قالت الصحف

صباح الأنباري عشبة الخلود وفلسفة الموت في مسرحية القلعجي هي التي رأت

صباح الأنباري عشبة الخلود وفلسفة الموت في مسرحية القلعجي هي التي رأت

862 مشاهدة

صباح الأنباري عشبة الخلود وفلسفة الموت في مسرحية القلعجي (هي التي رأت

الأصدقاء الأعزاء والأحبة

نشرت صحيفة العراقية/ الاسترالية الصادرة في سدني نص مقالي الموسوم (عشبة الخلود وفلسفة الموت في مسرحية القلعجي (هي التي رأت) وللاطلاع عليها اضعها لمن في ادناه:

عشبة الخلود وفلسفة الموت في مسرحية

عبد الفتاح رواس قلعه جي

(هي التي رأت)

صباح الأنباري

بدءا لا بد من الإشارة الى الجملة الافتتاحية لملحمة جلجامش: "هو الذي رأى كل شيء" لارتكاز عنونة المسرحية عليها بعد تأنيثها (هي التي رأت) وبعد حذف (كل شيء) منها لان الكاتب لم يرد أن يخبرنا عند عتبة العنونة عما رأت. جلجامش رأى كل شيء فماذا رأت هي غير ذلك؟ سؤال يدعوا الى التوقف، والتأمل، ومحاولة الإجابة التي تغيب عنا ونحن لا نزال عند عتبة بابها، وربما سنجدها داخل نص المسرحية، وأكاد أجزم أن العنونة لا تخلو من وجود صلة بينها وبين الملحمة فكاتب مثل عبد الفتاح رواس قلعجي لا يمكن أن يقدم على خطوة كهذه من دون أن يضع في حسبانه شيئا ذا صلة وإن كانت مجهولة في البداية إلا أنها ستتكشف لنا فيما بعد، فانا أعرف بالطريقة التي يكتب بها هذا المبدع نصوصه المسرحية وأتمكن من اجتراح خفاياها خاصة بعد مروري بتجربة الكتابة عنه في كتابي الموسوم (التأصيل والتجريب في مسرح عبد الفتاح رواس قلعه جي)

في الوصف العام لمنظر المسرحية تتضح لنا أولى خيوط الصلة من خلال بحث الشخصية (حياة) بين الأعشاب والزهور حتى تهتدي (عن طريق رجل خارق/ الرجل الأخضر) الى عشبة لذيذة تمضغها وكلبها فتشعر بنشاط وحيوية تجعلها ترقص فرحاً ومرحاً مع الكلب. هنا يتكشف لنا أول خيوط الصلة بين عشبة (جلجامش) التي مضغتها الأفعى وعشبة (حياة) التي مضغتها مع الكلب. الحيوان هنا عنصر ثالث مشارك في عملية الخلود. هذا كله في القسم الأول (العرض السينمائي) من وصف المنظر، وفي القسم الثاني تستمر الصلة فنرى العشبة نفسها في لوحة على الجدار أو كما أرادها القلعجي تظهر على شاشة كلما دعت الضرورة الى ظهورها، وحسب مقتضيات المشهد المسرحي. الوصف يعطينا أيضاً تصوراً واضحاً عن الشخصية الرئيسة (حياة) فهي شابة في الخامسة والعشرين من العمر، حائزة على شهادة الدكتوراه في علم النبات، محبة للقراءة والبحث العلمي، وعاشقة للزهور والنباتات البرية. وكل هذا يزيد من دعم العنونة ومبرراتها المنطقية. أما الشخصية فإنها تكشف عن نفسها عندما تقول:

"قرأت كل شيء عن الروح في الكائنات الحية، وعن خلودها أو فنائها بعد مفارقة الجسد هذه المادةِ الكثيفة، وكانت رسالتي الجامعية تتضمن فصلاً كاملا عن هذا الأمر"

من هنا يتحدد تقريباً الطريق الذي ستسير عليه المسرحية محاولة اجتراح الإجابات التي حيّرت البشر وأربكتهم من أيام جلجامش الآفلة وحتى أيام (حياة) الراهنة. إنها تمخر منذ اللحظة في بحر الفلسفة العميق لاستجلاء الحقيقة المطلقة. وهنا يورد الوصف الدقيق الآتي:

"الكأس هو الجسد، والماء فيه هو الروح، فالكأس يتحطم، والماء فيه يسيل ويتبخر"

لقد أدرك الإنسان القديم هذه الحقيقة وعمل جاهدا على رأب الصدع في كيانه المادي الهش أو حماية الجسد القابل للانكسار مثل كأس الماء وهذا هو ما جعل جلجامش يتحمّل أذى الطريق، ومشقته، وعنائه كي يحصل على العشبة التي تقيه الانكسار بعد أن كسر إناء أنكيدو خله الوفي، وصديقه الحميم.

