دراسات أدبية

في التَّبابِ ونقضه لنبيل سليمان نحو هوية ثقافية سورية

في التَّبابِ ونقضه لنبيل سليمان نحو هوية ثقافية سورية

611 مشاهدة

في التَّبابِ ونقضه لنبيل سليمان نحو هوية ثقافية سورية

مقالي في "#ضفة ثالثة" عن كتاب "#في التباب ونقضه" لنبيل سليمان

#أنور _محمد

يفترق نبيل سليمان عن أقرانه من الروائيين السوريين والعرب في أنَّه أسَّس لمشروع (زلزلة) الوعي بالاستبداد؛ وعي يوجِّع، بحيث يقشِّر لحاء الديمقراطية الذي تتسوَّر به الدولة الأمنية العربية ذلك منذ روايته الأولى "ينداح الطوفان" 1970، حتى روايته "تاريخ العيون المطفأة" 2019. ومن ثمَّ في دراساته النقدية، ولعلَّ أكثرها حدَّة ذاك النقد الذي اشتغله مع المفكِّر الراحل بوعلي ياسين في كتابهما المشترك "الأدب والأيديولوجيا في سورية" 1974، الذي أثار جدلًا موجعًا بسبب عدم مهادنته الأدباء السوريين، والذي جاءت أحكامه قاسية كما الزلزال.

في كتابه "في التباب ونقضه"، مؤسّسة أروقة القاهرة 2020، وهو آخر ما نشره، يُصرُّ نبيل سليمان على متابعة المشي في حقل الزلزلة السوري، أو الزلزال كما يسميه، وهو الزلزال الذي بدأ في سورية عام 2011؛ ولا يزال. زلزال يعيد، أو يعتبر أنَّ (العقل) هو أساس الوجود وأساس المعرفة. ففي فصوله التي بلغت ثمانية وعشرين فصلًا: الإثنية والطائفية كصدوع هوياتية، الألوهة والديكتاتورية، الجامع المسبوك بين الساسة والديوك، المثقَّف اللاجئ، أورام الثقافة، مهرجان للخيانة والتخوين، الماسونية والإخوان المسلمون، وضحات وعتمات بين الأدب والداعشية، إخيولات بالسلاح الكيماوي، سرديات التجريب.. إلخ. تراه يكتب وهو يمشي فوق "صفيح ساخن". إلى أن يتساءل في خاتمة بحثه: (لو ناديت: لا للأسلحة.. لا للمذهبية.. لا للعسكرة، فمن يحميني من الغمز، أو اللمز، أو النكز، وربَّما التخوين، أو الخطف، أو القتل؟).

سؤال؛ أسئلة، إنْ لم ترَ أجوبتها عند الساسة فهي بالتأكيد عند علماء علم اللاهوت، أو علماء علم الكلام، فهم جميعًا أكثر مَنْ يعتدي على العقل، وعلى العلم الذي في العقل، فلا يتمُّ تجديد حياتنا المدنية؛ حياتنا الثقافية، ذلك في سعيهم الدائم والدائب على أن لا يستخدم الإنسان عقله الذي يشكِّل جوهر وجوده، ليبقى متعصِّبًا جامدًا، فيغلق باب الاجتهاد، إِنْ في الدين، أو في العِلم، ويكفِّر الفلاسفة، آخرهم، وليس آخرهم (الطيِّب تيزيني)، لأنَّه أعملَ عقلهُ في جوانب الثقافة العربية متجاوزًا المُطلق إلى التاريخي، والأحادية في العقيدة إلى التعددية، والنقل إلى النقد. وهذا ما يفعله أيضًا نبيل سليمان في هذا الكتاب الذي يرفض هلاكَ وتبابَ أمَّتنا، فنغيٍّر جهة التفكير و(الآن)، باعتبار أنَّ النقد فعلٌ عقلي ثوري، وهو مَنْ يُغيِّر جهة الثقافة، فيعبر بها من الماضي إلى المستقبل، وأنَّ الرهان كما يقول نبيل سليمان هو على المثقَّف الذي لم يرتهن، أو يرهن نفسه، لبريق مالي، أو سياسي، بل يصرف زمن اللجوء في الإبداع والنشاط  اللذين يقربان اليوم الموعود بالعودة، عودة اللاجئين السوريين إلى الوطن. على أن لا يعتبر أيَّ طرف كان، ما كان قومه، أو دينه، أنَّ ثقافته وحدها الثقافة. ويرى هنا نبيل أنَّ الرواية تكاد تكون هي التعبير السردي الأوَّل للهوية الوطنية، وكالعهد بالرواية أسرعت إلى الاستجابة لمتغيرات الواقع، بالأحرى لزلزلته، فظهر ما ينوف على خمسين رواية خلال سبع سنوات، يتعلَّق أغلبها، وبمستويات مختلفة بالزلزال. ومن ذلك ما كانت الطائفية شاغلًا مركزيًا له، أو شاغلًا ثانويًا، وكان النصيب الراجح للعلويين واليهود.

