مع سنابل القمح المالئة لبيادرنا ؛ عدنا لنشبع حنطة وخبزا وتوتا 

لن اقول لك يا حبيبة، وأنت تنامين تحت التراب وتحت جذور شجرة التوت وجذور القمح ،

لن اقول لك لكي لا تحزني أن بيادرنا احترقت وقمحنا اختفى .... نعيش الخوف على رغيفنا وعلى حبات التوت... نعيش الخوف أن تتركنا شجرة الآباء والأجداد وتجف جذورها تحت بيتنا...يا ستي هل يعقل ان نبقى بلا جذور ؟

هل يعقل ان ترحل حبات التوت وتموت كما ماتت دودة القز ؟  ولا أغني ( طقي يا حبات التوت )

هل يعقل ان افقد صوتي ولا اغني يا سوريا عزك دام ....؟؟

سأبقى أردد سوريا يا حبيبتي