أخبار أدبية

مسرحية العثور على جلجامش الكاتب المسرحي عمار نعمة جابر

مسرحية العثور على جلجامش الكاتب المسرحي عمار نعمة جابر

971 مشاهدة

مسرحية العثور على جلجامش الكاتب المسرحي عمار نعمة جابر ...

الكاتب المسرحي #عمار _نعمه _جابر

أنكيدو : عفوا سيدي ، هل أنت رفيق الخلود ، أوتو نبشتم ؟

أوتو نبشتم : ويحك ، من أنت ! وكيف وصلت الى هنا ؟

أنكيدو : أنا أنكيدو ، جئتك من أوروك ، قطعت البحار والصحاري ، عبرت جبال الظلمة ، حتى وصلت اليك .

أوتو نبشتم : لم يستطع أي أحد قبلك أن يصل الى هنا يا أنكيدو !

أنكيدو : ولكن ، جلجامش قد وصل اليك قبلي !

أوتو نبشتم : جلجامش ، ليس كأي أحد .

أنكيدو : أور شنابي ، هو من دلني على السبيل ، فصرت اتنقل من مطار لآخر ، ومن محطة قطار لأخرى ، صارت المدن تتساقط عن يميني وشمالي ، فعلت المستحيل في سبيل الوصول اليك .

أوتو نبشتم : ولن تعود من هنا خائبا لأوروك ، أخبرني هل أدلك على عشبة الخلود ، كما فعلت مع جلجامش ، هل أنت بحاجة لها ، أم ماذا تطلب ؟

أنكيدو :  كلا ، لقد جئتك مستغيثا ، فأغثني يا مولاي ، يا صاحب السفينة ، ويا آخر الباقين بعد الطوفان .

أوتو نبشتم : قل حاجتك ، تكلم .

أنكيدو : أخي وخلي وصاحبي جلجامش ، ضاع ، لا أستطيع أن أعثر عليه .

أوتو نبشتم : قطعت كل هذه العوالم من اجل العثور على صاحبك ! نادر هذا الوفاء في زمنكم الموحش والشحيح .

أنكيدو : يا مولاي ، هو روحي  ، نبض قلبي ، وكل حياتي ، وليس سواك أيها المنقذ ، يا ربان سفينة الطوفان ، قادر على أن يجده لي .

أوتو نبشتم: حسنا ، ومتى خرج صاحبك ؟

أنكيدو : في الحقيقة ، هو شخص كثير الحركة ، دائم البحث .

أوتو نبشتم: متى آخر عهدك به ، يعني ، متى  رأيته آخر مرة ؟

أنكيدو : قبل أربعين يوما .

أوتو نبشتم: أين شاهدته ؟

أنكيدو : وأين يمكن أن أشاهده ! شاهدته معي يا سيدي .

أوتو نبشتم: هل حدثت معه مشكلة قبل اختفائه ؟

أنكيدو : مشاكله كثيرة جدا ، لكن اقسم لك ، ليس هناك أسمى وارفع من روحه .

أوتو نبشتم: قد يكون عثر على أصدقاء غيرك ، أقرباء يمكن أن يذهب لهم ؟

أنكيدو : هو وحيد جدا ، تماما مثل شجرة الصبّار .

أوتو نبشتم: ربما هو يعاني من امراض نفسية ؟

أنكيدو : أوو  ، كثيرة جدا ، ظاهرة وباطنة .

أوتو نبشتم: إذن الموضوع شائك .

أنكيدو : ولكنه ، مع كل ذلك ، شخص بسيط جدا ، فقط هو ضائع .

أوتو نبشتم: ربما فكر بالذهاب الى أشخاص محددين أو أماكن محددة ؟

أنكيدو : الغريب أن الجميع يقول أنه يعرفه ، ولكن في الحقيقة ، لا أحد يعرف جلجامش !

أوتو نبشتم: تقصد أن علاقته جيدة مع الجميع ؟

أنكيدو : قلبه وارف كشجرة السيسبان ، مسالم تماما مثل قط وديع ، روحه ، تستطيع أن تقول عنها مثل فراشة ، ترى جمال الوانها ، ولا تشعر بثقل وجودها حولك ، هكذا أراه وأعرفه ( يتحرك ) سيدي ، أرجوك ، أتوسل اليك ، جده لي ، دلني عليه مرة أخرى ، لقد ضاع في هذا العالم العدواني ، وهو لا يستطيع أن يواجه مثل هذا العالم .

