مواضيع للحوار

مسافر ليل رحلة ذهاب وعودة من لا مكان إلى لا زمان

مسافر ليل رحلة ذهاب وعودة من لا مكان إلى لا زمان

1200 مشاهدة

مسافر ليل رحلة ذهاب وعودة من لا مكان إلى لا زمان

هند سلامة

  يسعى المسرحيون عادة لتحقيق أكبر قدر من المتعة بالخروج عن المألوف فى صناعة عروضهم المسرحية، وقد يتمثل هذا التجديد أو الخروج فى اللعب بأحد عناصر العرض، إما بصناعة ديكور غير تقليدي، أو بتقديم النص بشكل مبتكر، أو اللعب على حرفية الممثل

 

 

بشكل غير معتاد، وهكذا عهدنا صنوفاً كثيرة من الابتكار والتجديد للوصول إلى ذروة المتعة المسرحية، لكن فى عرض «مسافر ليل» إنتاج الهناجر وإخراج محمود فؤاد صدقي، تعدى الابتكار مرحلة تحقيق المتعة وتجاوزها بالوصول إلى المعايشة الكاملة لأجواء العمل داخل قطار حقيقى وكأنك مسافر ليلا من محطة ساحة مركز الهناجر للفنون.

كيف جاءت المعايشة الفنية؟

لم يعتمد المخرج محمود فؤاد على خشبة مسرح تقليدية كما أنه لم يبن مسرحاً عادياً، بل استعاض عن كل ذلك ببناء ديكور بساحة الهناجر الخارجية لعربة قطار حقيقية، يركبها الجمهور كى يشاهد مباراة تمثيلية بين مسافرى هذا القطار، فكأن القطار خلقت له خشبة مسرح بداخله وليس مسرحا حمل قطارا كما يتوقع المشاهد قبل حضور العرض، فبدلا من التعامل مع الشكل التقليدى قرر فؤاد الخروج بخياله إلى أبعد ما يتوقعه المتلقى وبالتالى كانت المتعة ومعايشة أجواء العمل مزدوجة، خاصة وهو يدخلك من اللحظة الأولى فى حالة السفر واقتراب موعد إقلاع القطار فعليك أن تلحق به قبل انطلاقه فى الساعة السابعة والنصف مساء.

مسافر ليل

«مسافر ليل» مسرحية شعرية كتبها الراحل صلاح عبد الصبور عام 1969 لكنها مازالت تقدم حتى اليوم، تدور أحداث العرض على لسان الراواى الذى يحكى عن كل شخصية ليكشف جوانبها النفسية، حول مواطن بسيط ركب قطارا وبدأ فى قراءة بعض الكلمات «لا ينفصل الإنسان عن اسمه،  فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك».. يستدعى الراكب شخصية الإسكندر الأكبر وكأنه غفا غفوة وتمثلت له شخصية الإسكندر فى هيئة عامل تذاكر القطار، ثم تتوالى الأحداث بتجبر هذا العامل عليه بما يحمله من أسلحة مختلفة بعد ما يطلب منه إبراز تذكرة ركوبه ثم يأكلها ويعيد عليه طلبها من جديد ثم يطلب بطاقته الشخصية ويخفيها، حتى يجرده من هويته تماما ويتهمه فى نهاية الأمر، بأنه هو المتهم الذى يبحث عنه والذى ادعى أنه قتل الله وسرق بطاقته الشخصية، يطلب الراكب المغلوب على أمره المثول أمام الحاكم «عشرى السترة» ويفاجأ أن عامل التذاكر هو نفسه عشرى السترة بارتدائه سترة فوق سترة، والذى يمارس سلطته المطلقة عليه حتى يقتله فى نهاية العرض.

الانتصار لمسرح المشاعر..!

