أخبار أدبية

كتب الدكتور جبار خماط حسن المقهى العتيق

كتب الدكتور جبار خماط حسن المقهى العتيق

522 مشاهدة

كتب الدكتور جبار خماط حسن المقهى العتيق

#الدكتور _جبار _خماط _حسن

#مدينتي

#المقهى_العتيق

#المظاهرة

 

1979# كنت حينها في الثانية عشرة من عمري، يصطحبني ابي معه ليلا، إلى مقهي قديم في ركن دربونتنا، يلتقي فيه الطلبة والموظفين والشغيلة من عمال البناء، يقضون ليلتهم يلعبون الدومنه، تسمع ضربات الصايات، على الطاولة الخشبية، المغطاة بفورميكا بلونين بني ورصاصي، لا شغل لي سوى النظر إليهم كيف يحدقون ببعضهم مثل الديكة بانتظار من يبدأ اللعب، صياح وتندر ينتهي بفوز أحد الطرفين، وتوزيع الحلوى التي هي رهان اللعبة، ما زال طعمها اللذيذ يراود ذاكرتي، تلك الحلوى ( الجكليته) ذات الخطين الأبيض والككوي، مستطيلة الشكل كبيرة نوعا ما، تقطعها بإسنانك إلى قطعتين، ثم تلتهم طعمها الحلو، وسط ضحكات ابي وأصحابه، وحين يكون الراتب في الجيب، يكون اللعب على تكة ومعلاك السيد، الذي يبعد عن المقهى، مائتي مترا، يوميا كنت أتجول بين الساعات، دراسة عند الصباح، انتظار ابي وعودته من الدوام عند الساعة الثالثة وخمس وأربعين دقيقة، بعدها ، يأتي المساء وجلسة الاخوة والأصحاب في مقهى ابي عباس او حسن المعروف بطيبته ووجهه المدور، بشرة بيضاء مع تجاعيد لم تأخذ كثيرا من وجهه الاحمر، غترته، أتذكرها يلفها على رأسه بطريقة غير مرتبه، بيته على الشارع، اقتطع نصف منه، لتكون مقهى بقنفات بيضاء خشبية، أراها عند الصباح وقد تحولت إلى مخلوق عجيب، بعد أن يغلقها عند منتصف الليل، يبدأ هو ومن يعمل معه، بنقل القنفات وترتيبها عموديا، وحصران القصب عليها، كعادتي يوميا بعد عودتي من المدرسة، اذهب الى ركن شارعنا ؛ الذي يبعد عن بيتنا خمسين مترا، بيت العائلة الأكبر، جدي وجدتي واعمامي، في هذا البيت، كل ابن له غرفة، كنت الأكبر بين إخوتي، لم يأتي إلى الدنيا سواي واخي الذي يصغرني بأربع سنين، وأختي الكبرى الذي لم يمهلها المرض طويلا، ماتت صبية، في عينيها أحلام أن تكون أمرأه تساعد أمي في أمور البيت، اجلس بانتظار ابي ؛ أتأمل الشارع، الذي ينتهي بالسدة، ويحاذيه مجرى كبير لمياه الأمطار يرتبط بسدة المياه العملاقة، التي تبدأ من جسر ديالى وتنتهي بالتاجي، تلتف حول بغداد مثل ام حنون، تخاف عليها من الغرق والفيضانات. مشهد رتيب يومي، اجلس بانتظار ابي، ثم يأتي الليل ومقهاه الحزين. !

اليوم كان مختلفا، ليس كمثل الايام كنت جالسا على حصيرة القصب، وقنفة مقهى ابو عباس، وإذا بحشد من الناس يأتي من جهة السدة، يهتفون باسم حزب البعث، لكن سرعان ما تغيرت هتافاتهم التي تدعو ضد حكم البعث، هتافاتهم عالية، رجال ونساء محتشمات بعباءات سوداء، شباب وفتيات يهتفون، لا يحملون أسلحة، فقط اصواتهم وهتافات لا أتذكر محتواها، الغريب انها أصبحت قبالة مقهى ابي عباس، وإذا بوابل من الرصاص، ينهال على المتظاهرين، من لجنة الصمود التي كانت مكان الحزب، لا تبتعد أكثر من مئتي مترا بالاتجاه الآخر، كانت بنايتهم بيضاء عليها شعارات حزبية، رصاص حي على رؤوس وصدورالمتظاهرين، كنت في ركن دربونتنا، بيتنا ليس ببعيد، تراجعت وانا أرى المواجهات والعراك بالأيدي والهراوات، والنساء يصرخن، انتهى باعتقال جميع المتظاهرين، عدت إلى البيت، ماذا يحصل ؟

 من هؤلاء؟

ما هذه الشعارات الدينية؟

 سمعنا بعد يومين انها انطلقت من جامع المبرقع، رجال الأمن اعتقل كثير من شباب وفتيات قطاعنا، وباقي قطعات مدينة الثورة آنذاك، كنت أراهم مدججين بالأسلحة، مع خوذ وافية على الرأس، يدخلون مجاميع، ينتشرون وسط خوف ورعب الأهالي، انتهت هذه المشاهد في مدن مختلفة من العراق على اعتقال أكثر من 80 ألف على الأقل من صفوف حزب الدعوة الذي خرج بتظاهرات تدعو الى إسقاط حزب البعث، عندها لم نعد نذهب إلى المقهى ؛ تغير مزاج الناس، الخوف من القادم أصبح هاجسا يوميا. كنت أرى والدي لا يتكلم كثيرا، يذهب إلى عمله في معمل الجكاير، لا يكلم أحد، لا يخرج، فقط حكايات يتبادلها الأهل على مائدة الطعام، بهمسون بحذر اخبار بيت فلان كيف اعتقلوهم، وكيف أعدم فلان من دون محاكمة، وكيف قتلوا فلانة، كبرت ومازال مشهد المظاهرات وتلك السيدة التي اخرجت من تحت عباءتها طبرا تلوح به أمام رجل الأمن وهو يواجهها بسلاحه !

 لا اتكلم كثيرا، كثير الصمت حين كنت صبيا، لكني أشهد أن راسي لا يمل من التفكر الذي دفعني إلى المطالعة في وقت مبكر ساسرد قصتي معها في منشور لاحق.