أوتو نبشتم: لا تقلق سأبذل قصارى جهدي لأجده لك .

أنكيدو : ( يتحرك ) لقد بحثت عنه في كل الأماكن التي أعرفها ، علقت صوره على كل جدران المدن ، لم اترك صحيفة الا ونشرت فيها اعلان عن ضياعه ، ولا قناة فضائية الا ودفعت لهم ، ليذكروا خبر ضياعه في نشرات الاخبار ،  أرجوك سيدي ، ساعدني ، يراودني إحساس أنني لن أجده هذه المرة .

أوتو نبشتم: هل تقصد أنه ضاع قبل هذه المرة !

أنكيدو : نعم ، حدث ذلك ، لقد ضاع عشرات المرات ، مشكلته أنه يضيع دائما .

أوتو نبشتم: إذن هو مدمن .

أنكيدو : لا ، أبدا ، جلجامش ليس مدمن ، لا يشرب المخدرات ، ولا يكثر من الخمر ، ولا يدخن السجائر كثيرا .

أوتو نبشتم: كنت أقصد أنه مدمن ضياع ( يضحك بصوت عال )

أنكيدو : نعم ، ربما أنت على حق ، هو مدمن ضياع ، كلما وجدته وأوصيته أن لا يتيه في طرقات المدينة ، يكرر الضياع مرة أخرى ، يقول أنه كثير الشك .

أوتو نبشتم: كثير الشك ! ماذا تقصد ؟

أنكيدو : يشك في كل طرق المدينة ، يشك في كل بيوتها ومعابدها ومدارسها ، يشك في كل اشجارها وطيورها ، يشك حتى في سحابها وهوائها ، ليس هذا حسب ، بل إنه يشك حتى في الليل والنهار .

أوتو نبشتم: يا الهي ، الليل والنهار !

أنكيدو : نعم يا سيدي .

أوتو نبشتم: ولكن لماذا يشك في الطيور ، هل لاحظ شيئا لا أخلاقيا منها ( يضحك بصوت عال)

أنكيدو : سيدي ، أنت تضحك منه ، يبدو أنك لا تصدقني !

أوتو نبشتم: لا أبدا ، ولكن كلامك غريب جدا . إنه فعلا شخص غريب الاطوار .

أنكيدو : يقول أنه في كل مرة ، يذهب في طريق جديد ، لا يعرفه ، باحثا فيه عن الطريق السليم والحقيقي ، ولكن النتيجة ، يضيع من جديد .

أوتو نبشتم: ولماذا لا يمشي في نفس الطريق !

أنكيدو : يقول انه ، وفي كل مرة ، يكتشف زيف وبهتان ووهم الطريق ، فابحث عن طريق اخر يقودني لليقين فأضيع في الطرقات ، هو يقول ذلك .

أوتو نبشتم: لماذا لا يكون مثل الآخرين ، الجميع يمشي في ذات الطريق لسنين ، بل أن الكثير منهم يمشون جيئة وذهابا في طريق واحد كل أعمارهم ، أقفلوا بوصلاتهم ، ولم يلتفتوا الى زيف وبهتان ووهم طرقهم  ، أو بالأحرى لا يفكرون بذلك .

أنكيدو : حيوانات ..

أوتو نبشتم: ماذا ، ماذا تقول !

أنكيدو : عفوا سيدي ، هو يقول أنهم قطيع حيوانات ، مجرد قطيع ، يفكرون بطريقة القطيع ، تتشابه حيواناته في مداركها وفهمها وتصرفاتها .

أوتو نبشتم: صاحبك هذا سيتعبنا في البحث عنه !

أنكيدو : أذكر آخر مرة .. ( يقاطعه أوتو نبشتم)

أوتو نبشتم: نعم أحسنت ، حدثني عن آخر مرة ، أريد أن ترجع ذاكرتك الى الوراء ، تذكر كل الكلمات ، كل التفاصيل ، مهما تعتقد أنها تافهة أو صغيرة .

أنكيدو : أذكره آخر مرة ، بكى بحرقة ، بكى طويلا .

أوتو نبشتم: وهل تعرف لماذا يبكي ؟

أنكيدو : كانت بيده صورة كبيرة ، مؤطرة بإطار مزخرف .

أوتو نبشتم: نعم ، وماذا حصل ؟

أنكيدو : وضع للصورة علامة سوداء في زاويتها ، وهو يبكي بشدة ، ينتحب بصوت عال ، ينعى بأبيات شعر شجية ، أحسست أن قلبه خرج من مكانه لشدة البكاء ، لا ، بل شعرت أنه فرى كبده لشدة الحزن ، وكاد يقيئها .

