مواضيع للحوار

مسرح القباني في دمشق يتحول لمرآة تعكس قصص الحرب السورية

مسرح القباني في دمشق يتحول لمرآة تعكس قصص الحرب السورية

1053 مشاهدة

مسرح القباني في دمشق يتحول لمرآة تعكس قصص الحرب السورية

 

 من زينة شهلا:

«الله يرحمو».. «صار بيتنا كلو نسوان».. «البيوت الفاضية من الرجال مثل البحر اللي ما فيو ملح». عبارات تتوالى من خمس نسوة يبدو أنهن في مجلس عزاء لرجالهن الغائبين، وذلك في المشهد الافتتاحي لمسرحية «هنّ» التي بدأت أولى على خشبة مسرح القباني في دمشق، التي امتلأت بعشرات المتفرجين.
وخلال ساعة كاملة هي مدة العرض، تتقاطع روايات النسوة الخمس – المنتميات لشرائح مختلفة عمرياً واجتماعياً - عند فكرة الفقدان، وهن يحكين عن قصص مختلفة يمكن أن تكون قصص أي عائلة سورية مرت ويلات الحرب من منزلها لتنتزع أباً أو ابناً أو أخاً أو حبيباً، ويتبادلن الأدوار لتصبح حكاية كل واحدة منهن هي حكاية الجميع، في ما يشبه المأساة الجمعية التي يعيشها السوريون اليوم.
أم فقدت ابناً وأجبرت الآخر على السفر، زوجة تعاني من وفاة الزوج والابن وغياب الابن الآخر، فتيات فقدن قريباً أو حبيباً، موتاً أو خطفاً أو تغييباً، ويخشين ألا تمنحهن الحياة فرصة الحب، مع غياب الرجال وتحوّل دمشق إلى شبه مدينة للنساء.
حكايات واقعية مزجتها الكاتبة والمخرجة "آنا عكاش" ببراعة، مع حكاية الأرض السورية التي وقعت عليها أول جريمة في التاريخ، عندما قتل "قابيل" أخاه "هابيل"، وشربت الأرض دماءه، «بس الولاد ما سمعوا الوصايا، ومن هداك الوقت الموت مرافقنا، بيغيب سنين وبيرجع بيتذكرنا»، تقول شخصيات العرض.
وتستمر الممثلات في حركة مكثفة على خشبة المسرح مع ديكور بسيط يقتصر على كراسٍ وأطر خشبية تتحرك من مشهد لآخر، وإضاءة لا مبالغة فيها وإسقاط ضوئي في بعض المشاهد لمواد بصرية وثائقية، ويستخدمن دفوفاً لصنع إيقاع يرافق بعض عبارات النص، مضفياً جواً أقرب للصوفية، خاصة مع إنشاد إحدى الممثلات آيات قرآنية بطريقة صوفية في بعض المشاهد. ولا تغيب فكرة المطالبة بوقف الحرب الدائرة في سوريا عن جو المسرحية، حيث تستمر الممثلات طوال مدة العرض في الإشارة للخسارة الكبيرة التي مني بها جميع السوريين، وضرورة وضع حد لها والخروج من دوامة العنف اللامنتهية. أما النهاية فتأتي مع تأكيد النسوة الخمس على خيارهن البقاء في سوريا، التي تجذرت روابطهن عميقاً فيها، وعدم مغادرتها وهي «البلد الحنون الذي لا يظلم أحداً».
خيار تحدثت عنه الكاتبة والمخرجة "آنا عكاش" لـ«القدس العربي»، حيث رأت أن قلة الأعمال المسرحية التي تتناول الحياة من داخل سوريا، مقابل العديد من الأعمال التي تحدثت عن البلاد من وجهة نظر مسرحيين خرجوا منها، دفعتها لإنجاز هذه المسرحية «فحق سوريا علينا، وحقنا نحن من بقي فيها بأن نتحدث عن خيارنا وإرادتنا بالاستمرار في الحياة داخل بلاد نحبها، ولا تزال نابضة بالحياة رغم الحرب، على لسان شخصيات تمثل رمزياً كافة أطياف المجتمع السوري وتجتمع على ألم الفقدان والخسارة». وتمثل اللمسة الصوفية في العرض حسب المخرجة، تأكيداً على أن سوريا هي بلد الاعتدال، وأن التطرف الديني الذي شهدته خلال السنوات الأخيرة، ما هو إلا دخيل على السوريين والثقافة والعادات السائدة في البلاد. وتقنياً، اعتمدت "عكاش" – الحائزة إجازة في الدراسات المسرحية من سوريا – بشكل كبير على حضور الممثلين، «باعتبارهم العنصر الأساسي في أي عرض مسرحي وفق رؤيتي للعمل، أما الديكور باختزالاته وتغيير وظائفه ما هو إلا وسيلة مساعدة لتشكيل الصورة التي نرغب فيها».
وتتكامل هذه الصورة مع مستويات الإسقاط البصري في العرض، التي تتعلق بشكل مباشر بذاكرة السوريين الجمعية. تقول "عكاش": «ألبومات صورنا هي ذاكرتنا المشتركة في أماكن ذهبنا إليها جميعاً في طفولتنا، وتفاصيلنا الجميلة التي ما عدنا قادرين على تذكرها بعد سبع سنوات من الحرب. عملت على جمع عشرات الصور القديمة من أصدقاء ومعارف، حتى من خلال تواصلي معهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، واكتشفت كم تعنينا ذاكرة قبل الحرب، التي أحاول أنا شخصياً أن أعيش من مخزونها، بدون أن أبني ذاكرة أخرى مع الحرب».
ورغم التحديات التي اعترضت العمل الذي تنتجه المديرية العامة للمسارح والموسيقى في وزارة الثقافة السورية، وعلى رأسها الأجور المتدنية للكوادر المسرحية، وصعوبة العثور على ممثلين أكاديميين ومحترفين مهتمين بخوض هذه التجربة، على حساب التمثيل التلفزيوني، الذي يعتبر أعلى أجراً وأكثر جذباً، وانقطاع الكهرباء وما يترتب على ذلك من أعباء مادية، إلا أن ذلك لم يمنع "عكاش" من الاستمرار في رؤية المسرح على أنه «مساحة من المتعة والتجريب والغنى الشخصي والعملي والإنساني».
ممثلات العرض: إنعام الدبس، إيمان عودة، جولييت خوري، رشا الزغبي، لبابة صقر- أكدن في حديثهن لـ"القدس العربي" على مدى ملامسة النص بكافة تفاصيله لحياتهن ومعاناتهن، والمآسي التي مر بها كل السوريين خلال السنوات السابقة، وهو ما دفع بهن للمشاركة، التي شكّلت بالنسبة إليهن تجربة خاصة لا تشبه غيرها من الأعمال المسرحية، وتحدياً صعباً مع اضطرارهن للبقاء على خشبة المسرح ساعة كاملة والحركة والحديث بشكل مستمر. «الحرب بتغير مفاهيم كتيرة، وبتكشف أشياء مخباية جواتنا ما منعرف أنها موجودة فينا، أو منعرف وما بدنا نشوف»، تقول المخرجة في كلمتها التعريفية عن المسرحية، وتضيف: «الحرب طلعت مراية كبيرة.. أصفى من المي»، وهي كلمات ترددها شخصيات المسرحية عدة مرات متتالية أثناء العرض، وكأنها تريد أن تحفرها عميقاً في أسماع المتفرجين، ليخرجوا بتساؤل عن مدى صفاء مراياهم، وكم من الأسرار لا تزال حبيسة في نفوسهم.