مواضيع للحوار

عرض مسرحي من خارج صندوق التكرار من عروض قرطاج

عرض مسرحي من خارج صندوق التكرار من عروض قرطاج

610 مشاهدة

من عروض قرطاج   ليلة حارة

 عرض مسرحي من خارج صندوق التكرار من عروض قرطاج ..

الناقد الكبير محمد الروبي ..

يكتب خصيصا لموقع المعاصر و التجريبي

 

( ليلة حارة صيفية في مدينة منسية )هو عنوان عرض سوري ألماني، قدمته فرقة ( وايت فلاكس) ضمن فعاليات الدورة الـ 21 لأيام قرطاج المسرحية. كتبه وأخرجه ( أسامة الحفيري ) لعبه كل من ( مجد الحفيري) تمثيلا، و( سجا نوري ) رقصا .

” ليلة حارة صيفية في مدينة منسية ) عنوان قد يبدو طويلا ، لكنه الطول المقصود به السخرية من عناوين روايات تدعي الشاعرية وتدور في فخ تكرار ثقيل بينما فحواها لا شيء. منذ العنوان يحدد العرض المسرحي هدفه، إنه السخرية من مجتمع ( بل عالم ) يضغط على قاطنيه بثقل همومه وتفاهة نخبته. فها هو كاتب، لا نراه، فقط نسمع صوته، يحاول كتابة روايته الجديدة ( ربما الوحيدة ) بينما نتابع نحن تجسيد ما يضغط به على الآلة ويقرأه بصوته على خشبة مسرح عارية إلا من قليل، سرير على الجانب الأيمن ينام عليه شخص يتمتم بما يراه في حلمه، ونافذة كبيرة في منتصف العمق تعكس مشهدا لمدينة ( رمادية حسب وصف الكاتب ) مرسوم بطريقة الكاريكاتير أو بالأدق بخطوط أفلام الكارتون إذ أنها ستتغير بعد قليل حين يضاف إليها المطر أو حين تتحول إلى مدينة باريس الفرنسية ببرجها الشهير. وبمقابل السرير على الجهة الأخرى منضدة خشبية بسيطة يقبع فوقها أداة لصنع القهوة سريعة التجهيز وبعض الأكواب.

النائم يغمغم بما يراه في حلمه، ليشرع بعدها صوت الكاتب المخفي في سرد إحساس بطل روايته ومعاناته التي تدور في تكرار الصحو متأخرا بعد أن يغلق صوت منبه الذي يضبطه دوما على الساعة التاسعة صباحا لكنه دوما لا يصحو إلا في الثالثة ظهرا.

هذا المشهد الذي سيعاد أدائه بتكرار مقصود يعكس من ناحية عجز الكاتب ومن ناحية أخرى ملل بطل روايته، الذي سيفاجئنا بتمرده على هذا التكرار بل على سيرته كلها واختيار كاتبه لمصير لا تبشر بدايتة إلا ببوئس لا يطيقه.

تمرد الشخصية التي اختار لها كاتبها المخفي اسم ( سمير ) يتجسد في حوارها الغاضب مع صوت الكاتب. وهو الحوار الذي سيتأسس عليه العرض الذي يبدو بسيطا ساخرا مفجرا للضحكات، بينما هو في عمقه و عبر تعارض كلا المنطقين ( الكاتب والشخصية ) كاشف لوهم ما نحياه ( نخب وعوام ) من عجز.

لن يتجاوز تمرد ( سمير) حد اعتراضه على فقره وعلى حصاره في منزل فقير بمدينة مهجورة منسية حارة. فيقترح على الكاتب أن ينقله إلى باريس ويجعل منه موظفا كبيرا في احدى الشركات الفرنسية الكبرى يحصل منها على راتب كبير يتيح له حياة مرفهة ، بل ويتدرج في وظيفته الكبيرة ليصل إلى أعلى مرتبة فيها و.. و.. وفقط . ليفاجئ ( سمير ) بعد قليل من الأحلام التافهة أنه مايزال غير سعيد . فينتهى به الحال ومن ثم العرض بتكرار آخر يصيبه بغضب مضاعف.

 ولأن الحدث المسرحي يبنى على السرد ( سواء ما يقوله الصوت الصادر من شخص مخفي أو ما تقوله الشخصية ) والذي يمكن أن يصيب العرض المسرحي بسهم الحكي فيخرج به من عوالم الدراما وأهم ما يميزها هو التجسيد، أضاف الكاتب والمخرج شخصية أخرى ( إمرأة ) تجسد أحلام الكاتب وخيالاته – ومن بعدهما أحلام الشخصية وخيالاتها – رقصا دون تدخل في الحوار المتبادل بين الشخصيتين. وهي شخصية تولد مرة من أفكار الكاتب ومرات من أفكار الشخصية المتمردة. الأحلام الراقصة والتي صممت بنعومة ودقة منحت العرض حيوية وضبطت إيقاعه.

يبقى أن نشير إلى أداء (مجد الحفيري ) الذي تميز ببساطة معبرة عن انفعالات متناقضة ( تناقض يفرضه اختلاف المنطقين) وهو ما ساهم أيضا في إضفاء حيوية على العرض الذي يمكن وصفه بالمبهج بما يثيره من ضحكات ستنتهي بسؤال يدور في ذهن المشاهد ( الضاحك)- و أظن أن المسئولين عن العرض كانوا يستهدفونه – وهو .. ألا تشبه هذه المدينة ( المنسية ) بجفافها كثير من مدننا بل ومدن العالم، والأهم ألسنا نشبه نحن ذلك الـ ( سمير ) المدفوع دفعا إلى طريق لا يحبه ولا يمثله ولا نملك مثله إلا الغرق في أحلام وردية تشبه هي الأخرى تلك البالونات الزاهية المربوطة بجسده في حين يظن هو ( ونظن نحن ) أنه يحلق بها إلى سعادة مفتقدة ؟

وكذلك بتعبيرات وخطوات( سجا النوري) الراقصة التي أضفت حيوية على العرض.

 ” ليلة حارة صيفية في مدينة منسية ” عرض يمكن وصفه بأنه ” خارج صندوق التكرار” الذي أغلق على كثير من عروضنا العربية، مبهج ممتع ومثير لتساؤلات واقعية وإبداعية .