دراسات أدبية

لينا هويان الحسن .. قصص من سقوف التاريخ

لينا هويان الحسن .. قصص من سقوف التاريخ

1930 مشاهدة

 

 "لينا  هويان الحسن" .. قصص من سقوف التاريخ

ملحق الثورة الثقافي : 672
29/12/2009
إحسان شرباتي

كالخيط الرفيع الذي ينهي ليله ليبدأ النهار.. وكالخيط الفضي  الذي ينام ملتحماً بأوراق البنوك والتي لا تأخذ قيمتها إلا به..

دخلت الأديبة " لينا هويان الحسن" حياة البدو لتصف لنا ببراعة فائقة عالمهم.‏‏

نساؤهم "سلطانات"  يرسم الجمال صرخته فوق وجوههم.. والحب معطف يغطي أجسادهم بتعابير مختلفة.. وكبرياء  يسكن المسافة بين إطباقة شفاههم واسترخائها.‏‏

من "حمرا" الموت  بدأت.. وحتى "سكرى" مروراً "بقطنه" التي وصفها الأمير "أمير رسلان" الذي رآها مرتين في  عمان قائلاً: «كانت لا تشبه أي امرأة أخرى رأيتها في حياتي. كانت أنثى مثل أنثى أي  حيوان، ثمة شيء فيها حاد وموجع مثل حد السيف».‏‏

أما الكاتب  والرحالة الأميركي "ويليام ب سيبروك" فقد وصفها قائلاً: «ولكن الذين عرفوا "قطنه"  وتحدثوا معها من بني "صخر" و"السردية" كثيرون وكثيرون هم الذي مات آباؤهم وأخواتهم  منشان عيون "قطنه" عندما التهبت فتوتها البهية، وروت الصحراء بالدماء من "تدمر" حتى  حدائق "بغداد".. كثيرون هم.. ومختلفون..‏‏

سلطاناتها جرح  كوني محاط بالجمال، وقد وصفتهم الكاتبة في أكثر من موضع.. وصفاً سوف يغطي الذاكرة  بمرايا حروفها أشواقاً عصية على النسيان..‏‏

من كلماتها .. تصف إحدى بطلاتها قالت: «جمالها زهرة شبيهة بلدغة، ووجه حسنه ينطق عالياً كهزيم  الرعد، وجود نساء أخريات حولها يشبه طنين ذبابة عابر.» ص99.‏‏

وفي موضع آخر  قالت.. للبياض درجات.. ولجمال النساء هندسات ص23.‏‏

نساء تتدلى  قصصهن من سقوف التاريخ وتبقى عالقة في منتصف الوجع دون أن تعلن الهبوط أو الطيران  من خلال توثيق يعتمد الدقة والتواريخ والصدق الفاحش دون أي قيود.‏‏

نساء دربهن في  الحياة رحيل بلا وصول.. وكل منهن امرأة خاصة استثنائية موجعة حادة وجميلة تحمل  كبرياءها وجرأتها.. لا تشبه غيرها من النساء.. لكنهن جميعاً متوحشات عاشقات.. كل  واحدة منهن مهرة برية لا تكفي كل المساحات لصهيلها.‏‏

تسكن أعماقهن  بذور التدمير كما بذور الحنان بآن معاً.. والعاصفة تتقدم منهن لتهديم آلاف  الرسائل.. لكن "سلطانات الرمل" لا يهتممن بتلك الرسائل، بل فضلن حمل الظلام وظلال  خوفه.. لتذهب كل منهن إلى قدرها.‏‏

وكالخيط الأخير  لضوء يغادر راسماً خلفه ألواناً مختلفة من السواد.. تركت الكاتبة لبطلاتها لتذهب كل  منهن إلى قدرها.. وهي تعي أن فراق الأحبة مناجاة دائمة.. وهدية أخيرة يمنحها  النسيان أو السراب لمن سربله شرك الغرور والكبرياء كي لا ينعم بيقين الحب.. وما من  نجاة.. من "البداوة" عمق بعمر لحظة مكثف وشحيح.. تلتقي بها كل الأشياء معاً.. ودفعة  واحدة..‏‏

فكما كانت   "السلطانات" كانت أرض "البدو" تجود على جمالهن برجال من حلم.. أتقن العيش فوق صلابة  الترحال.. والتماع السيوف ورمال الأكاذيب وأشواك الحب ليقطفن سعادة مسروقة حيناً .. وحيناً آخر يبتلعن براري الندم الشاسعة بصمت ودون صراخ رجال من جليد ونار.. بل  أبطال حقيقيون.. سجلت لنا الكاتبة تواريخ سكناهم وأنسابهم بدقة وصدق.. فرشت أمامنا  سجادة واقعهم بأمانة قالت تصف أحدهم: «في عز الظهيرة غزا قومها، وبلغ منزل أبيها  المرفوع على أحد عشر عاموداً كل عبيد أبيها قتلهم البيك وجندل واحداً من أشقائها  وعقيد حرب قومها وأخذ «حمرا» معه مكرساً بذلك حقيقة أن الحب كلمة مكتوبة على أسلحة  المحاربين وتيجان الملوك وعلى روائع سرديات الزمن، وعلى كل أشكال الحياة المتألقة،  يوجد للحب أثر من دم»..‏‏

