أخبار الهيئة العربية للمسرح

كلنا نعرف  فرحان بلبل   فتعالوا نعرفه أكثر

كلنا نعرف فرحان بلبل فتعالوا نعرفه أكثر

1054 مشاهدة

كلنا نعرف  فرحان بلبل   فتعالوا نعرفه أكثر

الحلقة الأولى

بمناسبة كتابته لرسالة اليوم العربي للمسرح التي سيلقيها في 10 يناير 2018، في افتتاح الدورة العاشرة من مهرجان المسرح العربي، التي تنظمها الهيئة العربية للمسرح بالتعاون مع وزارة الشؤون الثقافية بتونس، دعونا نقرأ صفحات من حياته، كما سطرها في كتابه (المسرح و حكاية العمر)، سيرة تستحق القراءة و التأمل، صفحات سننشرها تباعاً على موقعنا.(قسم الإعلام في الهيئة العربية للمسرح).

الحلقة الأولى

(فرحان.. نائب في البرلمان)

عندما تخرجت من الجامعة عام 1960، كان المسرح السوري قد بدأ يتحرك منذ أيام الوحدة بين سورية ومصر بعد حالة الركود والتوقف التي أصابته بعد الاستقلال. وكان هذا التحرك نتيجةً لمخاضٍ فكري وسياسي واقتصادي بدأ يهزُّ سورية منذ بداية خمسينات القرن العشرين. وهذا المخاض ظهر مباشرة في نشاط أدبي مجدِّد في الشعر والقصة والرواية. وتأخر ظهوره في المسرح حتى نهاية ذلك العقد الفريد. وإذا كان التجديد الأدبي في الشعر والقصة والرواية قد أنتج نصوصاً إبداعية ماتزال حتى اليوم تحتفظ بحرارتها، فإنه تجلى في المسرح في تقديم النصوص المسرحية الأجنبية القوية دون أن تتجرَّأ الأقلام السورية على كتابة النصوص المسرحية إلا على نطاق ضيق. وكانت النصوص التي تجرَّأ الأدباء على كتابتها لا تقف في القوة موازية لبقية الفنون الأدبية الأخرى، بل تبدو أقصر قامة منها بكثير. وسبب ذلك أن الشعر عريق عند العرب عراقة وجودهم. فهو ميدانهم الذي جال فرسانُه على حلبته وصالوا. فلما انبروا إلى التجديد فيه، كانوا ينطلقون من كنـز يختزنونه في ذاكرتهم. وكانوا يبارون فيه المجددين القدامى. فكأن كل واحد منهم شبيهٌ بأبي نواس وبشار بن برد وأبي تمام والمتنبي. وكانوا في القصة والرواية مستندين إلى تراث عريق أيضاً من فن القص في الحكايات والأساطير والملاحم الشعبية التي كانت واحداً من مِهاد ولادة الرواية في العالم في القرن التاسع عشر. أما في كتابة المسرح فهم مايزالون يسيرون على حَذَر التلميذ الذي لم يأخذ عن أستاذه إلا أقلَّ الدروس فلم يتقن أصول اللعبة جيداً. فكان تقديم النصوص الأجنبية واحداً من أول الدروس.

         وهذه الحركة القوية النشيطة في الأدب وفي المسرح كانت دمشق تغلي بها. وكانت الجامعة نفسها أحد مراكزها. لكني لم أكن أعرف عنها شيئاً. ولم أتابعها وهي تحت عيني وأذني في أبهاء الجامعة وكان بعض زملائي من الفاعلين فيها. وأذكر منهم صابر فلحوط ووليد قنباز ورضوان الداية وعيسى فتوح. وكم سمعت صابر فلحوط ينشد الشعر قبل بدء الدروس متغزلاً مرة وواصفاً مرة ومتغنياً بالوطن في كثير من المرات. وكم كان زملاء الدراسة – ولم يكن عددنا يزيد عن خمسة عشر طالباً – يطلبون منه أن يروي لهم أشعاره. فكانت عيناه تبرقان دائماً وهو ينشد الشعر بصوته القوي العميق. وكم كان رضوان الداية يروي لي أشعاره الجزلة بصوت خفيض. أما وليد قنباز فكان يروي شعره على استحياء، أو يختار بصوت جهير من نوادر الشعر العربي وطرائفه ما نعرفه وما لا نعرفه إن وُجِد في القاعة فتيات. وكان يروي شعراً ماجناً إن اقتصر الموجودون على الذكور. فإذا ولج إلى ميدان هذا الشعر كانت ضحكات الزملاء تجلجل بلذة سرعان ما يقطعها دخول الأساتذة. وكان بعض هؤلاء الأساتذة يعرف أننا كنا نتناشد الأشعار فيبتسم ابتسامة خفية وقوراً كما كان يفعل شكري فيصل. وكان بعضهم يعبس عبوساً نجده ألطف من الابتسام كما كان يفعل سعيد الأفغاني. وكان بعضهم يندهش ببراءة كما كان ذلك يرتسم على وجه عمر فروخ.

