أخبار أدبية

عندما سقط المشبك وارتفع العرض

عندما سقط المشبك وارتفع العرض

503 مشاهدة

عندما سقط المشبك وارتفع العرض…

#حمه سوار عزيز -  أربيل

موقع: #الفرجة

في: يناير30- 2019

ضمن فعاليات مهرجان بابل للمسرح الأكاديمي الأول، عرضت مسرحية (#حين سقط المشبك) من قبل كلية الفنون الجميلة/ جامعة بغداد، العرض من تأليف و اخراج (د. #جبار خماط) من قصائد #هدى الدغارى، تمثيل (#اسراء رفعت، #سيف الياس و #جبار خماط)، العرض كان ضمن #فسلفة العيادة المسرحية التي يعمل عليها د. جبار خماط و تهتم بتأهيل شرائح معينه من المجتمع الإنساني التي تعرضت الى الاضطهاد أو واجهت ظرفا قاسيا عن طريق المسرح و الرقي و السمو الذى يمتلكه المسرح و يأثر ايجابيا في نفسية المشاركين به و حتى المتلقين له، ولو أن هذا العرض مثل من قبل ممثلين محترفين  في السلك الأكاديمي و لم يكونوا من الشرائح التي تعمل عليها #العيادة المسرحية.

أول ما شد انتباهي في العرض، هو وجود ذلك العنوان أو المانشيت المحير (حين سقط المشبك)، هذا العنوان مثل لي بذاته عرض متكامل يحتاج التنقيب و التفكيك و اعادة البناء، ماذا أراد المؤلف و المخرج حين وضع هذا العنوان على المسرحية، مانشيت غامض و عميق يحمل كثير من الدلالات السيمولوجيه المتعددة اذا ربطناه بواقع العرض و الدلالات البصرية و الموضوعية الموجودة بكثره في طياته، ماذا يحدث حين يسقط المشبك، وماهي وظيفة المشبك و ماذا يحدث بوقوعه، وماهي افرازات هذه الحالة التخيلييه العميقة في أذهان المتلقي و كيف نستطيع أن نربطه بالدلالات السيمولوجيه  المسموعة و  العيانيه و الحسيه داخل فضاء ذلك العرض المليء بالصور الفنتازيه و الخياليه الايحائيه المتعددة الدلاله ، والاشكال المتولده من كل ذلك التعدد.

 

حين يسقط المشبك، تتعرى الحقيقة و ينكشف المستور و يزيد مساحة الرؤيا و التفكر و التأمل، فالمشبك هو المانع أو الوسيط الذى يحجب الصورة الكبيرة، المشبك هو ذلك المسند الضعيف الذى قد يخيل لنا بأنه يمكن له أن نستند عليه و نختفى أو نتخفي من وراءه دون أن يرانا الأخرون كما نحن، هو ذلك الفاصل الذى يفصل بين عالمنا الخارجي و ما نخفيه من الغوامض و الأسرار الذى يتحكم بداخلنا و بكل ما مدفون في أعماق هذا الداخل المخيف، الدامس الظلام، الداخل الذى نسوقه في الخارج في صور مزيفه و مفتعله و غير متأصله، الداخل الذى طالما عشنا داخله دون أن نتمكن من فهمه و نمتلك الجرئه في بيانه أو اظهاره للعيان، فأصبحنا نتمسك بأى وسيله حتى لو كانت هشه، تبقى التعتيم  على هذا الداخل و لا يسمح للأخرين الغور فيه و أكتشاف الخبايا العميقه و المسوده فيه.

 

السؤال هو ماذا يحدث عندما يسقط هذا المشبك، وتتعرى الحقيقه المجرده و البسيطه للعيان، ماذا يحدث عندما لايعود المشبك قادرا على شبك الأحاسيس و الافرازات الإنسانية المنغلقه في داخلنا لكي نتمكن من التنفس و نوهم أنفسنا بأننا أحياء نرزق، نغني في حين حنجرتنا تملؤها البكاء و الونين،  نضحك حين قلوبنا توزع الهموم و الدموع في داخل الشرايين و تغذى به كافة خلايا الجسم، الدماغ لا يملؤها إلا صرخات الموت و أهات العجز و صور الأجساد الدمويه المشوه التي ترقد داخل برادات حفظ الجثث من دون الملامح و الهويه.