رواية تفكِّر، أو إنَّنا لا نريدها أن تُفكِّر تفكيرًا ماضويًا لاهوتيًا، وهو ما يتتبَّعه نبيل سليمان، خاصَّةً تلك الروايات ذات النكهة الطائفية، وإن كانت الطائفية في سورية، وبتشبيه عزمي بشارة؛ ذلك الفيل الأبيض المنتصب في غرفة المجال العمومي الذي يتظاهر الجميع بأنَّه لا يراه. فيذكر سليمان روايات منها "السوريون الأعداء" لفواز حداد، التي كانت حول أحداث حماة عام 1982، حيث ترطن الطائفية في الرواية، ورواية "عين الشرق" لإبراهيم الجبين، التي يغلب فيها شيطنة العلوي، وبخاصة عبر شخصيات الشعراء والصحافيين القادمين إلى دمشق من قراهم العلوية. كما يُشير إلى روايات "شارع الخيزران" لحسن صقر، و"مدن اليمام"، و "لعنة الكاديوم"، لابتسام التريسي، وأيضًا رواية "مديح الكراهية" لخالد خليفة، و"أبنوس" لروزا ياسين حسن، و"سلمون إيرلندي" لخليل الرز، و"الغلس" لماجد رشيد العويِّد.

في السياسة كعادته، وهو السياسي برتبة الأديب الناقد والروائي، وفي مهرجان للخيانة والتخوين ينظر إلى المُخوِنين بأنَّهم يستسهلون إصدار الأحكام المطلقة، كما العودة عنها والتبرئة منها،وهذا كما يرى نبيل يحوِّل الاختلاف إلى اقتتال مدمِّر بدل أن يكون مخصبًا، وموطوءًا بالتخوين ومأسورًا بالاصطفاف، ويتساءل: هل يكفي ذلك كي نبدأ محاولات وعي فداحة الوباء ودرئه؟ نحتاج لفهم هذا المشكل/ المرض، إِنْ الطائفي، أو التخويني، أو العزلوي، أو الاجتثاثي، إلى عقل جدلي يؤصِّل ويُجذِّر لهوية ثقافية سورية، باعتبارها هوية موضوع "صيرورة"، فطبيعة الإنسان لاتتحقَّق إلاَّ إذا كان يعيش مع أقرانه/ شركائه في الوطن حياةً إنسانية من خلال الوحدة بين الفكر والوجود.

