دراسات أدبية

فدوى طوقان شاعرة فلسطين الأولى

فدوى طوقان شاعرة فلسطين الأولى

552 مشاهدة

فدوى طوقان شاعرة فلسطين الأولى

#شعراء المعتقل

#بقلم الدكتور _رياض _نعسان _آغا

حين قرأت نبأ وفاة "فدوى طوقان" تدفقت في ذاكرتي قصيدتها الشهيرة  (على أبواب يافا يا أحبائي ، وفي فوضى حطام الدور بين الردم والشوك، وقفت وقلت للعينين : قفا نبك،على أطلال من رحلوا وفاتوها، تنادي من بناها الدار، وتنعي من بناها الدار، وأنَّ القلب منسحقاً، وقال القلب ما فعلت بك الأيام يادارُ ؟

وأين القاطنون هنا ؟

وهل جاءتك بعد النأي هل جاءتك أخبارُ ؟ )

إلى آخر تلك القصيدة التي تقطر رقة وعذوبة وهي تصوغ مشاعر الأسى على جرح ما زال ينزف في الوجدان العربي، ولا أدري متى أو كيف حفظت هذه القصيدة، فقد كانت المقاومة وما يكتب عنها بقية الأمل المضيء في عتمة ما بعد النكسة، ولم أكن أعرف الكثير عن "فدوى طوقان" يومذاك، لكنني كنت أتشوق إلى لقائها لأنها شاعرة فلسطين الأولى، ولأنها شقيقة "إبراهيم طوقان" ، الشاعر الذي نحت صورة الفدائي في قلب كل عربي، وكانت قصيدته درس (استظهار) يحفظه كل طالب، وموضوع دروس النحو والإملاء والتعبير، فلا يكاد يمر أستاذ على صف يدرسه العربية في جيلنا، إلا وقال لطلابه أعرب ما يلي ( عبس الخطب فابتسم، وطغى الهول فاقتحم، رابط الجأش والنهى، ثابت القلب والقدم، نفسه طوع همة، وجمت دونها الهمم، إلخ ) ولم يكن هدف الأساتذة أن نعرب الشكل وحده، فقد كان الهدف العميق تأمل الفاعل وغرسه في  الوجدان، وهو الفدائي العظيم، الذي صار اسمه بعد مائة عام من النضال الوطني المخلص (إرهابياً) لمجرد أنه يريد تحرير أرضه من الاحتلال، وقد نمت معرفتي "لإبراهيم طوقان" فضلاً عن قراءتي لشعره، عبر الأحاديث الندية التي كان يرويها عنه بشاعرية عذبة، صديقه الحميم الشاعر السوري الطبيب "وجيه البارودي"، وقد درسا معاً مطلع القرن العشرين في الجامعة الأميركية في بيروت، وكان الطبيب الشاعر البارودي ينشدنا ما لم ينشر من شعر "طوقان" وما يصعب نشره، ويحكي لنا الطرائف عنه، وقد عرفت أن "إبراهيم" أسهم في إنضاج تجربة أخته فدوى عبر الرسائل التي كان يكتبها لها، وكان يؤكد على أهمية الوزن والقافية، وعلى أركان القصيدة، التي سرعان ما تجاوزتها فدوى، لتطلق قصائدها مع ما سمي بشعر التفعيلة، وأقول بصراحة إن المرحلة الرومانسية من شعر "فدوى طوقان" لم تكن تثيرني، فلعلي شغلت عنها بعد نكسة يونيو بمتابعة ما كان يتحفنا به الشاعر الفلسطيني الكبير "يوسف الخطيب" حين عرّفنا على من سماهم شعراء المنفى وشعراء المعتقل، في متابعته النقدية الهامة لشعراء فلسطينيين شباب من عرب 48الذين أقفل عليهم باب المعتقل، ولم نكن نعرف عن أدبهم شيئاً قبل دراسته العميقة ( ديوان الوطن المحتل ) و كان زميلنا الإعلامي الراحل منير الأحمد ( وهو ابن الشاعر السوري الكبير بدوي الجبل ) ينشد كل صباح في برنامجه اليومي (مرحباً يا صباح ) مختارات من شعر المعتق ( الأرض المحتلة ) وكنت أسمع تلك القصائد العذبة عبر الإذاعة السورية، وأفتتح بها مثل ملايين المستمعين صباحات وجد دفين، يحن إلى فلسطين، ويعشق تلك التي خاطبها "محمود درويش" ( فلسطينية العينين والوشم ، فلسطينية الاسم ، فلسطينية الأحلام والهم ) وكان "محمود" ما يزال في مطلع تجربته الشعرية، ولكنه كان يبشر بموهبة شعرية فذة، وقد سمعنا في تلك الآونة من أواخر الستينيات شعر "سالم جبران" و "سميح القاسم"، و "توفيق زياد" الذي هزم النكسة في أعماقنا حين قال ( إنها للخلف كانت خطوة من أجل عشر للأمام ) وأذكر أني حين التقيته في القاهرة بعد سنين، قلت له لقد خطونا في حرب أكتوبر الخطوات العشر التي بشرت بها، ولكننا انكفأنا بالخذلان .