أوتو نبشتم: غريب ، وهل عرفت من هو صاحب الصورة ، التي وسمها بالقطعة السوداء ؟

أنكيدو : نعم يا سيدي ، أعرف صاحبها .

أوتو نبشتم: هل هي صورة زوجته ؟

أنكيدو : لا  ، هو لم يتزوج بعد .

أوتو نبشتم: هل هي صورة أحد أبناءه ، ربما ثكل بأحدهم ؟

أنكيدو : سيدي أقول لك لم يتزوج بعد !

أوتو نبشتم : ربما يملك girl friend ( يضحك بصوت عال ) .

أنكيدو : ولكنك تعرف جلجامش جيدا يا سيدي .

أوتو نبشتم: نعم ، أنت على حق . إذن هي صورة لأحد والديه ، أو صورة لصديق قديم ، أو ربما صورة لحبيبة له ، تزوجت وتركته وحيدا ؟

أنكيدو : لا أبدا .

أوتو نبشتم: طيب أخبرني ، صورة من ، تلك التي فرى عليها كبده ؟

أنكيدو : إنها صورته هو .

أوتو نبشتم: صورة من !!

أنكيدو : صورة جلجامش ، صورة قديمة له ، كان يملك في الصورة لحية طويلة .

أوتو نبشتم: ماذا ! صورته هو ، هل هو مجنون ، يبكي على صورته ويوسمها بالسواد ، لا ، لا ، أكيد أنه مجنون ، شيء غير معقول بالمرة .

أنكيدو : سيدي ، ربما كان يبكي على ما تغير في داخله ، وكيف كان ذاتا مسطحة ، لا تعرف ما تعرفه الآن ، أو ربما يبكي على لحيته ، فلقد حلقها مؤخرا ؟

أوتو نبشتم: ( غاضبا ) يقيء كبده ، ويقفز قلبه من مكانه لشدة البكاء ، بسبب حلاقة لحيته ! هل حالته صعبه الى هذه الدرجة ؟

أنكيدو : كان يقول أن اللحية جزء من شخصيته السابقة ، جزء من النصب والتماثيل التي أقيمت له ، جزء من صورته التي كان يمشي بها بين الناس ، بل فاجأني بقوله ، أن لحيته جزء من أفكاره !

أوتو نبشتم: شعر اللحية ، جزء من أفكاره ، غير معقول بالمرة !

أنكيدو : نعم ، صدقني سيدي ، سمعته يكرر ذلك اكثر من مرة .

أوتو نبشتم: طيب ، وهل ذكر لك شيئا ، عن العلاقة بين الشعر بين الفخذين وأفكاره ( يضحك بصوت عال ) كنت أمزح معك ، لأنه بصراحة ، موقف جلجامش هذا مضحك للغاية ( يعود للضحك بصوت عال ) 

أنكيدو : سيدي أتوسل اليك ، الامر خطير ، جلجامش ضاع في التيه ، جده لي ، سيموت من شدة الوجد ، جده لي قبل أن تقتله الوحدة ويأكله الضياع .

أوتو نبشتم: حسنا ، لا تقلق الأمور تحت السيطرة ، ما لم يتم الإبلاغ عن جثث مجهولة ، هذا يعني أنه لازال حيا يرزق .

أنكيدو : اشكرك يا سيدي ، لأنك تطمئنني عليه .

أوتو نبشتم: بعضهم يبحث عن المتاعب بيديه ، يمشي لها بقدميه ، يسعى دائما ليجد ما ينهك رأسه .

أنكيدو : نعم ، انت على حق ، ولكن هو يقول ، أننا لا ينبغي لنا أن نكتفي بإجابة واحدة لكل سؤال ، في العادة ، كل سؤال له أكثر من إجابة ، جئنا الى هذه الحياة كي نعرفها جميعا ، فهذا الوجود معقد للغاية .

أوتو نبشتم: ولماذا لا يتوقف عند احداها ، وينعم بالهدوء ، لماذا وجع الرأس ، لماذا لا يفترض أننا نشبه الخنازير ، ننظر بوجهة واحدة ، لا نستطيع أن نلتفت يمينا أو شمالا ، ويرضخ أنها هكذا قد خلقت ، وجوهنا وعيوننا ، لا ترى الا باتجاه واحد ، ويغلق على نفسه مصادر الشقاء .

