أخبار أدبية

قصة حب وثنية لسعد هدابي

قصة حب وثنية لسعد هدابي

736 مشاهدة

قصة حب وثنية لسعد هدابي

#متابعة مجلة المشهد المسرحي

كتابة  الدكتور #عزيز جبر

 

#سعد هدابي .. كاتب ثر متنوع .. ومترامي الحضور عربيا وعراقيا .. ما ان تقترب من ساحته  حتى يشعرك بالرهبة لعمق شاعريته وحلاوة ومطواعية مفرداته فهو المختزل والباحث المعرفي .. ويحاول جاهدا ان يضع معادلا موضوعيا يهز مدركات القارئ بشاعرية مثقلة بهموم شخصياته التي يطاردها في المضمر من حياتنا ويرسمها بلغة قوية معبرة تمتاز بالاقتضاب بعيدا عن الاسهاب ويجبره ان يغني معه سيمفونية الحزن الشفيف وكثيرا ما يقف على الحياد على الرغم من كونه  جزء من انسان هذا العصر المنشطر .. المقهور .. الموجع اينما يكون .. فهو يرى فيه  المادة الخصبة لإنبات الافكار لذلك ترى ان كل شخصياته تعاني الاغتراب .. انهم في العادة منسيون ومهمشون ويعيشون خلف الحجب ... وكثيرا ما يسعى ليجدهم على قارعة الطريق فيحاورهم .. واحيانا يفتش عنهم في الشوارع الخلفية .. في الجانب المعتم من فرضية اسمها الحياة فيطلق العنان لهم ليتنفسوا من خلال مساحات النص لان الواقع لم يكتبهم بصدق .. لذلك يحرص بان يكون المتن الحكائي لقصصهم مفهوما وواضحا وضاجا لكنه بعيدا عن المباشرة .

ففي اصداره الجديد  (قصة حب وثنية )تحديدا وبعض المسرحيات في هذا الكتاب الذي يحتاج الى إسهاب كثير لمعرفة ما وراء أفكارها وما يفكر بها كاتبنا المبدع "سعد هدابي".

لنبحث في سعد هدابي المؤلف ؟

من يكون هذا الاسمر المسحون والمطحون بسمرته وقامته الطويلة في ملح الجنوب ؟

 كيف ندخل الى أغوار ماهيته ؟

 بماذا يفكر ؟

 كيف يرسم شخصيات أعماله ؟

 وكيف يُنطقُها ليرسم من خلالها أجمل الصور الشعرية؟

 كم من المشاعر يسقطها ذاتيا على شخصيات نصوصه ؟

نتلمس كل ذلك من تغريداته في عوالم غير الكتابة للمسرح .. نجده هنا يتحدث عن نفسه ولربما نحن نشخص ونقول أجمل ما قال على لسان احدى شخصياته, فهو القائل :(( ارفض السكون ربما ... هكذا خلقت او ربما .. حاولت سعيا ان اكون فأنا مُذ ابصرت اول غراب ينشد الموت لملحمة  الخليقة صرت أجيد حتما لعبة الجنون وادركت الحقيقة حملت في ذخيرتي مزامير دَاوُدَ اجزلت للنائحين الهبات واسرار الخلود )) من هذا المقطع نعرف أن الرجل يبحث عن سر من أسرار هذا الكون الحقيقة التي يبتغيها كل واع في هذه الدنيا. اذا "سعد هدابي" المختزل .. والمصور بالكلمات تاريخ يجري بسرعة يباغتك انه متجدد يسموا بك بحوارات شاعرية مثقلة بهموم واقع مر تعيشه شخصياته. فهو يردد في بعض هذيانه الواعي سبب رفضه لهذا السكون  (( من هنا يا سادتي .. تمخضت حكايتي فانا المطارد مُذ علمني الرب بهاء الكلمة مُذ نفخ في جسدي اول تقويم للحب ادركت تعاليم الرب انشدت للعابرين على ارصفة القهر اغنية الجنون مذ ادركت اني ذات ثأر ارفض السكون ))