من المعروف أن السينما تنتصر للمشاعر أولا، وهنا نجح المخرج وبقوة فى إخراج الجمهور من قاعة المسرح وكأنه خرج من قاعة فيلم سينمائى جيد الصنع، فإذا كان المخرج قرر تقديم النص كما هو دون تحريف أو تأويل أو تغيير إلا أنه اختار تقديمه فى أجواء مغايرة عن التى اعتدنا معايشتها بقاعات المسارح، بدأت هذه الأجواء مع انطلاق صافرة القطار الذى يهم بالتحرك ومع بدء دخول الجمهور إلى العربة وكأنهم مسافرون حقيقيون، يجلس فى أولها مجموعة عازفى الموسيقى المصاحبة للعرض وفى آخرها سائق القطار وبينهما وضعت مقاعد الركوب، وانتصفت خشبة المسرح بين صفوف هذه المقاعد، ثم بدأ العرض بدخول الراوى لأحداث المسرحية وكأنه أحد الركاب ويبدأ الراوى فى حكى وضع هذا الراكب أو المواطن المسافر ليلا بالقطار ووصف مشاعره والأفكار التى تدور برأسه، ثم ينطلق ويصعد المواطن ويأتى عامل التذاكر لتبدأ أحداث العرض التى تحمل الكثير من الإسقاطات السياسية على ما يتعرض له المواطنون من قهر وذل وألم على يد الطغاة، اختار صلاح عبد الصبور أن يتناول هذه القضية السياسية الشائعة فى سياق فنى مختلف عن طريق حكاية وخيال يدور فى ذهن مواطن سافر فى القطار ليلا يجمعه صراع طويل مع عامل التذاكر المستبد، إطار فنى غير متوقع لقضية سياسية واجتماعية شائعة ومعالجة مسرحية مبتكرة وضعت المشاهد فى حالة من الحميمية الشديدة مع المواطن وعامل التذاكر والرواى داخل قطار حقيقى ساهم فى التحام المشاهد بالمواطن وما يدور داخل هذه العربة، فأصبح جزءاً من الأزمة التى وقع فيها هذا الرجل سواء بموقفهم السلبى كركاب اكتفوا فقط بالجلوس والمشاهدة، كما يحدث فى الواقع أو بوقوعهم تحت طائلة وتأثير هذا الطاغية، لم ينتصر العرض بالتجديد فى النص المسرحى بقدر انتصاره لوضع الجمهور تحت تأثير المشاعر سواء كانت سلبية باتخاذهم موقف المتفرج أو ايجابية بنقل شعور الراكب بالحيرة والألم والخوف والوحدة لوجدان الحضور وكأنهم هم المسافرون جميعا فى عتمة الليل..!

الكآبة والحيرة والخوف

لم تقتصر حالة المعايشة على الفكرة المبتكرة لبناء ديكور بمسرح خارجى بينما ساهمت الإضاءة لأبو بكر الشريف فى بلورة حالة الكآبة والحزن والحيرة التى تسيطر على هذا الرجل فاختلطت فيها مشاعر الرعب بالحيرة واليأس من مصيره المحتوم وكأنه فى كابوس لا ينتهي، وكذلك الأداء الممتع للفنان علاء قوقة الذى يتغير فى كل عرض مسرحي، وكأنك تشاهده للمرة الأولى ففى هذا العمل قدم قوقة شخصية عامل التذاكر أو الرجل المستبد بأداء مسرحى سينمائى جمع فيه بين التراجيديا وخفة الظل، وصفوت الغندور فى دور الراوى استطاع أن يسيطر على أذهان وخيال الجمهور من اللحظة الأولى، وكذلك الممثل مصطفى حمزة فى دور الراكب، العرض ديكور وإخراج محمود فؤاد صدقي، ملابس أميرة صابر، موسيقى زاكو، ماكياج ماثيو فكري.

تذكرة قطار من لا مكان إلى لا زمان..!

لم يكتف المخرج بالابتكار فى صناعة الديكور وخشبة المسرح بل امتد فكره مع مصمم الدعاية أحمد صدقى إلى ابتكار شكل مختلف لكتيب العرض الذى وزع على الجمهور على هيئة تذكرة قطار وكأنها تذكرة الحجز للرحلة مع المسافرين، وفى التذكرة كتب اسم العرض، ونوع العربة «درجة ثالثة عادة»، وعدد الركاب «60» راكباً، السعر «20» جنيهاً، طريق الساحة الخارجية للهناجر رقم القطار 901، عربة 6، مقعد 29، وقت القيام 6 مساء، المسافرون علاء قوقة، صفوت الغندور، ومصطفى حمزة، رحلة الذهاب والعودة من لا مكان إلى لا زمان..!