أنكيدو : شرح لي ذات مرة ، أنه لا توجد حقيقة مؤكدة لهذا العالم ، لذا يجب أن نواصل البحث .

أوتو نبشتم: طبعا سيضيع ويضيع ، إنه باحث عن المتاعب .

أنكيدو : ارجوك ، لا تتردد في البحث معي عنه ، سيأكله هذا العالم .

أوتو نبشتم: واجبي يحتم علي أن أجده لك ، مهما كانت حالته . اريد منك أن تساعدنا في ذلك .

أنكيدو : حسنا ، وبأي شيء يمكنني مساعدتكم ؟

أوتو نبشتم: أن تذكر لنا كل تفاصيل المفقود ، مهما كانت .

أنكيدو : مفقود ! صدقت ، هو مفقود في حروب هذه الحياة الكثيرة !

أوتو نبشتم: طيب اذكر لي أبرز هواياته ، هل كان يمارس هواية محددة بعينها .

أنكيدو : نعم يا سيدي .

أوتو نبشتم: حسنا ، هل هوايته كانت حبه لتناول الطعام بشراهة ، أم أنه يمارس التسوق كثيرا من المولات ، او تراه يكثر من شرب الاركيله في الكافيهات ، أو يدمن مواقع التواصل الاجتماعي ؟

أنكيدو : ولكن يا سيدي هذه ليست هوايات ، هذه أمراض !

أوتو نبشتم: حسنا ، ربما يكون كلامك صحيح ، طيب اذن ، أخبرني ما هي هواياته ؟

أنكيدو : له هواية وحيدة في كل حياته .

أوتو نبشتم: أخبرني عنها.

أنكيدو : حسنا ،  انها هواية طرح الأسئلة على نفسه .

أوتو نبشتم: ( متعجبا ) يطرح الأسئلة على نفسه ! طيب ، وهل ينجح في الاختبار ، ويجيب بشكل صحيح ، أم أنه يفشل في الإجابة ويرسب في الصف ( يضحك بصوت عال )

أنكيدو : إنه في العادة ، يفشل فشلا ذريعا في الاجابة .

أوتو نبشتم: يفشل ! ويعود ليطرح الأسئلة على نفسه ، لماذا لا يتوقف وينتهي كل شيء .

أنكيدو : حمار ، حمار بآذان طويلة .

أوتو نبشتم: ماذا تقول !

أنكيدو : عفوا سيدي ، هو يقول أن الحيوان فقط هو الذي لا يطرح الأسئلة .

أوتو نبشتم: نعم ، حسنا ، فهمتك الان .

أنكيدو : الانسان من وجهة نظره ، هو الكائن الوحيد الذي يطرحها ، يقول أن الأشجار والصخور ، وكل الحيوانات والكائنات في الوجود لا تفعل ذلك ، الانسان وحده من يفعل ذلك ، يطرحها من أجل أن يعرف ، من أجل أن يفهم .

أوتو نبشتم: وما حاجته الى هذه الأسئلة ، أقصد أي نوع من الأسئلة ، تلك التي يطرحها على نفسه ؟

أنكيدو : الكثير جدا يا سيدي ، مثلا ، من جاء بي الى هنا ، لماذا هذا التوقيت بالذات ، لماذا أنا هذا الشخص ولست ذاك ، كيف أصبحت هكذا ، ماذا يريد مني من فعل ذلك بي ، ماذا يجب ان اعرف ؟ وكيف !  ماذا يجدر بي أن أفعل ، من أين يفترض بي أن أبدأ ؟

أوتو نبشتم: ولكنها كلها من وجهة نظري ، كلها أسئلة بسيطة جدا ، فلو قدر لي الإجابة مثلا ، سأجيب ببساطة :  انا هنا لان ابواي ولداني هنا وبهذا التوقيت ، وأصبحت بفعل التربية هكذا ، ويجب عليّ ان لا أسأل كثيرا ، وأبدأ من الطبق القريب مني على المائدة ، وأتابع التنزيلات في المولات ، واستمتع بأحجار الاركيلة الى أقصى حد ، وأصول وأجول في صفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي ، هكذا اجيب على اسئلته ببساطة .

أنكيدو : غبي ، غبي وابن ستة عشر غبي .

أوتو نبشتم: ماذا تقول !