ما هذا الهم الذي يحتويه ليكتب عنه ويناجيه ويحاول جهده أن يضع معادل موضوعي يهز مدركات القارئ لينجذب اليه ويحاكيه .. كتابات "سعد هدابي" المسرحية اكثر ما ترتبط بالوطن بالذي فيه والذي يحدث وما قد يحدث فيه .ويكتب (سعد) نصوصه بلغة قوية معبرة رغم ما فيها من اقتضاب, اقتضاب يتطلبه الحدث المسرحي الذي لا يحتاج الي اسهاب في الوصف فهو يذهب مباشرة لما يريد قوله او ما يريدنا ان نعرفه نحن القراء. لغة موحية محملة بالعديد من الايحاءات التي تحيلك الى احداث وقعت او هي تقع الان.احداث من التاريخ العراقي القديم والحديث ,وحتى من التاريخ العربي. احداث لها وقعها في الذاكرة ويكتب أحيانا نصوص ذات المنحى التراجيدي بتفوق وامتياز مثله مثل عدد من كتاب العراق من الجيل الجديد في الحركة المسرحية العراقية التي تعرفنا على هويتها الفكرية من زملائه ومنهم على سبيل المثال ( الكاتب علي عبد النبي ). ولان "سعد هدابي" أبن الصنعة كونه ممثلا ومخرجا لا يقل أبداعا عن التأليف لمعرفته أسرار الخشبة وعوالم الاخراج، نجد مواضيعه التي باتت تنهش في المتلقي لان يحاكيه بل ويجبره لان يغني معه سيمفونية الحزن الشفيف الذي سرعان ما يتحول عنده إلى نظرة فيها كم من التفاؤل بل كم من الفرح الذي سيأتي يومآ ما .. إنها ليست مسرحية صراع صاعد أو صراع الأضداد كما يسمونه بل هي انشودة محبة متأصله بفاعلية الإنسان وقدره ومصيره وتواصله مع الحياة بفهم عميق يغرس في داخلك التحدي و(الكثارسس) التطهير وأحيانا الغضب ...الغضب بمعناه ان لا سكونية مع الحياة ..لا سكوت عن المهاترات  والعنجهية التي يمارسها الطغاة لا لشيء سوى اننا خلقنا أحرار وخلقنا الله اخيار نعشق كل ما هو إنساني واذا كان تاريخنا يمده بما هو كل سيء ... الا ان الحكاية عند "سعد" المبدع تحال الى درس وموقف فيه فائدة ولعنة أحيانا وثورة, وينتهي بها إلى تأمل يستحق الوصول اليه وهذا ما هو موجود في مسرحية ( قصة حب وثنية) التي شكل الكتاب أسما لها مع مجموعة باذخة من الافكار (لسبعة نصوص  مسرحية في هذا الكتاب )

أن المضامين التي حملها هذا الكتاب من نصوص تستحق الوقوف عليها ومناقشتها وتحليلها لأنها تحيل القارئ أحيانا الى تفكيك النص لمعرفة الرسائل الفلسفية والانسانية التي تحملها من أبعاد ذات مضامين قيمية عظيمة .. فقصة حب وثنية .. التي تتناول حياة (صفوان )الذي يعيش مختبئا داخل قبو مع فتاة صماء بساق واحده تصنع الدمي القماشية بماكينة حياكة تدعي (ياقوت ) وفي حوار جدلي عبثي يقص لها صفوان قصته العبثية والتي أوردها الكاتب كقصة آدم علي الأرض فتراه يذكر في حواره انه قريب الشبه للقرود وكيف ان إختلافه عن هذه القرود كان سببا في مطاردته من هذا الرجل او الحاكم الذي يسيطر عليها وأنه ينتظر الاعتقال لكنه يسعي أولا ان يصنع عكازا لـ (ياقوت) يشبههما ويختلف عن هؤلاء المنافقين الذين باعوا انفسهم ولا يستطيعوا الرجوع في بيعتهم أو استبدال البيع لتنتهي قصة الحب الوثنية كما سماها "سعد هدابي" بالهًرب داخل وعاء كبير يشعل صفوان عود من الكبريت ويحدث إظلام بعدها لنفاجئ بصفوان او من يشبهه بعد مرور فترة زمنية كبيره يحمل ساق من القماش ويحاول تركيبها لياقوت تعويضا عن ساقها المفقودة. وأنت تقرا نصوص "سعد هدابي" تجد نفسك في عالم إخراجي فهو يخرج كل مشهد مودعا فيه ملاحظاته التي, في أحيان كثيرة تفرض على المخرج أتباعها ..لأنه كما قلنا أبن الصنعة لذلك تجد ان المخرج الذي يزعم اخراج هذه النصوص عليه أن ينتزع ذاته من قيود المؤلف لكي يضيف أبداعا أخر للنص على خشبة المسرح وهذا هو الابداع كما أرى ..ففي (قصة حب وثنية) وحسنا فعل المؤلف بتسمية الكتاب بها لعمق مأساتها وشرود أفكارها يؤكد ما ذهبنا اليه

صفوان : من يشتري قرودا ناطقة ايها السادة ... من يرغب  باقتناء قرد يتحدث فيؤنس وحشته هذا قرد مهرج  يمتهن السرد بطرافه .. وهذا قرد يحفظ اسراركم ..  وتلك قردة للاستخدام الشخصي .. وهذا قرد وليد   سيعيد اليكم ومضات من طفولتكم التي انسلت من بين  اناملكم كالرمل .. وهذا قرد على قدر كبير من  الاتزان يسرد لكم الحكايا والملاحم والاسمار فلا   ضجر بعد اليوم ولا سأم ... هلموا يا سادة .. اقتنوا  ما تشاؤون من القرود

الانسان عند "سعد هدابي"  مرتبط بنزعته المثالية مذ نشأت الاسطورة ... وكثيرا ماكان هذا الانسان يصنع طواغيت الخرافة حتى ادرك ازمنة الرسالات السماوية فأفاق من فوضوية عقله المشوش وصار ينتمي ... وهذا ماحدث في مسرحية ( قصة حب وثنية ) .. التي صورت الواقع عبارة عن آلهة وقرابين ... وعندما يعترض البطل ( صفوان ) وزوجته ( ياقوت ) على نمط هذه العلاقة يتحولان الى مجرد ( دمى ) .. وهم يرون الواقع وهو ينتج كل يوم إلها من ورق .. يتعبد عند محرابه المنافقون وذوي الافكار السوداء زورا وبهتانا .

