الروائي في صورة القاتل
ملحق الثورة الثقافي
العدد : 724
18/1/2011
فواز حداد
ما الذي يردع الكاتب عن انتزاع الحياة من شخصيات رواياته، وهي ليست شخصيات خيالية، جاءت من العدم وتذهب إلى العدم، بل شخصيات عايشها على مدار زمن طويل، يبلغ أحياناً عدة سنوات، وتشكلت بينهما علاقة حميمة، دفعته إلى تقصي طفولتهم وشبابهم، وعالمهم الداخلي، وربما التفاصيل الدقيقة لحياتهم السرية، ومآسيهم المفجعة، وأيضاً أفراحهم وأهوائهم ومباذلهم والجوانب التافهة من عاداتهم؟!
لا أظن أن هناك رادعاً أخلاقياً واقعياً يمنعه من إنهاء حياتهم، بفظاظة كان أو بسلاسة، بسبب أو من دون سبب، مادام القتل أو ما يشبهه، يجري على الورق، من دون ضحايا على أرصفة الأزقة المظلمة، أو مستلقين على الفراش يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وإنما أموات ولا جثث، جراح ولا دماء. وطبعاً لن يصيب الكاتب أي اتهام، ولا ما يؤرق الضمير.
ومع هذا ليس غريباً تردده إزاء التحكم بمصائر أبطاله ببعض المصادفات التي لا تخلو منها الحياة، وهي مسألة تلعب فيها العلاقة اللصيقة بينهما دورها، خصوصاً حينما يزعجه الإحساس بأنه يتصرف بحياتهم، في حين يمكنه الإبقاء عليها. للأسف، الرواية أقوى من هذه النوايا والتمنيات الطيبة، عذر الكاتب أحياناً أن الفاعل هو القدر، لكن حتى القدر الجائر أحكامه قابلة للتفسير. من بوسعه تحدي أقداره المرسومة؟! هناك عذر آخر، أن أبطاله يختارون لا هو الذي يختار، وهي مصائرهم لا مصيره، أما هو فيسجلها في كتاب.
الحجة المضادة، هي أنه خالقهم وهو المخول بحياتهم ومماتهم.
هل هذا الحجة تعطيه الحق بالتحكم بهم؟ لا، ولسبب وجيه جداً أنه ليس الخالق، وفي ادعاء هذا، قدر كبير من الخداع، ولا بأس من تفنيد هذه الشائعة المقيتة. الروائي لا يخلق بقدر ما يستعير شخصياته من الواقع، وحتى عندما يضيف إليها أو ينقص منها يظل في مجال الاستعارة لا الخلق، وربما علينا إعادة النظر كثيراً في تهاويل الروائيين والمسرحيين والسينمائيين الذين يعتقدون أنهم يخلقون بينما هم يختلقون قصصاً وحكايات، لذلك ما أسهل القتل وعدم القتل، ماداموا ينفخون الحياة في شخصيات لا تتجاوز صناعة الدمى، ولا تزيد على تدريبات فاشلة؛ الكاتب لا يخلق من فراغ ولا من عدم.
ربما لو تذكرنا أن واحداً من أشهر الشخصيات الروائية وهو «راسكولنيكوف» بطل رواية «الجريمة والعقاب»، استقى دوستويفسكي قصته من جريمة حقيقية وقعت في زمانه، وهي قيام طالب بقتل مرابية عجوز، لأعدنا الاعتبار إلى عملية تحويل الشخصية الواقعية إلى شخصية روائية، وهي عملية معقدة جداً، لاسيما أن الروائي يحاذر نقلها بحذافيرها، وإنما يجري عليها من العمليات ما يجعلها تتفوق على الحقيقية، هذه هي مهمة الفن الجليلة، أن يشعر أي واحد منا أنه قد يكون راسكولنيكوف!!
من حسن الحظ أن دعوى الخلق تجري غالباً على ألسنة المبتدئين والهواة من الذين يسبغون على أعمالهم الأهمية عن حسن نية، فيمارسون لعبة الكلمات بينما الكلمات تغرر بهم، أو يتقصدون نهاية صادمة، ولا عجب الكتابة عملية مثيرة، مثلما تذهب بنا إلى الأوهام الجميلة، تجذبنا بكوابيسها المرعبة، ترى لولاها هل كنا نغامر بتحويل حياتنا إلى مطاردة شخصيات أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة؟
لكن ما حالنا مع كتاب كبار لا تنقصهم التجربة ولا الكفاءة، يزعمون أشياء وأشياء عن الخلق؟! لا نجهل أن الكاتب يحتاج إلى القليل من الغرور ليشعر أنه يفعل شيئاً متميزاً، هذا يرضيه خلال عمله، لكنه سرعان ما يصحو ويعيد مشاعره إلى نصابها، ويدرك أنه فعل شيئاً جيداً، وهذا يكفيه. المشكلة أن الغرور الزائد يشوه الروائي والرواية معاً، غير أن الكثير منه، يدمر قليلي الموهبة.
لن نناقش احتمالات القتل سواء في حتميتها أو طرافتها، للروائي أيضاً مزاجه وأخطاؤه وانحرافاته، غير أن نزاهته المحايدة تحميه، لكنه مثل غيره يحمل مقداراً من الرعونة والغضب، وربما في الكتابة نفسها محاولة للتغلب عليه، لا استئصاله.
التعليقات