أنكيدو : عفوا سيدي ، هو يقول : أن الغبي وابن ستة عشر غبي ، من يعتقد أن لهذه الأسئلة إجابات محددة .

أوتو نبشتم: ( غاضبا ) ليس هناك أغبى من أسئلة جلجامش ، هل فهمت ؟

أنكيدو : ( مضطربا ) نعم سيدي ، أسئلته الغبية وابنة ستة عشر غبي ، ارجوك لا تغضب .

أوتو نبشتم: أتمنى أن تكون هناك سيارة مسرعة قد سحقته ، هو وكل اسئلته التافهة، أو قطار شطره الى نصفين ، أو قطيع ذئاب تقاسموا جسده ، ليخلصونا من هذه العُقد المزمنة ، هذه الذوات الكئيبة ، هذه المخلوقات التي لا لها لون ولا شكل ولا طعم .

أنكيدو : نعم يا سيدي ، ارجوك لا تغضب ، انها  أسئلة لا تستحق ، ارجوك اهدأ .

أوتو نبشتم: أقسم ، لولا توسلاتك لما بذلت أي جهد للبحث عن هذا الشيء .

أنكيدو : اشكرك سيدي ، هذا كرم كبير منك .

أوتو نبشتم: شخص بهذا السوء لا يمكن أن يطاق ، حتى لو كان جلجامش نفسه ، اذا اردت نصيحتي ، اتركه ضائعا ، ولا تحاول ايجاده ، سيجعلك تموت بعمر ناقص .

أنكيدو : لو كان بيدي الامر لأخذت بنصيحتك ، ولكن الأمور معقدة جدا ، سيدي ، إذا نحن لم نجد جلجامش وأسئلته ، إذا أوروك لم تشارك مع جلجامش شكه وقلة يقينه ، حتما سيتلاشى مجدنا ، وسيختفي وجودنا ، ويغطينا رماد النسيان .

أوتو نبشتم : ولكنه شخص لا نفهمه بوضوح ، مرة يتحدث عن الشَعر وعلاقته بالأفكار ، ومرة يطرح أسئلة على نفسه ، ولا يتقبل إجابة واحدة ، مرة يشك بالليل والنهار ، ويضيع في طرق المدينة . صراحة انت وأوروك في موقف لا تحسدون عليه بتاتا .

أنكيدو : لا يجب أن نتخلى عنه ، وهو في هذه المحنة ، إنه جلجامش يا مولاي ، يجب أن نعيده الى أوروك  .

أوتو نبشتم : حسنا ، ولكن لم تخبرني ، هل كان جلجامش يتلو حكايتي ، حكاية الطوفان ، ، كل ليلة ، ليعي ويدرك ما جرى ، وكيف أنني دعوت الناس الف سنة الا خمسين عاما ، ولم يؤمن بي سوى زوجتي ، والتي ربما آمنت بي لأنها زوجتي فقط ! وآمن معها ثلاثة من مجموع أربعة من اولادي ، وهم أيضا ، ربما آمنوا بي لأنني اباهم فقط ! بينما إبني الرابع قد فضل الموت غرقا ، في موج كالجبال ، على الايمان بأبيه ! هل صاحبك ، طارح الأسئلة ، والباحث عن الإجابات ، يدرك حقيقة ما يحصل حوله في هذا العالم !

أنكيدو : هو يقول أن القاعدة الأولى في أي ارتقاء وتغيير ، ليس النداء والدعوة من خارج الذات الإنسانية ( يقاطعه أوتو نبشتم )

أوتو نبشم : لا تقل لي ان جلجامش ، يحاول تصحيح المهمة التي ارسل الله من أجلها الرسل !

أنكيدو : ليس تماما يا سيدي ، ولكنه يقول أن الوازع الذاتي للإنسان هو الاقدر على الإصلاح ، وسماحتك تعلم أن جميع الرسل والقديسين ركزوا على جانب التبشير والدعوة .

أوتو نبشتم : نعم فعلا ، أنت على حق ، ولكن في العادة يأتي الصوت من الخارج ، ليوقظ الداخل ، ونحن جزء من هذا الصوت .

أنكيدو : أنت تعرف يا سيدي أن جلجامش ،هو أول من طرح سؤال المعنى ، هو أول باحث عن سر الخلود ، وهو أكثر من نعرف ، ممن تساءلوا عن المغزى الحقيقي للحياة والموت ، ولكن يبدو أن من يبدأ بطرح هذه الأسئلة ، لا يستطيع أن يتوقف أبدا .