شعراء فلسطين في المنفى

لم يكن شعر المنفى كما سماه "يوسف الخطيب" ، أقل شأناً من شعر المعتقل، وقد أتيح لي أن أعرف عن قرب صناجة فلسطين (حسن البحيري) رحمه الله، وكان في أواخر أيامه يعمل مدققاً للغة العربية في هيئة الإذاعة والتلفزيون السورية، وكنت يومها أحد المسئولين في الهيئة، وأذكر غيرته على اللغة، و حزنه الشديد حين يقع خطأ نحوي على ألسنة المذيعين والمذيعات، وكنت أشاركه هذا الحرص على لغتنا العربية، لأنها الوطن الأم الذي إن فقدناه فقدنا انتماءنا إلى العروبة، وكان "البحيري" مغرماً بالجرس الشعري، وحسب القارئ أن يسمع الجرس التقليدي في قوله (صبراً فلسطين الجريحة في الأسى، ولو أنه بلهيبه ملحاح ُ، مامرّ بالدنيا على أهوالها، خطب كخطبك فادح رزّاح) وكان الشاعر الفلسطيني الكبير الآخر الذي التقيت به مرة واحدة ، هو من يسمى (زيتونة فلسطين) أقصد "عبد الكريم الكرمي" رحمه الله ، الشهير "بأبي سلمى" ، الذي هاجم الحكام العرب الذين كان همهم إجهاض انتفاضة عام 1936 فكتب قصيدته التي ذاعت على كل لسان ( انشر على لهب القصيدِ ، شكوى العبيد إلى العبيدِ ، شكوى يرددها الزمان ، غداً إلى الأبد الأبيدِ ) وحين أذكر "أبا سلمى" أذكر حادثة مؤسفة، هي أنني سعيت إلى إجراء لقاء تليفزيوني معه ، حين سمعت أنه مريض، وكنت أعلم أنه لا يوجد في الأرشيف التليفزيوني أي لقاء معه، وخشيت أن يرحل فلا تبقى له صورة أو حوار متلفز، وقد رحب بدعوتي، وأجريت الحوار معه شاملاً لمسيرة الشعر الفلسطيني من وجهة نظره، وقد تم بث الحديث، واحتفظنا بالشريط في المكتبة، وحين توفي بعد شهور، طلبت إعادة بث الحلقة تكريماً له، وأدرجناها في البرنامج العام، ولكنني حرصت على التأكد من سلامة الشريط قبيل العرض، وحين بدأت باستعراضه فوجئت بأن الشريط مسجل عليه حفل لراقصة شهيرة رغم وجود اسم "أبي سلمى" على غلافه، وقد اعترف أحد المخرجين بأنه محا الشريط ،لأنه لا يعرف من "أبو سلمى"، ولم يخطر له أن أحداً سيسأل عن هذا الشريط، وهكذا ضاع أرشيف صورة وصوت لشاعر من كبار شعرائنا بجهل جاهل، وكان "أبو سلمى" من شعراء الصف الأول بين كبار الشعراء الفلسطينيين، وكان في الصف ذاته شاعر رحل شاباً وهو من تلامذة "طوقان"، وما ندري ما ذا كان يمكن أن يقدم للشعر العربي لو أنه عاش طويلاً، وهو "عبد الرحيم محمود" الذي مزج القول بالعمل، فهو صاحب القصيدة التي صارت مبدأً ونهجاً للنضال الفلسطيني على مر العقود ( سأحمل روحي على  راحتي ، وألقي بها في مهاوي الردى ، فإما حياة تسر الصديق ، وإما ممات يغيظ العدا ) وقد حمل "عبد الرحيم" روحه على راحته، وألقى بها في مهاوي الردى حقاً في معركة الشجرة التي استشهد خلالها عام 1948، وحسبه مأثرة أن قصيدته تعتمل إلى اليوم في قلوب الملايين من المناضلين، وقد لحنها وغناها المطرب الكبير "صباح فخري" وأبدع في أدائها، ولابد لي من أذكر بين هذا الجيل من الكبار الشاعر الفلسطيني الغريد "يوسف الخطيب" الذي كان مديراً عاماً للإذاعة والتليفزيون في سوريا، وقد حفظت له من المرحلة الابتدائية قصيدته التي كانت مقررة في المناهج السورية ( العندليب المهاجر) وقد أسعدني الحظ بمعرفته عن قرب، وأجريت معه حوارات هامة عن أدب فلسطين.