         أقول إن كل هذا النشاط الفوار في دمشق والجامعة كنتُ غافلاً عنه لأني كنت مشغولاً بتدبير مصروف الجامعة. فعندما خرجت من حمص في نهاية عام 1956 للالتحاق بالجامعة، كانت (ثروتي) مائتي ليرة وفراشاً ولحافاً وقطرميز زيتون وطاولة قديمة ورثتها عن والدي. وكان علي أن أشتغل وأدرس. فعملت مدرساً خصوصياً وأجيراً في بقالية لنقل المشتريات إلى أصحابها وعاملاً في الشركة الخماسية.

 

وعملي في (الشركة الخماسية) – وكانت من أهم معامل النسيج في سورية – وضع يدي بشكل عملي على طريقة العمل في ظل النظام الرأسمالي الذي يحرص على أرباحه كما يحرص على هيكله السياسي بقوة واقتدار.  فبمجرد الانتهاء من تقديم امتحانات السنة الجامعية الأولى تقدمت إلى (الخماسية) من بين حوالي خمسين عاملاً مؤقتاً.

صفونا في الباحة. ثم جاء المسؤول عن العمال كأنه ملك. أخذ يسأل كل واحد من المتقدمين للعمل عن حاله ووضعه العام. ولما وقف أمامي تأملني طويلاً بعينين كأنهما عيون صقر قبل أن يسألني عن أحوالي. ثم وزع الجميع على أقسام  المعمل وتركني وحدي في الباحة. غاب نصف ساعة وأنا حائر في سبب غيابه وخائف من عدم قبولي في العمل. ثم عاد وقال لي بلهجة آمرة: “تعال”. سرت وراءه وهو يوجه أوامره وتعليماته التي يسارع الجميع إلى تنفيذها دون تلكؤ. أدخلني إلى صالة النسيج وفيها مئات الأنوال. الصالة نظيفة كأنها صالون استقبال. وكل عامل يقف وراء نوله يعمل بصمت ونشاط. أوقفني عند عامل قصير القامة وذي بنية قوية وقال لي: “تعلم منه الصنعة”. ثم دخل غرفته التي في نهاية الصالة والتي يظل بابها مفتوحاً لأنه يرى منها حركة العمل. وقفتُ قرب العامل وإذا بي تحت أنظار رئيس العمال هذا تماماً وهو جالس وراء طاولته.

هذا المشرف على العمال كان قاسياً مع العمال كأنه جلاد. والعامل الذي يتهاون في عمله كان ينقضُّ عليه حتى يكاد يمزقه. فهو حريص على استمرار الإنتاج بأعلى طاقة طوال الساعات الثمان حتى آخر دقيقة. وكان في الوقت نفسه رحيماً بالعمال كأنه أب. فهو يعرف الحالة العائلية لكل واحد من مئات العمال. ويعرف السلوك العام لهم جميعاً. فالمريض يرعاه ويسأل عنه حتى يشفى. أما المتمارض فيا ويله منه. وهو يعرف مشاكل العمال العائلية كما يعرف أخلاقهم وسلوكهم.

العامل المكلف بتعليمي الصنعة لم يكلمني أبداً طوال أسبوع. وكنت أطلب منه أن يعلمني فلا يلتفت إلي ولا يرفُّ له جفن. وعلمت فيما بعد أن رئيس العمال طلب منه ذلك. ولعله كان يمتحن صبري وأنا أقف كل يوم ثماني ساعات دون عمل ودون كلام أو حركة. وهو في غرفته يراقبني بعيونه الصقرية.