أوتو نبشتم : أذكر أنني وهبته عشبة الخلود من أجلكما ، كإجابة عن سؤاله .

أنكيدو : ولكنك بفعلتك هذه ، قد ضيّعت جلجامش ، القيت به في التيه ، لقد كان يثق بالسماء ، ويثق بك ، بوصفك مفاوضا ومفسرا ومبررا لكل أخبار السماء . وبسبب عشبتك البائسة أفقدته هذه الثقة .

أوتو نبشتم : أنا !

أنكيدو : نعم ، أنت يا سيدي .

أوتو نبشتم : لقد كنت سخيا جدا معه ، إنه الشخص الوحيد في الإنسانية ، والذي تجاوزت بسببه كل نواميس السماء ، ووهبته عشبة الحياة والخلود !

أنكيدو : بسبب الطريقة التي تعاملت بها سيدي مع أسئلته ، لقد اعتبرك ، اعذرني للمفردة الجارحة ، اعتبرك أقل وعيا وادراكا لحجم الأسئلة التي تأكل داخله ، فالعشبة كانت إجابة ناقصة عن سبيل الخلود الحقيقي والفاعل ، اكرر اعتذاري لسماحتك .

أوتو نبشم : هو يقول ذلك عني !

أنكيدو : نعم ، بل يقول أن النصيحة التي قامت بتلاوتها عليه ، صاحبة الحانة ، كانت أكثر وعيا في حجم حيرته وضياعه ، وانجع في التعامل مع هيجان الاسئلة في روحه ، عن سبل الحياة  .

أوتو نبشتم : هو يقول ، أن صاحبة الحانة ، أكثر قداسة وعظمة ، من أوتو نبشتم الخالد !

أنكيدو : عفوا يا مولاي ، هو قال أكثر وعيا بحيرته وضياعه ، لم يذكر القداسة ولا العظمة أبدا !

أوتو نبشتم : صاحبة نقيع الشعير ، أعلى مقاما من أوتو نبشتم ، لقد جن صاحبك ، صار جلجامش يستحق أن يسكن الشمّاعية في مشفى الرشاد . 

أنكيدو : ولكنه جلجامش يا سيدي !

أوتو نبشتم : حتى لو كان جلجامش ملك اوروك العظيم ، لقد أصبح مسجلا كخطر على الجميع .

أنكيدو : جلجامش خطر !

أوتو نبشتم : نعم ، اسئلته تمثل تهديدا واضحا لليقين ، للثوابت والمقدسات ، خطرا على شكل الافكار الثابت ، وهرمها المقدس .

أنكيدو : ولكن .. !

أوتو نبشتم : اسمع يا أنكيدو ، كل من يمس قدس الرب والداعين له ، ويمس الصالحين وأصحاب السماحة والمقام والنيافة ، أو يسئ الى كل الاتباع والفقهاء والدعاة ، وأحزابهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعشائرية ، يجب أن يصمت .

أنكيدو : ( مستغربا ) عفوا يا سيدي ، ولكن لا أستوعب ماذا تعني بهذا الكلام .

أوتو نبشتم : حسنا ، كلامي واضح ومباشر ، لقد أسكتنا جلجامش الى الابد .

أنكيدو : هل تقصد أن سماحتك تعرف أين مكان صاحبي وخلي جلجامش !

أوتو نبشتم : نعم ، إنه يقضي عقوبة الدنيا ، قبل أن يلاقي ربه ، ويخلد في قعر الجحيم .

أنكيدو : ولكنه لم يفعل شيئا ، لقد كان جلجامش يطرح الأسئلة على نفسه فقط !

أوتو نبشتم : لقد أفسدت أسئلة جلجامش هذا العالم علينا ، مذ طرح سؤاله الأول ، والأمور بدأت تسوء ، شيئا فشيئا ، فكرة بعد فكرة ، رحلة بعد رحلة .

أنكيدو : ولكنني لا استطيع العيش بدون صاحبي جلجامش ! أوروك هي الأخرى تحتاج ملكها !

أوتو نبشتم : أنكيدو ، عد الى أوروك سريعا ، أخبرهم أن يتمتعوا بطعامهم جيدا ، يتسوقوا كثيرا من المولات ، ويكثروا من شرب الاركيله في الكافيهات ، ويدمنوا مواقع التواصل الاجتماعي ، وقل لهم بوضوح ، أن يتركوا الى الابد ، طرح الأسئلة .

العراق - الناصرية

24/9/2020