محمد عزوز عندما يشتد الحنين
أوراق فدموسيه (23)
2012
لم نكن ننوي أن نفعلها في هذا اليوم الذي بدا غير ما أبطن ، ولكنه على ما يبدو قدر همتنا في النهاية ، فمنحنا دفئاً لم نكن نتوقعه .
فعندما هاتفني صديقي الأزلي أحمد في الصباح غير الباكر ، يعلنها : أن تعال فالشمس ساطعة ، وسنعثر على الدفء بيسر .
ولسعت وجهي ريح شرقية باردة اعتدناها في شتاءات القدموس ، وارتبكت لأني لم أحتط جيداً كي أحمي أذني وصفحتي خدي ، ولكن رغبة الصديق أولاً ، والرغبة في دفء موعود ، دفعاني للمتابعة .
وفي هاتف آخر حضر أحمدنا الثاني ، ووضع الأول خطة جولة أضمرها في البداية ، وقادنا للتنفيذ برغبة مماثلة ، وكيف نعترض ونحن نعرف أنه يروم بنا دفئاً نفتقده .
من مقام الشيخ السويداني كان انطلاقنا ، إلى بيوت عمرها مئات السنين ، ليحضر إلى الذاكرة شيخ الجبل وفداويته ، وبلاطة المائدة والشرخ الكبير بعد ردح من الزمن .
نخوض بعدها في مدرجات ( حيارات ) الزرع التي لا يزال ترابها معجوناً بمياه مطر وثلج لثم صفحته قبل أيام .
ويصر الصديق بذاكرته النشطة أن يمر بنا عبر ( الفكة ) وهي الأرض التي فك بورها وسورت لتتحول إلى أرض خصبة جاهزة لزرع كل الأشجار المثمرة . وتحضر إلى ذهني صورة صاحبها على حماره الرمادي الذي يعدو كفرس أصيل ليصل بصاحبه إلى صبية أنا منهم ، يحاولون سرقة ثمار فجة ، تغلب على سرقتها متعة الإختلاس الجميل الذي لن يتجاوزها إلى أشياء أخرى .
ويأتي (نهر القاضي) الذي تسير فيه المياه خجولة على غير العادة ، بعد أن قطعوا مياه نبعي (الخنبش والشرشور) .
اغتصبوا ( السيلة ) ليحولوا بيننا وبين ذكريات الصخرة المنبسطة والعشب الأخضر والكتاب الدرسي يرافقنا ، واختصروا ( الرباصة ) وذكريات النبع والعشب الطويل المغمور بالماء والأم تعد لنا تحلاية ( السيالات ) وتركوا ( الكسارة ) تأكلها أشواك البلان والسلبين .. المياه تنحدر من كل صوب ، وزهور تكافح الصقيع وتعلن عن نفسها ، ( عين خسارة وعين سعيد ومغارة الشب ) في مرمى البصر .. الدروب غير سليمة ، فقد حفرت بها السيول أخاديد ، وكان علينا أن نحاذر أكثر .
في قعر الوادي تغادرنا لسعات البرد ، وتبدأ رحلة العودة في صعود يتألق دفؤه أكثر .. ، وتطفو رحلتي عبر الدرب نفسه على سطح الذاكرة ، رحلة وقتها أشهر الحصاد ، والحمار ينوء بحمل الزرع المنقول إلى ( بيدر رمل ) . ويعبر بنا الدرب عبر النبع الأغزر ( أبو عجيب ) ، ثم يصر صاحب الخطة أن تكون رحلة صعودنا عبر ( زاروب العين ) ، ونخشع ( لعين بوسليم وللجاق وراس الحفة ) ويسألني والمراتع مراتعي عن (جوزة أم علي دنيا ) فأترحم عليها بعد أن عمرت طويلاً .. طويلاً وخيمت فوق النهر زمناً .
الزاروب صار عبوره شاقاً ، بسبب الحجارة التي سقطت من رعوش كانت تحمي الدرب وأحراش طالت أذرعها ..
آه .. زاروب العين يحضر بكل حكاياه .. بصور الصبايا ، بجهود تبذلها العجوز ( منور ) وهي تبعد حتى الحصى الصغيرة من معابرهم ، بعرق الأمهات وهن يعبرن بحمولات الحطب وأغصان السنديان الرفيعة ( التحماية ) التي تجلب لتستعمل كوقود التنانير .
ونصل ( الميسة ) شجرة الميس بكل شموخها ، وتحضر معها صور عشاق تنعموا بظلها الوارف ، وحفروا أسماءهم على جذعها الناعم ..
رحلة العودة هذه ، رافقتها دمعة حنين ، لمواقع صرنا نزورها في فلتة من فلتات أيامنا ، كهذه الفلتة ..
أمي نفسها ، تستقبلني وتستغرب رحلتي وأصدقائي :
- في هذا الجو البارد ، وكمان رحتوا للكسارة وللنبع وراس الحفة ..؟ والله همتكم عالية ..
والهمة عالية ، عندما يشتد الحنين لمراتع الطفولة والصبا ، للأرض ، للوطن .. كل الوطن ..