 

في نهاية الأسبوع طلب مني أن أعمل معه في المكتب في وظيفة كتابية. بعد عدة أيام قال لي إن المدير يريد أن يراك. ورؤية المدير في تلك الأيام كانت أمراً خطيراً قد يكون من ورائه التسريح أو العقوبة الشديدة. دخلت غرفة المدير فوجدته في الخمسينات من العمر. مصري الجنسية وطويل ضخم. تأملني ملياً حتى ظننت أنه سيقول لي: دُرْ أمامي. وبعد صمت طويل سألني عن اسمي وعن جامعتي ثم صرفني. بعد هذا اللقاء مع المدير بدأت مهماتي الكتابية ترتقي لأدخل في تضاعيف وتفاصيل عمل الشركة. وذاك المشرف الجبار يراقب عملي ويسدِّده بقسوة في البداية ثم بلطف وعناية.

قبل بدء العام الدراسي في الجامعة أخبرت رئيسي أنني سأترك العمل بعد أسبوع. ومباشرة غاب ثم حضر وقال لي إن المدير يريدني. دخلت غرفة المدير فطلب مني الجلوس ودعا لي بفنجان قهوة وعرض علي سيكارة فقلت له إني لا أدخن. عرض علي مباشرة أن أبقى في الشركة بعد أن أنتقل من عامل مياوم إلى عامل مثبَّت، وأن أداوم نصف دوام أثناء العام الدراسي وبدوام كامل في الصيف. لكني قلت له إن ذلك لا يناسب دراستي. فعرض علي أن لا أداوم على الإطلاق براتب كامل يزيد كل عام. وأخبرني أن الشركة سترسلني إلى مصر بعد انتهاء دراستي الجامعية في دمشق لأحصل على درجة الدكتوراة. ثم وقف بكل مهابة وقال لي: (يا بني. أنت ستكون عضو برلمان).

كنت أسمع منذ كنت في حمص أن الشركة الخماسية وأمثالها من الشركات هي التي تحكم سورية، وأن كل شركة كبيرة تدفع بعناصر مؤيدة لها إلى البرلمان. وكنت أسمع أيضاً أن فلاناً النائب الخطير وفلاناً النائب الذي صار وزيراً أكثر من مرة وذاك الذي صار سفيراً أو مديراً إنما ربتهم الشركة الخماسية وغيرها من الشركات في دمشق وحلب. وها أنا اليوم أقف عند هذه الفرصة التي لا تعوض. فبدلاً من تدبير لقمة العيش وساعات الدراسة بصعوبة، تأتيني هذه المنحة التي ستنتهي بي إلى البرلمان.

 

بقيت لحظات وأنا مذهول من هذا العرض السخي. لكن قراءتي الماركسية المبكرة كانت ترنُّ في عقلي عن أساليب رأس المال في الحكم والسيطرة. وأحسست أني إذا قبلت بما عرضه علي فسوف أكون خادماً مطيعاً لأداة النهب والاستغلال. فاعتذرت منه بلطف وخرجت من الشركة. وعملت بعدها طوال السنوات الثلاث التالية مدرِّساً في إعدادية خاصة في بلدة (الضمير) الواقعة على مشارف بادية الشام. فكنت أغيب عن الجامعة ثلاثة أيام وأحضر دروسها ثلاثة أيام.

بعد مضي سنوات كثيرة وبعد أن عرفت الحياة أكثر صرت أسترجع هذه الحادثة وأدرك لماذا استطاع النظام الرأسمالي أن يبقى وأن يصمد في وجه كل الثورات والزعازع التي تعرَّض لها في القرن العشرين. فهو يسهر على مصالحه كلها بدءاً من إنتاج المادة وانتهاء برجال الحكم والسياسة. وكنت أسترجع هذه الحادثة كلما رأيت رجلاً غبياً يحتل مقعداً في قاعة مجلس الشعب – وهو البرلمان – كما سماه حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم منذ عام 1963، والذي فتح أبوابه بعد عام 1970 تحت هذا الاسم الجديد. وكنت أسترجع هذه الحادثة أيضاً وأستعيد صورة مدير الشركة الخماسية ذاك كلما رأيت مديراً تافهاً يحتل منصباً خطيراً في مؤسسة ما لأنه ينتمي إلى الحزب الحاكم وليس لأنه ذو قدرات تؤهله لاستلام ذاك المنصب. وعندما سقط الاتحاد السوفياتي فيما بعد أدركت أنه سقط من داخله قبل أن يُسقِطه خصومه. فهو لم يخدم وجوده وسلطته كما يخدمها النظام الرأسمالي بعناية فائقة وانتقاءٍ مُحكَم لرجال المال والسياسة فيه.

 ( و هناك المزيد في حلقات قادمة)