صفوان : لذا ينبغي ان نؤجل كل شيء ياقوت ... الحب  والاولاد .. والاحلام حتى نغادر جحيم هذا  المكان, هناك سنلد ابناء الله وبأحسن تقويم ..  اولاد تسجد لهم الملائكة .. وتعرج بهم الفطرة  الى ملكوت الحب والانعتاق ... كل شيء يجب  ان يؤجل و يدفن في مقبرة الحظر الا فكرة  الهروب والانعتاق .. ينبغي ان تكون منهج  تفكير ومشروعية بقاء

ودائما ما تجد  "سعد هدابي" يقف على الحياد تماما, وهو يصطاد هذه الاملاءات ليقول كلمته .. هو جزء من هذا الانسان المنشطر وغير المتوافق.. .

ولو اخذنا مسرحية ( أرواح جائحة ) ستجد ان البطلين قد عصفت بهما متغيرات الواقع وأكل من جرفهم حتى صاروا لا يعرفون بعضهم .. انهم اخوة ولكن حبر على ورق .. لان من انجبهم هو الواقع وليس رحم الام التي ما عادت تشكل رابطا انسانيا في علاقتهما ... فهما بلا جذر .. باعدت بينهما الظروف ثم جمعتهما في ظل ( جائحة كورونا ) .. والحجر الاجباري

وديع : الان أدركتَ الآن جسامة الاقامات الجبرية كأجراء  إقصائي تجاه الخصوم .. الان أدركت صبر النساء  وهن يقرْن في بيوتهن من دون تذمّر ... الان أدركتَ  لماذا كان استهداف الحريّة من أولويات القوانين  الوضعيّة عقوبة للبشر ؟ الان أدركتَ إنَّ نعمة  الحريّة هي بلا أدنى شك أهمُّ وأشهى رغيفٍ في  مائدة الرَّب .

حشد من الانفعالات النفسية .. الكتابة لدى "سعد هدابي" ليست انتماء من اجل تسويق فكرة ما .. بل احتجاج .. ... وهو من هؤلاء الذين يعتقدون ان الولادة ينبغي ان تكون في كل مرة قيصرية ... انها ولادة من الخاصرة لما فيها من جنوح خارج نطاق المألوف والمكرور والمستهجن ... لذلك نجد ايضا الرمز لديه, يشكل المساحة الاوسع في معظم كتاباته, احيانا تتحول شخصياته الى رموز او افكار ... لاسيما في النصوص التي تتناول الازمات السياسية وطالما ان الرمز ًيدخر من الايحاءات ما يجعله ملغما ومستوفيا الى اشتراطات ما هو مرسل تجده يعتمده كثيرا لأنه يسهم في عملية انتاج الافكار ويجعل من المتلقي مساهما في التأليف وقراءة الخطاب باختلافه تبعا لشريحة المتلقين ونظرتهم التأويلية ... فنجد في مسرحية ( النباشة ) يورق هذا الرمز في ما كان راسبا في قاع البطلة ( رملة ) وهي تحلم بزوجها ان يعود من الحرب التي لا تنتهي في رأسها هي ... مع ابنتها ... وتحلم في اللحظة التي تعانق فيها زوجها ...

 أمينة : يا ألهي ...ألا تنتهي الحروب برأسك يا اُمي ؟!!

 رملة : إنً لك فيها أباً باســلاً لا ينام على ضيم .. لنْ أنســى ما حييت آخر مرة غادرنا فيها.. ياااه لكم كان مهيباً باللون الكاكي .. ومرحاً .. كان يقف عند الباب كالطود ..ومع كل قطرة مرح شفيف كان يبتسم وكأنّ الحرب في خاطره مجرّد نزهة .. ما أروعه رجل لا يهاب الموت.

وفي مكان أخر تريد الشخصية ان تعيش الحرية بلا قيود فنرى : ( تتحدث يمامة بانفعال )

 يمامة : اُريد أنْ أنجو بنفسي يا اُمي .. اُريد أنْ أفرد جناحيَّ وأطير بعيداً مثل أية يمامة تبني عشّـها عند سفوح خميلة ناعمة في الأقاصي ..لا لشيء الا ليولد صغارها بلا خُوذ .. ولا رائحة بارود تُزكم العقول .. ولا بئراً تمور بالذباب .

وهكذا نجد أن شخوص مسرحيات الفنان "سعد هدابي" تحمل بذرة موتها وانعتاقها في أن واحد . كل شيء متاح امام الكاتب لخلق خطاب نصي مفعم بالعافية .. وملغم بالتأثير ..