ماذا يحدث حين يسقط مشبك الاكاذيب الذى نتغذى عليه يوميا، الأكاذيب الذى يصدر الينا كحقائق و ثوابت غير قابله للنقاش، أكاذيب السلطه، أكاذيب المجتمع، أكاذيب الثقافه، أكاذيب  الاعلام، أكاذيب التحضر، أكاذيب المستقبل، أكاذيب الماضي المبجل، أكاذيب التاريخ المشوه، أكاذيب الإنسانية ، أكاذيب الرسالات  و الفلسفات المزيفه التي نتعيش عليها و نصدرها دون أن نتظلل في ظلها، أكاذيب الأديان الذى نتمسك بصورتها الخارجيه والخشنه و المتوهمه، و نتجنب الجمال و الحب و التسامح في أعماقها.

المسرحيه تبدأ بامرأه متشحه بالسواد، أرمله تكره الطبخ، الطبخ لأنها عمليه أستهلاكيه تنتهي في بيت الأدب، بيت الأدب ليس بيت الأبداع للشعر أو القصه أو الروايه، انها التواليت أو المرافق الصحيه، لهذا أنها تكره الطبخ، أرمله تنتظر أبناءها الثلاثه الذين فقدوا في ثلاثة حروب متلاحقه، من هنا فأن المخرج يجمع بين مجموعة من ثنائيات متضاده و مختلفه، كالأمل و الانتظار، الحرب و الحياة، الوهم و الحقيقه، الا ان تلتقي في نفس المكان برجل أخر يعرف عن نفسه بأنه ساعي البريد، ولكن ساعي بريد من نوع مختلف، الساعي الذى لم و لن يسافر، فقط رسائله تسافر، لأنه سجين بلد، الساعي الذى لايحمل أخبار المفقودين، انه هو نفسه من يبحث عن المفقودين، حتى رسائله رسائل قديمه أصحابها موجودين في الجنه و ليسوا على الأرض.

المسرحية فكرتها المثلث الأبدي الذي عاش في ظلها الأنسان، مثلث (الرجل و المرأة و المجهول)، المجهول الذى كان شيطانا في أول وهله عندما وسوس لأدم و حواء أن يأكلوا من الشجرة المحرمة و يخصف عليهما من ورق الجنه و يتعرون، فيطردون من الجنه و يسكنون الأرض، المجهول الذى كلما تغير الزمن و المكان يظهر بصوره مختلفه و متلائمه مع الظرف الجديد، فيصبح هو المتحكم و المسيطر بقدر الأنسان و توجيه مصيره، فتارة نراه في شكل السلطه و المال و المجتمع و التاريخ و العادات و الذاكره الجماعيه، تارة أخرى يطلع علينا  في فورمة القوه الغيبيه المتحكمه، و أحيانا  يلبس ثوب الغريزه و الجشع و النرجسيه التي ترسم دواخل الشخصية الإنسانية.

امرأه تنتظر منذ ثلاثين سنه عندما أخبروها بأنها ستصلها رساله من ساعي البريد، فهي تنتظر يوميا لمدة ثلاثين سنه ذلك الساعي، في انتظار يشبه كثيرا انتظار فلاديمير و استراكون  لكودو الذى لا يأتي أبدا، انتظار العجوز و العجوزه للخطيب في مسرحية الكراسي، و عندما يأتي الخطيب نكتشف انه أخرس و لايستطيع الكلام، هذا ما يحدث بالضبط في هذه المسرحية، المرأة تنتظر ساعي البريد، ولكن عندما يأتي ساعي البريد، نكتشف أنه هو الأخر ينتظر جثه ابنه الذى لايستطيع أن يتعرف عليه بين الجثث المتراكمه و المتراصفه المشوه، هذا هي الثنائية الذى عمل عليها المخرج و المؤلف في هذه المسرحية، ثنائيه الأنتظار و الوهم، الأمل و السخريه، بيت الأدب (التواليت) و الشعر و التصوف.

المسرحية في فورمتها البصرية ممتع و جذاب، يشد المشاهد من حيث كثرة المشاهد الصوريه الفنتازيه ذات الجماليه العاليه، فنرى توظيف رائع و مبدع لجسد الممثل و خاصة شخصية ساعى البريد التى مثلها د.جبار خماط، تمكن جبار خماط من توظيف رائع لمفردات الجسم و الحركه الدراميه المنتجه لدلالات متعدده يصاحبها أناره خلاقه و بألوان معبره و مشبعه للمتلقى، خاصة في المشاهد الكروتيسكيه  التى وظفت بشكل مبدع و متناسق مع ايقاع العرض و كسر جمود الايقاع السمعي نحو ايقاع مرئي ذو حسيه عاليه، كما في مشهد (الغابة من دون دب)، حيث يرقص الشخصيه على ايقاع ذلك الصوت الذى يصدر من الشخصيه الثالثه المتحكمه بالإنسان، أدى د.جبار هذا المشهد بانسيابيه رائعه و جسم مساعد وأحساس عالى، وقد أضافت  المشاهد الكروتيسكيه كثير من الروعه و الجمال لفضاء المسرحيه الممتلئ بلفتات و لمسات ابداعيه جعلت من العرض أن تكسر ايقاع و ريتم العروض المشابهه التى تروي  ويلات الحرب و المأسي المتمتده لما بعد الحرب، بحيث تسيطر عليها نغمه بكائيه و ايقاع مشجون بالحزن و الألم.

أمتلئ العرض بكثير من الدلالات السيمولوجيه أغنت العرض و جعلها في مصاف العروض التعبيريه و الرمزيه، فالهاون الذي يدق و يسيطر على الفضاء مثل صوت رأس المثلث الذى يتحكم بحياة الانسان و يتحكم بمصيره  من دون رحمه، والحيوانات التي تستمع للنفرى و تنام على كلمات هدى الدغاري، وتتحول من حيوانات مفترسه الى كائنات أليفه محبه و رقيقة القلب، فالأسد يمد يده للهدنه، والذئب ملمسه ناعم و شهيقه عذب، هذه المقاربه بين الأنسان  الذى كتب من أجله الشعر و النثر و القصائد الصوفيه، لكن لايتأثر بها و ويستمر في افتراس من حواليه بدون الرحمة و التفكير، فيبتكر و يبدع الحروب التي تكره الاجازات و تمتلئ بالجثث المشوه التي لايمكن التعرف عليها، على عكس الحيوانات التي تتأثر بالكلام العذب و المنطق الإنساني  الذى خرج من الانسان، فيتحول الحيوان المفترس الذى يتغذى على الدم و اللحم، الى كائنات أكثر أنسانيه من الانسان ، تتغلب على أنانيتها و جشعها و تتنازل عن خاصيتها الالهيه المفترسه، لكى تتحول الى كائنات عاشقه تتذوق الجمال والحب، فتلعس خدود امرأة مليئه بالحب الذى لم تحصل عليه بسبب افتراس و وحشية الانسان.

استنجاد المؤلف و المخرج بالشاعر و الكاتب الصوفي العراقي (محمد بن عبدالجبار النفرى)،  صاحب المقوله الشهيره ، (كلما توسعت الرؤيه، ضاقت العباره)، كان له مفعول ايجابي كبير على فلسفة العرض، الذى عمل عليه المخرج في هذه المسرحيه بالضبط، فلكى يوازى الرؤيه، أستنجد بكثير من المفردات  الحركيه و الحسيه و الصوريه، كالرقص و الطقوس و الحلم و الخيال المحسوس، فأصبح الرؤيه الفنيه متوازيه مع الرؤيه البصريه و الحسيه العاليه المجسده لفضاء العرض.

التمثيل و الأداء أخذت مساحه واسعه من المساحه الأبداعيه للعرض، فالأستاذ جبار خماط أظهر لنا قابليه كبيره في الأداء و التنوع و رسم الأشكال و الفورمات المختلفه لمراحل شخصية ساعي البريد، فكان جسمه متناسقا مع الوضعيات الحركيه و الطقوس الدراميه التى أداها باتقان و ابداع و كان له شخصيه مؤثره و مسيطره على فضاء العرض و تمسك بزموم المبادره و الايقاع  المبدع و الهارمونى المتجانس مع فورمة العرض و الفضاء الدرامى لكل مشهد من المشاهد العرض، ساعدته في هذا التألق الممثله المبدعه بأحساسها الرائع و المعبر، التى أمتلأت الخشبه بالحياة و الجمال و الأناقه في الأداء،  الروعه و الأنسيابيه في الحركه و الايحاء، المبدعه (اسراء رفعت)، فمثلت ثنائيه متوافقه مع الشخصيه الأخرى و ملئت الفضاء المسرحى بالأحساس العالى و البراءه و الجمال و الأصاله الحاكيه للمرأة التي تتنفس العشق و الحياة، فقد أستهالت و بجداره جائزة أفضل ممثله التي حصلت عليها.