وكأنَّ #نبيل سليمان يصيح: لا تُفسدوا الحياة في سورية بالفرز والتقسيم الطائفي، كما أفسدتموها بالسياسة ففرَّخت الاستبداد. فالدين - أيَّ دين، هو إيمان قلبي، وإذا تحالف المُشتغل بالسياسة مع المُشتغل بالدين كما نرى "في التباب ونقضه" فسينبت، أو يتمُّ استنبات، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، وفق مصالحهما، وما يخدم مشروعهما الأبدي، وهو ما استدعى الزلزال. الدين؛ أيَّ دين في مذاهبه وطوائفه هو عبادة، أو طقوس عبادة. وكأنَّ نبيل سليمان يدعونا لنقرأ الديانات اليونانية على تعددها؛ ديانات وآلهة، وليس دينًا وإلهًا واحدًا، وذلك كونها أديان بدون لاهوت، الأمر الذي أعطى فرصة للعقل ليمارس دوره، فيثمر ويُشكِّل نشاطه الفكري؛ الفلسفي والمسرحي والشعري، العمق الحضاري للأمَّة الأوروبية والإنسانية، ويرى أنَّ السوريين في الزلزال على اختلاف إثنياتهم وعقائدهم تعايشوا بسلامٍ، كما لو أنَّهم عائلة واحدة، حين نزحَ بفعل الزلزال أغلب سكَّان الشمال السوري حلب وإدلب إلى طرطوس واللاذقية، ولم تسجَّل، أو ربَّما لم تسجَّل حادثة اقتتال طائفي- طائفي، أو عرقي- عرقي، حسبما يروي نبيل سليمان. فهو في بحثه الدائب، إِنْ في الرواية، أو النقد "السيا روائي"، مع العلمانية بصفتها ضرورة مجتمعية. وحتى الدين، أي دين لا يمكنه أن يعتدي على القلم، ولا حتى على الحريَّة العلمية في التفكير، إلاَّ إذا شَغَّلته السياسة، أو المستبد، لحسابهما، فتبدأ بخصومة وملاسنة كلامية، ثمَّ الاعتداء الجسدي، فينتشر العنف، وكل أشكال القهر والتقييد والعبودية، التي تُبقي شراكة السياسي والديني على قيد الحياة؛ شراكة السحل والذبح لتدمير المجتمع بكل مكوناته العرقية والدينية للعودة إلى الغابة.

في كثير من الروايات التي أشار إليها في كتابه "في التباب ونقضه" هُوَ، وفي رأيٍ صريح،

ضدَّ العقيدة المتطرِّفة والاحتكار والسيطرة؛ ذلك في إشارته لعدد من الروايات، لأنَّنا كسوريين نتعرَّض لحربٍ زلزالٍ لم يستثن أحدًا، فالعربي والكردي والآشوري والكلداني والشركسي والتركماني والنَّوري؛ كانوا مسيحيين، أو مسلمين، أو لادينيين، باختلاف مذاهبهم وطوائفهم، وفي هذا الزلزال، لا يجب أن نُردِّد قول (هابيل): وهل أنا مسؤولٌ عن الحفاظ على أخي؟ نعم، كلُّنا مسؤولون عن الحفاظ على الوحدة الوطنية السورية.

رجال الدين، هذه المهنة التي ابتدعها الساسة ليحموا ويُطيلوا أعمارهم في السلطة، ما كانوا، ولم يكونوا، في أيِّ دينٍ، خزَّان سحر الناس ووجدانهم وشفعائهم. فالمذنب، أو المُخطئ، يتحمَّل عاقبة ذنبه، ولا حاجة لكبش الفداء، لأنَّنا، في هذه الحالة، سنصير جميعًا، كُنَّا من اليمين أو اليسار، أو من فوق أو من تحت، أكباشَ وقرابين فداء. نبيل سليمان في كتابه هذا "في التَّباب ونقضه" ضدَّ إخضاع الإنسان وإذلاله. هو مع إبادة الوحوش ذات المخالب التي تختار فرائسها، كانت فيلًا على ضخامته، أو أرنبًا على صغره، لأنَّهما بلا مخالب، أو أنياب، سواءً كانت الذريعة دينية، أو سياسية، فالنقد هو فعل تعميم الجمال، وسبيلًا معرفيًا حتى لا نقعَ في التباب؛ فنهلك، ونمَّحي كما مُحيت أُمَمٌ ولم تمَّحِ.

*ناقد مسرحي سوري.

• عنوان الكتاب: في التباب ونقضه

• المؤلف: نبيل سليمان