وكاتبنا كما هو شأنه لا يخلو من افتراضات مضادة قد تصحح بعض المسارات فلسفيا ومثال ذلك السؤال الذي خطر على بال (حياة):

ولكن ماذا يحدث لو أن الكأس كان مصنَّعاً بمادة مقوية للغاية فلا ينكسر، والماء فيه باق لا يهرق ولا يتبخر؟

ويأتي الجواب على عجل سيتعفن الماء داخل الإناء طبعاً، ولكن لماذا لا تفترض أن الماء سيحفظ نفسه بنفسه عن طريق دورة طبيعية للتحول من شكل الى آخر أو بمعنى أدق من حالة الى أخرى؟ وماذا سيحدث لو أن جلجامش مضغ عشبة الخلود بدلا من الأفعى؟ ويأتي الجواب من داخل المسرحية سيظل جلجامش كما هو عليه جسدا وروحا ولكن سيهرم الآخرون كما هرم زوج (حياة) وأبناؤها وأقاربها وغيرهم، فتولدت الهوة الفظيعة بينها وبين بيئتها المحيطة. وهذا هو ما أراد القلعجي مناقشته في هذه المسرحية تحديداً، ومن ثم إلقاء الأضواء على حقيقة التعارض بين الحياتين: الحياة الطبيعية المألوفة الفانية، وحياة الموت المتكرر غير المألوفة والأزلية وهنا يفترض موت حياة ليعرض لنا الكيفية التي يتعامل بها الأحياء مع الأموات وان كان الموت مؤقتاً. فالزوج (زوج حياة) وهو رجل هرم يتصل بالطبيب ليعاين حالتها وهو لا يعرف ما إذا كانت غائبة عن الوعي أم ميتة أم نائمة. فقد تكررت هذه الحالة مرارا وبعد كل مرة تعود الى الحياة ثانية من سبات طويل وعميق. ومن ناحية أخرى فإنها تولد إرباكاً كبيراً عندما تكون على قيد الحياة فأحد أبنائها امتنع عن الظهور معها لأن الناس يسألونه عما إذا كانت هذه المرأة خطيبته أو زوجته لأنها بعمره ظاهرياً وهذه إشكالية أخرى تجعلها تتمنى الموت بدلا من بقائها ورؤية جيلها والأجيال اللاحقة تودع الحياة فيتفاقم عليها الشعور بالغربة والغياب وهذا ما ترغب فيه ولم يجربه البشر الذين ينشدون لأجسادهم الخلود الأبدي، وفضلاً عن هذا كله يقدم لنا الكاتب حلاً ناجعا يخفف الغربة ويلغي الغياب ويتكشف لنا من خلال الحوار الآـتي بين الزوج الذي بلغ التسعين من العمر والزوجة التي لا تزال في عشرينات عمرها الطويل:

حياة

:

(تتناول مرآة من الطاولة وتضعها أمامه فيدير وجهه، تسقط على الشاشة صورة لهما وهما شابان يسيران في حديقة الجامعة) أوه هذه صورتنا في الجامعة (تسلط المرآة على وجهه فقط فتنعكس صورته شاباً) وهذه صورتك الآن وأنت في التسعين، مازلت شاباً.. انظر يا عزيزي.

الزوج

:

كلا.. لن أنظر.. أنت ساحرة أو مجنونة.

حياة

:

(تضحك) أو عاشقة.

الزوج

:

أيكون عشق في هذا السن؟

حياة

:

(تعيد المرآة إلى مكانها) ولم لا. مادام الجسم شاباً؟

الزوج

:

هذا بالنسبة لك، أما أنا...!

حياة

:

أنتَ كما رأيتك في المرآة.. شاب وسيم.

ولكن الحب بهذا العمر لا يمكن أن يكون متكافئا في المشاعر على الإطلاق لذا عليها أن تعي هذه الحقيقة الصادمة. إنها ترغب في تقبيل زوجها من شفتيه ولكن هل يرغب هو بذلك بعد هذا العمر وسنواته التسعين؟ من هنا تبدو المفارقة الكبرى والمشاعر المربكة المضطربة والاضطرار الى تغيير المسارات كلها. الزوج لن يقبل بمرافقة زوجته خشية القال والقيل والهمس واللمز ويحاول الحفيد إقناعه بالعدول لأنه يتمنى لو أن له خطيبة جميلة كجدته وبعمر كعمرها وخالدة كخلودها فيخبره جده أن "الخلود نقمة" وهو يولّد هوة سحيقة بينه وبين الفناء. وإذا كان في وجود زوجها ما يبرر تمسكها بالحياة إلا أن موته جعلها تتخلى عن نعمة الخلود متمنية الفناء الأبدي.

تحاول (حياة) الاستسلام للموت. شهر كامل مر بها دون أن تتحرك وعندما يناجيها حفيدها تقول له:

أحس بروحي كوناً يتمدد، أشعر بها وهي تكاد تمزق جسدي ولكنها لا تستطيع، كم أنت صلب وقاس أيها الجسد!

وتستمر المسرحية على هذا المنوال بحواراتها الفلسفية والعرفانية حتى مشهدها الأخير، وحتى تعثر حياة وكلبها على عشبة الموت لتضع النقطة الختامية في نهاية سطر الحياة تحت المؤثرات البيئية الأولى نفسها،

فلا معنى للحياة أن تستمر بلا جدوى، وبلا مشاعر إنسانية مشتركة ومتبادلة مهما كان المستقبل مزدهراً، وراقياً، وعلى درجة عالية من التطور الحضاري، والتقني، والمعرفي.