وأجادت الكاتبة  في وصف شجاعتهم ونزاهة الكلمة حين تتجاذبها شفاههم بأطراف الشجار.. قالت تصف أحد  رجالها بقولها: «قاد "طراد" تمرداً غريباً من نوعه، كان يعرقل صفقات مبيع الخيول  العربية التي أصبح الأجانب مولعين باستيرادها لأسباب كثيرة، ولعبة "البولو" التي  يعشقها "الإنكليز" كانت سبباً أساسياً لتصدير الأفراس الرشيقة إلى "بومباي" في "الهند" .. رفض "طراد" خروج الخيول ذات الأصول "النجدية" الصرفة إلى" بومباي" لأنهم كانوا هناك  يضربونها بخيولهم، ورفض معاملة الخيول كما تعامل الماشية حيث اكتشف أن الأجانب  كانوا يقومون بتوسيم الخيول على أكتافها..» وأكملت.. «قتل "طراد" بيد ضابط "إنكليزي  "كانت مهمته جمع الخيول.. لم تغادر أرض البادية التي سرقت من أيام الحضر نبضها.. ومن  الليالي أجمل لحظات عنفوانها.. وتركت المسافة بين برق بدواتها ورعد حضرها عمر من  الاباء امتد حتى ناصية الأفق..».‏‏

وأتقنت قراءة  الرمل.. إذ عليه خط يوماً أكثر من مصير.. حفظت لنا تاريخهم من القرن الماضي وحتى  الحاضر عندما طالتهم يد الحضارة لتدخل عنوة إلى خيامهم المنصوبة من مثنى ومثلث وحتى  المتسع حسب حاجة كل خيمة وما يوافقها من أعمدة لتلك الخيمة أو لغيرها من مناسبات . أدخلتنا عالم الأحصنة الأصيلة بألوانها وطباعها وأعمارها، ومتى يداهمها الحس بالخطر  الذي قد يلامس صاحبها.. وكيف تدافع عنه بكل شراسة كظل شبح لمقاتل سارق حد  الاحتراف.‏‏

تكلمت عن عالم  الجوارح والطيور وأنواعها التي لا تعرف حتى مسمياتها وعن الأرض ودفء المكان.. عن  أطلال بقي "الغرب" يتابع زمناً عنوانها شغوفاً بها حتى اليوم. مرت روايتها على أماكن  مر عليها "الاستشراق" ليترك في أوراقه بعض الملاحظات منهم "ولفريد تسيفر" الذي تحدث عن  قصر من قصورهم وصحرائهم التي تمتد نحو ألف وخمسمائة ميل حتى البساتين التي تحيط " بدمشق"».‏‏

وذكرت أيضاً نص  الوثيقة التي رفعها الراحل "جمال عبد الناصر" فيما يخص "البدو" وإلغاء قانون "لعشائر"،  بعد أن أصبحوا قوة على الدول النظر بأمرها. وذكرت الكثير عما يخص "البنادق" التي  يستخدمها "البدو" وأنواعها وطريقة استعمالها وأسماءها وهي معلومات هامة، إذ أن "البدوي"  تلازمه دوماً "بندقية" أو أكثر وكأنها جزء من ماضيه أو اسمه أو حتى ما يستره من  لباس.‏‏

وقد ذكر الرحالة " وليم هو" 1816 الرجل "البدوي" بقوله: «كان متوحشاً طليقاً ذا نظرة مستقرة خاطفة وطلعة  متوفزة قلقة لذا بدا وكأنه ملك الخلائق». أما "ولفريد تسيفر" فيقول عن بداوتهم عندما  دخلتها الحضارة: «لقد خان "العرب" حلماً "إنكليزياً" جوهرياً حول ما ينبغي أن يكونوا  عليه، علمنا أن نحبهم على أنهم بشكل طولي بسطاء وفقراء، أما الآن مع شركات  استثمارهم المتعددة الجنسيات ورجال أعمالهم المسافرين على طائرات "الكونكورد" وبيوتهم  الريفية "الإنكليزية" وكاميراتهم ومعداتهم الصوتية العالية الجودة وسياراتهم الباهظة  الثمن.. فإنهم قذفوا بأوهامنا العاطفية في وجوهنا..». وطبعاً التوثيق للكاتبة.‏‏

رافقتهم الكاتبة  حتى بعد مغادرتهم الصحراء ودخولهم الحياة المدنية.. محملين بالذاكرة وبأشياء بالغة  القدم ثمينة بتاريخها.. ما يزال لها أبجدية العبارة الغامضة لصوت بداوتها الحقيقي  الخافت.‏‏

سارت معهم في  مشروعهم بالحب، ووقوعهم فيه. توقفت حيث توقفوا بحنو الشوك على جرحهم الملتمع تحت  فلاشات صورهم وكؤوس "كريستالية" لخمورهم والكثير من روائح ثيابهم التي غدت تحترف  توقيع "لابيدوس" و"كاردان" وغيرهم. وبقيت تلك الديكورات تزين جدرانهم وألبستهم، لكن  بداوتهم تسكن جوارح القلق ومنقار الضجر دون  هوادة.‏‏

الرواية ترسم  مساحات ممتدة على طول زمن ابتدأ فوق الرمال، وسكن أخيراً في إسفلت ميت لا يحمل  حرارة وتدفق آبارهم وثوراتهم ونزقهم وبداوتهم التي تضج في عروقهم بأي حال.‏‏

هي ليست تاريخاً  فقط، بل رواية تحمل بصمة قبائل تحفر أرض أحزانها وأفراحها وعشقها بمعول فولاذي  ليدفن لاحقاً آبار دموعها وانتصاراتها وتوهجها بالحب في بئر للصبر رافعة أنفها  عالياً رغم أنف القدر فهم فقط من يستحقون لقب شم الأنوف.‏‏

الرواية مفتوحة  على الجهات كلها، لا تستوطن إحداها، بل تربطنا بتلك الجهة التي تسمح لنا بالمرور،  بتفكيك حواسنا بما بعد الخمس لقراءتها.. إذ ليس بالإمكان الإمساك بالهيكل لإطار  لوحتها مجاملين قدرتنا على البقاء على حافة الرؤيا دون دهشة.‏‏

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية