أخبار أدبية

مسرحية  صهيل الحصان  تأليف فارس الذهبي

مسرحية صهيل الحصان تأليف فارس الذهبي

513 مشاهدة

مسرحية  صهيل الحصان  تأليف فارس الذهبي

#مجلة _الفنون _المسرحية

#تأليف _فارس _الذهبي

 إلى باسل شحادة وأحمد الأصم

#خشبة فارغة تماماً… يعبر في ظلامها.. رجل عجوز من اليمين إلى اليسار. يلتمع في العمق تحت النور حصان بنيّ اللون منمّق، ذو شعر مرسل وذيل طويل يلامس الأرض. الإضاءة تظهر الحصان، الذي يقف بشكل عرضي دون حراك أبداً. رأسه إلى يمين الخشبة، بينما ذيله الطويل مرخى على أرض القسم الأيسر من الخشبة. يدخل رجل عجوز بشعر أبيض ولحية بيضاء خفيفة.. يداعب ظهر الحصان قليلاً… ثم يداعب عضلات فخذيه، ينفض شعر رقبته بودّ شديد ويمسّدها بحرص. يتقدم إلى مقدمة الخشبة ويقف مواجهاً الجمهور.

قالوا لي: تصرّف أنت أو نتصرّف نحن..

هه!.

هم لا يدركون الخطأ الذي يرتكبونه، يعتقدون أنني سأسلّم بسهولة، أنني سأمضي وأترك لهم كل شيء، أتركهم في جنة هذه الأرض التي ساهمتُ بصناعتها… هه.. أمضي، وأترك لهم هذا الحصان..

(فجأة يقفز إلى مقدمة الخشبة ضاحكاً بمزاج جديد…):

اليوم…هو يوم استثنائي بكل ما للكلمة من معنى، اليوم سوف أستخدم السلاح للمرة الأولى منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً… بشكل عكسي، سأستخدمه لأحمي نفسي.. من المضللين، العملاء الإرهابيين.

رغم أنني ابن السلاح، وتربيت وإلى جواري قطع السلاح كما الألعاب ألعب بها تارة، وتارة أخرى أستخدمها… مقلداً صوت انطلاق المعدن منها بفمي..

إلى أن وصلت إلى مرحلة بت فيها أسمع صوت الرصاص، وأحس به يرجّني رجّاً من أخمص قدميّ إلى أقصى رأسي.

يا الهي كم يحرّك هذا السلاح الدورة الدموية… ربما من أجل هذا أدخلوه في المسابقة الرسمية للأولمبياد.. معتبرين أنه رياضة…

(مخاطباً الحصان):

هل تعلم…أنا وأنت وهذا السلاح.. ثلاثة رفاق ساروا طويلاً على درب ليس لهم فيه هدى.. حاولنا أنا وأنت التخلي عنه ولكنه فرض نفسه علينا من جديد..

اليوم… سأستذكر قصتي مع السلاح، الذي تخليت عنه طويلاً…

من الفخر إلى العار… ومن الذل إلى النار…

هل تذكر أول مرة تعرفت بها عليك… أنا أذكر.

أذكر مرة وكنت آمر السجن الحربي.. ذلك السجن الذي لا توجد فيه أيّ علامة من علامات الرحمة أو الحياة… أكثر ما يشبه، هو معمل سلخ الدجاج ونتفه…

في البداية..

كنت مسجوناً بتهمة مخالفة الأوامر في قطعتي العسكرية.. هه كنت شاباً صغيراً.

لكن…

في ذلك الصباح وكنت لم أكمل أسبوعي الأول فيه. أتت برقية مستعجلة من العاصمة تفيد بتنفيذ حكم الإعدام باثنين من النزلاء.. كما كنّا نسميهم… وكأننا في فندق…هه.

وبعد استعلامي واطلاعي على الموضوع اكتشفت بأنهم من مثقفي الانقلاب الأخير.. أو كما يحبون أن يطلقوا على أنفسهم، مثقفي الثورة..

كان يجب علينا متابعة التنفيذ مع بزوغ فجر اليوم الجديد.. لم أكن قد مررت بمثل هذه التجربة.. ذات التفاصيل المنهكة.. كنت أظن أن الإعدام هو إعدام وفقط إعدام… تضع الرّجل ومن ثم تطلق الرصاص على رأسه..

ولكن الموضوع كان مختلفاً تماماً.. هذا ما أعلمني به أحد الزملاء ضاحكاً، قال: بأنني سأعتاد على الفكرة بعد فترة وجيزة.

كان الرجل الخمسيني المحكوم بالموت يجلس بهدوء في المهجع، يشرب الشاي بهدوء غريب، متربعاً علي الأرض بكنزته الصوفية الزيتية التي أعطاه إياها أحد السجانين، في ليلة من ليالي البرد القارص.

جميع من في المهجع كانوا متكدّسين في الزاوية المقابلة له، في رهبة فظيعة من تواجد رجل سيلاقي ملك الموت بعد ساعات، كنا نترقّب دخول الضابط وإخباره بأن التنفيذ سيتم فجر اليوم.

وبعد عدة ساعات تململ البعض من الصمت فقال أحدهم… أريد أن أأكل… أنا جائع…

صمت الجميع، ثم نهره أكبرنا بالعمر.. اخرس.. ألا ترى الرجل، إنه في إعدام..

إنه في إعدام…

لطالما أفزعتني هذه الكلمة التي نطق بها أبو يافا…

الرجل في إعدام…

إنها تشبه كثيراً.. قولة.. الرجل في صلاة.. أو الرجل في خلوة…

بكل الأحوال.. توجب على الجميع الصمت لأكثر من عشر ساعات دون أكل أو نوم… كان تعاطفنا يتزايد.. كلما اقترب وقت الفجر.. حتى سمعنا من الشباك المرتفع صوت أذان الفجر مخترقاً الصحراء من القرى البعيدة…

a

حينها نهض الجميع حتى المسيحيون منا… وأقاموا الصلاة مع بعض… وكانت طبعاً المرة الأولى التي يتحول فيها المهجع إلى مسجد كامل..

أغلبنا لم يكن متماً لأصول وتفاصيل الصلاة ولكننا مضينا في التضامن حتى النهاية.. طالما كان هذا يشعره بالراحة..

بعد الصلاة بدأ البعض بالبكاء بصوت منخفض مما أزعج زعيم المهجع.

حتى نهض جابر العبس.. وكان اسم الرجل المحكوم… وابتسم في وجوهنا… ووزّع علينا ملابسه وحذاءه وقليلاً من النقود كانت معه.. مع بضعة كؤوس وشاي وسكر وغيرها من الأشياء اليومية التي كان يملكها..

كان نصيبي منها ورقة نقدية خصني بها سراً..

بعد قليل دخل إلى المهجع شاويشان يشبهان الضباع.. والشاويش هو مسجون يختاره السجانون لطباعه الخسيسة.. ليقوم بالخدمات الإدارية بين المساجين.. مقابل تسهيلات تقدمها إدارة السجن، مثل التنفس والحمام والتجول دون مراقبة قاسية..

دخل الشاويشان.. وقدما لجابر…وجبته الأخيرة… فروج مشوي.. مع البطاطا المهروسة.. مع بصلة بيضاء مقشرة وكأس كبير من العرق الأبيض..

نظر الشاويشان إلى جابر بهزء.. ومضيا…

فما كان من جابر إلا أن سحب الطعام إليه قائلا بهدوء:

لا تشتر العبد إلا والعصا معه     إن العبيد لأنجاس مناكيد.

كانت رائحة الطعام والعرق قد انتشرت في المهجع كله ودخلت في الأسرّة والوسائد والبسط والحرامات وأزكمت الأنوف وأسالت اللعاب… لم أفهم لمَ طلب جابر كأساً من العرق إلى جانب الطعام وقتها.. ولكنّ أحدهم شرح لي فيما بعد أنه كان بحاجة لشيء ما يهدئه في محنته..

كنا أربعين رجلاً على الأقل في المهجع.. وفي رواية أخرى ثلاثين، بينما كان الشاويش يعاملنا كعشرة.. وأنا متأكد أنه كان هو الكلب…

لكن الأرواح التي كانت مقيمة معنا كانت كثيرة جداً…

صور، صور، صور، تغطّي جميع الجدران.

فهنالك نساء عاريات لا تبردن معلقات على الجدران وبين الأسرة، وهنالك لاعبو كرة قدم لا يلعبون أبداً، ثابتون في حالة التصوير… وأيضاً ممثلات مصريات.. وكان أيضاً حنظلة.. و شجر كثير… صنوبر، وأرز، وجوز من الساحل وسرو من الداخل… زيتون من إدلب وحلب..

صيادون يرمون شباكهم.. ووجوه نساء تبكي…

وشجيرات ليمون ومشمش وتوت من ريف الشام.. وكروم كبيرة جداً من الجبل، وحقل واسع أمام سرير عبدالله من حوران.. هنالك نهر فرات وسدّ كبير عليه، وخط أزرق آخر عليه دواليب مسننة وأمامها رجل يضحك، أخبرني من رسمها أنه نهر العاصي يمر من أمام رجل حمصي في حماة.

كان المهجع مغلقاً كالكهف وجدرانه زاخرة برسوم بدائية رسمها أحد ما عبر هذا الزمان الطويل، رسوم بألوان من بقايا القهوة الجافة وبقايا الخضار والطبخ، ربما نحن من رسمناها… نحن أهل الكهف… يا إلهي، كم لبثنا…لا أحد يدري.

 وجوه النزلاء جميعاً كانت ترمق جابر وهو يأكل بصمت، كان هدوؤه مستفزاً بشكل كبير جعل الجميع يرغب بالانقضاض معه على الطائر المشوي بنيّ اللون.. وكأنهم يتفرجون على فيلم في السينما.

لكنه لم ينطق بالكلمة المعتادة في السجن: تفضلوا شباب.

لم يكن يريد أن يشاركه أحد في وجبته الأخيرة على غير عادته.

أكل جابر الدجاجة المشوية ونهش البصلة ثم ارتشف آخر قطرة من كأسه الأبيض.

 نظر إلى الشاويش، الذي حمل الصينية بهدوء وخرج.

أشعل جابر سيجارته الأخيرة.. وبعد النفس الثالث.. دخل ضابط برتب عسكرية.. ومعه ثلة من العساكر.. قيدوا يديه.. وأخذوه..

وعند باب المهجع التفت إلينا جابر قائلاً: يا الله.. السلام عليكم.. استروا ما شفتو منّا…

ردّ الجميع بصوت واحد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

وبعدها أغلق الباب. أطفئت الأنوار وطلب مِنا النوم…

b

وما إن استلقيت على ظهري في فراشي في الطابق الثالث، حتى سمعت نشيجاً ضعيفاً لصوت أحدهم يبكي في السرير المقابل، صمتّ قليلاً ثم وجدت وجهي المحتقن يفيض بالبكاء والنحيب..

 كانت رائحة المهجع تعبق برائحة الفروج والعرق والبصل، وربما كانت رائحة البصل القوية هي التي جعلت أعين جميع من في المهجع تدمع..

 كان الجميع منقسماً في المشاعر بين الحسد والرغبة في وجبة جابر الرائعة التي لم نكن نحلم بها حيث كان جلّ طعامنا من البطاطا المسلوقة والرز البني والخبز القديم، وبين مصيره المكتوب والذي سوف يلاقيه بعد هنيهة…

كانت تلك الرعشة الأخيرة لجابر.

خرج جابر، وسيق إلى القبو… حيث يتم تنفيذ هكذا مهمات، أغمضت عيناه بقطعة قماش سوداء، وأوقف قرب جدار إسمنتي عار أسندت عليه بضعة أكياس من الرمل.

اصطف في مواجهته خمسة جنود مسلحين ببنادق آلية، منتظرين تنفيذ حكم الإعدام، حيث أنه سيعدم في سجن عسكري صحراوي، لا مكان فيه للمشانق.. رغم أنه مدني مسجون بتهم سياسية..

خلف صف الجند، وقف آمر السجن ورجل دين وثلة من ضباط الصف، وشاويش أو اثنان ليقوما بالتنظيف.

اقترب صف ضابط من الرماة وأعطى لكل رام رصاصة.. كانوا خمسة.. رصاصة واحدة من الخمسة حقيقية أما البقية فهي خلبية أي أنها تصدر صوتاً فقط.

جمع صف الضابط، كفيه ورج الرصاصات، كمن يرج أحجار النرد ليرميها في لعبة قمار.. سحب كل رام منهم رصاصة ووضعها في بيت نار بندقيته.

 

كانت لعبة قمار حقيرة، الفائز فيها لن يربح إلا دماً في رقبته، وفوزه هذا سيحوّل أحلامه لبقية حياته إلى كوابيس سوداء لا يدركها الآن.

وانتظر.

أعطي الأمر بالإطلاق.

صدحت البنادق الخمس بالنار، سقط جابر بعد أن تلطخ جيب قميصه الأبيض ببقعة حمراء قرب القلب.

ولم يدرك أيّ من الرماة من ارتكب تلك الجريمة، أو من قتل جابر في ذلك الصباح الصحراوي البارد.

ولكنهم جميعاً شعروا بالانقباض، من أجل جابر…

شعر الخمسة بأنهم قتلوا أحداً ما… ولكنهم لم يدركوا من فعلها.. بل ظلوا متأرجحين بين فكرتي أنا، أو ربما لست أنا…

وحدها الحقيقة كانت، أن جابراً سقط قتيلاً من رصاصة لم يعرف أحد من أطلقها.

حينما سمعنا صوت طلق ناري… أدركنا حينها أن جابر انتهى.. وأدركنا أيضاً أن بصلته الأخيرة ليست هي التي أسالت دموعنا جميعاً..

بينما كان صهيل الحصان يهدر من بعيد عبر السهوب الصفراء ليدخل من الشباك العالي إلى أذني.. دون أن أستطيع أن أمحوه من ذاكرتي..

(يتنحنح الحصان على الخشبة قليلاً، بينما يتقدم الرجل منه رابتاً على رأسه، يتجه إلى الزاوية ويستل باقة من العشب الأصفر ويقدمها للحصان الذي يلوكها بهدوء وصمت).

الرجل:

يسألني العديد من الأصدقاء: لمَ لا تقدّم لحصانك المفضل عشباً أخضر؟

فأجيب بسخرية: إنّ من يرفع سقف عطائه لمن يعتمد عليه، لن يعود قادراً على التراجع عن هذه العطاءات….

(يتجه إلى الجمهور وهو يداعب أسفل ذقن الحصان..)

أليس فاتناً.. انظروا إليه!

إنه من سلالة عربية أصيلة… عربي أصلي… مسجل وليس له مثيل بين باقي الخيول المهجّنة والتي لا ندرك أصلها من أين…

هذا هو الحصان العربي… حصان سوري… بامتياز…

حصان خاض معي مواقف مشرّفة، وأنا متأكد من أن أجداده من الخيول هم ممّن حملوا الفاتحين العظام، من الأبطال، صلاح الدين والظاهر بيبرس ونورالدين وسيف الدولة وغيرهم…

أنا لم أنتقه بالصدفة.. وأكاد أجزم لكم… هو من اختارني!

هههه

الرجل: هل تودّون معرفة قصتي معه؟

c

حسناً.. وبالعودة إلى السجن الحربي في بادية الشام. وحينما كنت في السجن… كان صوت الخيل المتحفزة يأتيني يومياً من الشباك الصغير العالي مع فجر كل يوم جديد.

وكنت أستأنس بشدة بصوته، فقد كان يجدد لي إيماني بالخروج.. وحينما كان صوته يتأخر، كنت أشعر بالقلق، لدرجة أنني بتّ لا أنام حتى أسمع صوته…

فالسجن مكان رهيب، مكان مقزّز وخصوصاً سجن العسكريين والسياسيين.

حيث لا حقّ لك.. ولا وجود.. فأنت كافر وملحد وزنديق، وخائن وعميل ومجرم وإرهابي.. بحقّ الربّ والقائد والدولة.

وكنت لا أطيق مثل هذه الحياة.

كنت مستعدّاً لأن أفعل أي شيء حتى أحسّن من حياتي في هذا المكان القذر.. حيث الجميع يهينك، ويركلك من يشاء، شرابك وطعامك وحمامك وتنفسك وكل شيء هو رهن السجان ومزاجه.

أو رهن الشاويش النذل الذي يحاول على الدوام اقتناص طعامك أو لباسك إن كان جديداً، ومصادرة كل ما يرسله لك أهلك إن أعجبه.

في إحدى المرّات أرسلت لي العجوز أمّي، التي كُنت طوال عمري عكازاً لها في مرضها الطويل الذي أصابها في قدمها… أرسلت لي طبقاً كبيراً من الحلويات الحلبية البلدي.. من صنعها، وهذا كان إبداعها الحقيقي في الحياة.. صنع الحلوى…

تصادف الأمر أن ذلك الضبع كان مغرماً بالسكريات، بل إن نوبات من الرجفان كانت تصيبه إن شاهد ولو صورة لحلويات شهية… فما كان منه حينما سمع بخبر طبق الحلوى، إلا أن اندفع نحوي في التنفس ودفعني جانباً إلى الحائط الإسمنتي، مهددا بأنه سيحوّل حياتي إلى جحيم إن لم أقدّم له نصف الطبق…

حينها ابتسمت، حيث أنني أدرك معنى مقاومتي له… وبعد أن التهم النصف، هرع إليّ في العنبر ودفع الباب ونهش ما تبقى من الطبق بينما كنت وزملائي ننظر إليه بدهشة فائقة..

بعدها نهض على قدميه والدم الأحمر يتدفق في وجهه مجدداً قائلاً: يبدو أن الوالدة جميلة حتى تصنع مثل هذه المأكولات العسل…

نظر إليّ الجميع، بينما كنت قد اتخذت قراري برد الصاع صاعين وباستغلال نقطة ضعفه.. وأقسمت بأن أحل محله وأرميه مجدداً في القمامة من حيث أتى.

وهكذا وبعد مراقبة طويلة بصحبة زميلي أدهم.. استطعنا السطو على مستوصف السجن..

وسرقة عبوات أنسولين أخفيتها بسهولة في بنطالي…

وبتّ أسكب قطرات منها في كل كأس شاي أقدمها له، أو فنجان قهوة، أو حتى كأس متة..

وهكذا تحول المسكين إلى مدمن سكّر صناعي حقير، يعشق الشاي الذي أصنعه.

حينها اتخذت قراري بالضرب، فقمت بدعوته إلى إبريق من الشاي في ردهة التنفس كنت قد وضعت فيه علبتين كاملتين من الأنسولين.

نقل بعدها إلى المشفى.. مصاباً بمرض السكري، بعد أن توقف بنكرياسه عن صنع الأنسولين الطبيعي.

حينها قدمت نفسي إلى النقيب على أنني، أفضل من يخلفه في مرتبة الشاويش.. فأنا أعلم تفاصيل المهجع، وأعرف جميع المساجين وقصصهم واحتياجاتهم.

و الأهم أنني أنفذ الأوامر بحذافيرها.

ابتسم النقيب.. وتفرس ملياً في وجهي.. تأملني من أخمص قدمي إلى رأسي.. أزاح وجهه..

 ثم نظر إليّ…

صفعني…

بصق في وجهي…

فابتسمت… حينها قال: اتفقنا. أنت الشاويش الجديد.

في تلك اللحظة التاريخية في حياتي كادت خلاياي تنفجر من فرط السعادة.. كنت أشعر بالغبطة والامتنان والسعادة بشكل لا يوصف.

على الرغم من معرفتي الجيدة باحتقار أصدقائي لي.

لكنّي كنت أدرك أنّني قد حققت أول انتصار حقيقي لإراداتي.

إرادتي التي كانت ترفض أن أكون مقموعاً وتفضّل أن أكون من القامعين… ولو بشكل جزئي… فكلّ مقموع هنالك من يقمعه، وكل قامع هنالك من هو أقوى منه ويقوم بقمعه… هكذا هي حياتنا…

بكلّ الأحوال وضعت الشارة القماشية على كتفي، وانطلقت في مهمتي الجديدة… مسجون برتبة شاويش..

كنت أدخل المهاجع، أضربُ من يُطلب منّي أن أضربه، وأفتش من يُطلب مني أن أفتشه.. وكنت أفعل ذلك بالطريقة التي يحبها الحراس.. أي بالطريقة القذرة. حتى يصبّ المساجين سخطهم علينا نحن الشاويشية. ويبقى السجّانون هم العطوفون الرحماء.

تحسّن مستواي المعيشي، كان طعامي أفضل، أنتقي لنفسي ما أريد وأرمي بما تعافه نفسي لبقية السجناء.

أختار أجمل قطعة من ثياب المساجين… وأرغمه على خلعها… وأصادرها.

لم يكن أحد يقف في وجهي.. فسلاح الطعام والتنزّه ووقت دخول المرحاض… كان فعالاً وقاطعاً بتاراً..

فمن يعاندني.. كنت أمنحه زمناً للتغوط لا يزيد عن ثلاثين ثانية… ثم أقتحم عليه خلوته وهو في وضعه المشين، غارقاً بقذارته.. وأنهال عليه بالرفس حتى يخرج على النزلاء بقذارته هذه.. مطأطأ الرأس، مهاناً وذليلاً.

فأحصل على ما أريده بدقائق…

d

لكن أجمل تلك القصص.. كانت قصص الشاويش مدمن السكر.. الضبع المسكين.. الذي انهار صحياً بعد عودته من المصح.

كان كالكلب الصغير المصاب بالسكر.. عاد سجيناً ضعيفاً يمضي في آخر القطيع.. وكلنا يعلم أن ذيل القطيع هو أضعفه..

أتاني.. متودداً، مذكراً إياي بأيامنا كأصدقاء من الماضي…

طلب مني أن آتيه بالحلويات ليشبع نهمه المرضي.. أو إدمانه على السكريات الشره.. وكانت تلك سقطته…

أمددته بما يلزمه من السكريات.. مقابل أن يتحول إلى مخبر صغير ينقل لي كل أخبار المهاجع، وكنت أنا طبعاً المخبر الكبير الذي ينقل بدوره هذه الأخبار إلى السجانين.

وتقدمت الأيام.. وكنت أقدم له السكر في راحة يدي وأطلب منه أن ينحني ويقوم بلحس السكر من باطن يدي.. كما الكلب تماماً.

وكان يفعل بنهم.

(يقترب من الحصان، ويمد يده إلى جيبه يخرج قليلاً من السكر ويطعم الحصان الذي يأخذها من راحة يده بسكون).

إيه كانت أياماً قاسية..

ومضت الأيام وصدر عفو عام من القائد العام للجيش والقوات المسلحة.

ووقفنا جميعاً نحن المعفوّ عنا في ساحة السجن وأنشدنا بفخر قصائد الشكر وأغنيات الوطن الغالية شكراً للقائد.

وخرجت من السجن الحربي مساعداً أول سابقاً، ممرضاً بيطرياً لم يكمل دراسته… ذا إحساس عال بالتفوق..

فلم يكن مني إلا أن ذهبت إلى أحد معارفي ممن يقومون بالواسطة.. وطلبت منه تجنيدي في القوى الأمنية.. على أني صاحب سجل متميز في إطاعة الأوامر.

وهذا ما تم..

أعطوني مسدساً.. وكُلّفت بحراسة الباب الخلفي للمفرزة…

أحسست حينها بقوة لا حدود لها، كنت مسلّحاً بقوة كنت قد أدمنت عليها، ولم أعد أستطيع العيش دونها، قوة تشبه قوة الشاويش على المساجين…

كنت أستطيع إطلاق النار على من أشاء، وتلفيق تهمة له، أن أركب الباص مجاناً، وأن أتجاوز طوابير الخبز والمؤسّسات الاستهلاكية وطوابير الغاز وغيرها من تعاملات الدولة بسهولة ودون عناء يذكر.

لا شرطي يوقفني، ولا مخالفة تسجل عليّ، تكفي الكلمة السحرية التي أهمس له بها في أذن من يوقفني: أنا زميلك..

حتى تتفتح الأبواب أمامي كما لو أنّي علي بابا… بكلمته السرية..

***

كنت في تلك الفترة مترعاً بالملذات… من نساء وسهرات بسيطة وكحول وغيره..

لا أعود إلى غرفتي في العشوائيات إلا كل أربعة أو خمسة أيام.

وكانت متطلباتي تزداد…

كنت أريد الفتاة الأجمل وأن أسهر في الكازينو الأغلى…. وأن أشرب الويسكي بدل العرق…

وكان طموحي يزداد بقوة لا يحدها شيء… وكنت أدرك سبيلي للصعود…

في يوم من الأيام.. ذهبنا في زيارة إلى بيت معلمنا الصيفي في إحدى ضواحي المدينة..

كان يريد أن يولم للضباط على شرف نجاح ابنه البكر في الثانوية العامة.. جلس الجميع في الداخل وأولموا لنا خارجاً على طاولة كبيرة.

ذهبنا واستمتعنا كثيراً بالطعام والشراب واللعب وأطلقنا رصاصاً يكفي لتحرير مدينة على زجاجات البيرة الفارغة…

وفي قمة نشوتي وحزني على نفسي… سمعته… سمعت الصوت، ذاته الذي كان يذيب قلبي حنواً..

هرولت إلى خلف بيت صغير ينام به الحارس، وإذا بفناء رملي ضخم تسرح فيه خيول رائعة الجمال، تصهل بعنف شديد..

وقفت أمامها أبكي من جمالها، كان لوقفتها وكبوتها وعدوها سحر لا يقاوم…

في تلك اللحظة بالذات اتخذت قراري بأن أكون سائس خيل وبأن أقتني حبيبي وصديق عمري هذا…

(يمسح ظهر حصانه بحبّ).

وبدأت بالصّعود والترقّي، كان المفتاح واضحاً…كلما ازددتَ قسوة وسفالة، ارتفعتَ ورضي عنك رؤساؤك.

كنت أعتقل العائلة بدل أن أعتقل المطلوب فقط.

 أدمر البيت بدل أن أفتّشه بحثاً عن المنشورات.

أنتزع اعترافات لأشياء لم تحدث من أشخاص أحقق معهم.

أرهب الجميع داخل وخارج الفرع.

حتى أصبحت ألقب بالشيخ..

كانوا يوكلون إليّ أصعب المهمات حينما يعجز عنها الأقوى فيهم..

أعلق الطلاب على بساط الريح.. أضع العجائز في دولاب الحظ… وأجدل الكابلات الرباعية بكل حب وأناقة قبل أيّ حفلة من حفلات التسلية بأولئك الذين كانوا يستمعون إلى هراء وأغاني مرسيل خليفة وسميح شقير…

لم أستخدم طوال هذه الفترة طفايات السجائر.. كانت أجساد الفتيات تمتصّ جمرات سجائري..

أعلق ملقط الكابلات الكهربائية كأيّ كهربائي حقير، ولكن ليس لأنتزع مسماراً أو برغياً، بل لانتزع أظافر الأوغاد أعداء الوطن الأغبياء.

ولكن حالتي المادية لم تتحسّن، كانت غرفتي في الضواحي، تحتوي على حوش كبير في الخلف…كنت أجهزه لأضع فيه حيواني المفضل، باهظ الثمن، ولكني كنت غير قادر على شرائه، بالرغم من أني بدأت أنتزع غرامات مالية من أهالي الموقوفين… ثمناً لزيارة أو تحية أو مكالمة هاتفية.

حتى حانت لحظة الحقيقة….

أتاني أحد المزارعين وكانت ابنته موقوفة لدينا، عرض عليّ كل شيء أريده مقابل أن أطلق سراحها.. كان يظنني الآمر الناهي في الفرع.. لم أعترض على الموضوع، ولكنني كنت بلا حول تجاهه… صرفته بعد أن هززت رأسي هزة العارف القادر.

راجعت ملفها بدقة، ولحسن الحظ كانت موقوفة بتهم كبيرة لم تفعلها ولكن تشابه الأسماء هو ما أوقع بها..

طرت من السعادة، اتصلت به بعد يومين، وأخبرته بأن قضية ابنتك خطيرة، وأنها ستمكث طويلاً لدينا لأجل غير مسمّى، ولكنني سأحاول أن أفعل شيئاً.

حدثني بعد يومين، فعرضت عليه عرضي التاريخي.

إنني أستطيع إخراجها بشكل غير قانوني، ولكن الموضوع بحاجة إلى جهد كبير ومخاطرة مني.

انفرجت أسارير الرجل وانهال عليّ بالشكر والمديح وعرض عليّ كل ما يملك جزاءً لإحساني.

فقلت له: لا أريد منك شيئاً، فقط أريد حصاناً عربياً أصيلاً. فقط.

بعد أيام أطلقت الفتاة…

واستقبلت صديقي الرائع هذا.

في البداية استلمته منه في الشارع، جاء به بشاحنة وأنزله أمام الناس جميعها… كانت طقطقات حوافره على الأرض الصلبة تجعلني أترنح كالمخمور…

أمسكت برسنه ومضيت به إلى المنزل أمام دهشة الناس واستغرابهم، الأطفال كانوا يهللون.. والنساء تبتسم.. أدخلته إلى الفناء الخلفي من المنزل بعد أن رفعت سقفاً قماشياً لحمايته من الشمس.

وهكذا بدأت قصة العشق الإلهي بيني وبينه، كنت أشعر بشعور غريب حينما أمتطيه.. واقفاً دون حراك.. وللحظات ينتابني شعور غريب بأنني فارس من فرسان العرب الفاتحين، وتارة ينتابني شعور بأنني خيّال أتقافز بالحصان فوق الحواجز والأسوار.. أحياناً كنت أنتبه لنفسي بأنّني لا أتحرّك من مكاني وبأن الحصان بدأ يشعر بالملل..

ومرت الأيام، وكان لوجه الحصان هذا فأل حسن عليّ.. أصبحت لا أدرك ولا أعلم شيئاً عن حياتي سوى العمل والحصان..

أصبح مثل زوجتي..

أغرق في العمل طوال النهار وأعود إليه كي أجده منتظراً إيّاي…

ينتظرني بكل حب ووفاء.. ورويداً رويداً بدأت بتحويل الحوش الذي وضعته فيه إلى غرفة واسعة وكبيرة… بنيت له سقفاً وجدراناً.. ثم عملت على تدفئتها.. وعزلها عن أصوات الجيران والخارج القبيح.. ثم وضعت لنفسي كرسياً مريحاً جداً كي أتأمله يومياً بهدوء شديد.

من ناحية الطعام كنت أملأ الحوض له بما يكفيه، كي لا يفسد.

وأما الماء فكانت مما اشرب والله شهيد على ما أقول..

ومع مرور الأيّام أحضرت لنفسي وسائد وعلّقت بعض اللوحات، وكي لا نشعر بالملل أنا وهو أحضرت لنا التلفاز أيضاً، مع قليل من العرق الأبيض والمازة.. كانت السهرة عظيمة مع حبيبي.

هو يأكل من طعامه، وأنا أتابع الأخبار والمسلسلات، يا الله كم أعشق المسلسلات.. كنت أحفظ الممثلين واحداً واحد.. وأحفظ الأدوار غيباً.. وخاصةً التاريخية منها.. أصرخ له: هي انظر إلى الفرسان والقادة.. هؤلاء أجدادك وهؤلاء أجدادي… نحن تاريخياً مرتبطون.. انظر..! ألا يشبهاننا.. الحصان والفارس.. انظر..

وأهرع إليه وأمتطي ظهره ونبدأً بالغناء والرقص.

g

 المسلسلات كانت طعامنا اليومي، أفيوننا ضد الملل وقتل الوقت، كانت سهرات رائعة.. الوقت فيها يمضي بلا إدراك، لم نكن ننام، وحين يدركنا التعب أرتمي من فوق ظهره إلى الأرض بينما هو يقف فوق رأسي يحرس غفوتي وسهوتي..

في أيام الجمع كنت أمنحه أجمل حمام، مع وجبة إضافية.

ولكن ما كان ينغّص علينا حياتنا، كان العمل.

كنت أضطر مجبراً إلى تركه والذهاب إلى الفرع في كل صباح، من دون توقف.

لم أكن بقادر على التهرب أو التذمر.. سهراتنا الطويلة كانت تنهكني وتجعلني أستشيط غضباً من الذهاب ومقابلة المجرمين والإرهابيين وخونة الوطن.

أستلم تكليفي من معلمي في الفرع وأدخل إلى غرفة التحقيق التي رفعوني إليها..

أدخل وأنا أعلم أنني تركت عائلتي في البيت وحيدة..

أدخل وأنا أعلم أن هؤلاء الخونة هم سبب إبعادي عن صديقي الوحيد في هذا العالم البارد.

أدخل عليهم وأنا أدرك أني كلما بادرت إلى استخلاص الاعترافات والخيانات. استطعت العودة إلى بيتنا أسرع.

أدخل والغضب يستشيط من ذقني المحلوقة بسرعة كبيرة، والمليئة بالجروح والندوب.

أدخل وأبدأ بالركل والصفع والضرب والدعس.

أدخل وأنا أتخيل حصاني يشعر بالملل، فأعاود تمزيق الملابس والصلب والفلق والتعليق على الحائط. أستخدم بساط الريح والكرسي الألماني، زند الحديد، والكابل الرباعي.

لم يكن أحد يردعني عمّا أفعل..

الأصوات كانت تملأ الفرع بأكمله، رفاقي المحققون هالتهم سرعتي في انتزاع الاعترافات.

والخونة أصبحوا يلقبونني بالسفاح. وسرعان ما وصلت شهرتي إلى أعلى المراتب.

حينما أعبر دهليز الغرف، كانت الابتسامات والرؤوس المنكّسة هي كل ما يقابلني.

صرت لا أحقق إلا مع الحالات المستعصية، أو الخونة العنيدين.

أطلقت شاربي الأسود ليزيد هيبتي، ولم أعد أرتدي سوى ملابس سوداء.. كان شكلي مع الحذاء العسكري وأنا أمتطي حصاني يحتاج حقيقة إلى صورة.

دخلت مرة إلى غرفتي في القبو، كانت غرفة متوسطة الحجم، فيها مكتب فارغ السطح وخزانة ملفات عليها قفل كبير مفتاحه معي، وعلى الجدار الإسمنتي الرمادي هنالك صورة غابة كبيرة خضراء بأفق بعيد ملصقة على كامل الجدار.. كانت تجمّل المكان قليلاً…

في المنتصف وعلى الكرسي الخشبي الأصفر، هنالك شاب أسمر بأنف كبير، معصوب العينين بعصابة سوداء تغطي عينيه وجزءا من جبينه وجزءا من أنفه الضخم.

نظرت إليه، ثم جلست على المكتب، قرأت ملفه بسرعة. المطلوب انتزاع اعتراف بتعامله مع قنوات غرضها التضليل الإعلامي وتشويه الأمة وبث أخبار توهنها، إضافة إلى إضعاف هيبة الدولة.

حالة الضبط كانت تصويره لمخربين يكسرون تمثالاً لفارس على حصانه يمثل القائد.. في محافظة بعيدة.

هه

ابن الزانية: كنت تصوّر تكسير تمثال لفرسان البلد!

ولكمته على رأسه بزند الحديد فنفرت الدماء من صدغه على الفور.

ضغطت على زر الحاجب.. فدخلوا وأخذوه إلى الطبيب.

في اليوم التالي أعادوه لي.. قلت له أنت لا تعرفني، ولكنني أقول لك كلمتين: إما أن تعترف بتهمتك أو أنك ستعترف، لأنه لا خيار لديك معي فأنت ستعترف في النهاية… صدقني.

قال: على العكس أنا أعرفك..! أنت السفاح.. وأنا جاهز لنزالك.

أنا من صوّر سقوط الفارس وأنا من شجّع على ذلك أيضاً.

إذن أنت تعترف؟

أجل!

حسناً فعلت.. وفّرت على نفسك وعليّ جهداً كبيراً.. ولأنك فعلت هذا ستمنحني فرصة العودة باكراً إلى المنزل فحصاني وحيد في هذا البرد..

عدت إلى خلف المكتب لأضغط على زر الحاجب كي يأتيني بمحضر الاعتراف ليوقع عليه، وإذ به يردف قائلاً..

أتعلم لم أعترفت بهذه السرعة؟

حتما ليس لأني خائف منك.

أو من سمعتك.

بل لأن أحداً ما في الزنزانة قال لي بأنك تهوى الخيل، فقلت في نفسي، أنا من أسقطت راكب الحصان في الساحة، زعيمك، أنا من بطحته أرضاً، حريّ بي أن أسقطه تحت الأرض أيضاً.. فأنا لن أوقّع على محضرك السخيف.

فما كان مني إلا أن قلبت المكتب على الأرض واندفعت بكل جنون جسمي نحو ما تبقى من وجهه وانهلت عليه باللكمات والضرب والرفس والشتم، سحقت وجهه تحت حذائي العسكري. بصقت عليه، ثم علقته من يديه مكبلاً من السقف.

وأنا أزفر كالثور: تريد تكسير رأسي؟.

أنا من سيجعلك توقع بدمك على المحضر!

تريد إسقاط راكب الحصان يا حشرة.. الخيل شرفنا يا كلب، الخيل شرف الفرسان يا جاهل.

حينها رفع رأسه قائلاً: هل تعلم أن الحصان هو الحيوان الوحيد الذي يمارس الشذوذ، يا صاحب الشرف.

ضربته بالهراوة ضربةً على رأسه قذفت الدم على وجهي بالكامل، وصرختُ: خذوه بعدها بعيداً عني.

***

تهاويت على المكتب كجيفة مرمية من التعب والتفكير.

ما قاله هذا الحيوان التافه.. هزّني من الداخل.. هز مسلّماتي وأسس تفكيري.

لكنني بسرعة لملمت أفكاري وأشيائي وعدت إلى البيت، فهنالك من ينتظرني.

أنا أجزم بأنني وقعت في غرام هذا الحصان… كانت الساعات الطويلة التي قضيتها وأقضيها معه لا تروي عطشي له..

أحببته لدرجة أني لم أستطع أن أتخيله يتزوج وينجب… لدرجة جعلته عدوانياً مع كل شخص يأتي لزيارته في مزرعتي الجديدة المتواضعة في أحياء العشوائيات… كان يقفز عليه بقدمين فقط، بصوت زاجر غريب لم أسمعه من قبل.. وكنت مصراً رغم تحذيرات الملمين بالموضوع…

رفعت سور الحظيرة الخارجي عالياً، لم أكن أتحمل فكرة هروبه أو سرقته… أو حتى ملامسة أيّ أحد له دون علمي…فهو حصاني أنا.. وأنا فقط من يمتطيه..

جلست على كرسيّي الوثير، وضعت أمامي إبريقاً من العرق الأبيض، ونظرتُ إليه بعمق.

كان متململاً أيضاً، طلب مني قليلاً من الماء والموسيقى الهادئة كي أهدئ نفسي… فتحت التلفاز على المحطة الوطنية… كانت المحطة تبث حفلاً من دار الأوبرا بمناسبة العيد الوطني. كان حفلاً مملاً لكنها الموسيقى الوحيدة لديّ.

بيانو على ما أعتقد..

وبعد أن التهمت سيجارتين وكأس عرق.

طلب مني الحصان أن أنهض وأغسله بالماء الدافئ…

(مقلداً الحصان): انهض، كفاك خمولاً، أريد حماماً ساخناً.

ابتسمت فقد كنت لتوي أريد أن أعرض عليه هذا.

أحضرت الفرشاة وسطل الماء الساخن وبدأت بفرك جسده بالصابون الأبيض ذي الرغوة.

كان يتنحنح من الرضا.

ابتسم وبانت أسنانه البيضاء، فأردف طالباً الاهتمام بالظهر وأعلى الرقبة.

نفذت ما طلب على إيقاع موسيقى البيانو التي أصبحت إيقاعية أكثر.

كان يتنحنح بين الفينة والأخرى طالباً التركيز على نقطة معينة،

 فجأة انقطعت الكهرباء، وضعت كأس العرق إلى جانبي وبدأت أغنّي له موالاً رائعاً، لكنني لا أجزم أنه صرخ: أوف.. أووف يا با.

أم كنت أنا من صرخ.. فهو لا يقدّر الفنون لهذه الدرجة.

وما أن انتهيت من الحمام، حتى جلبت منشفته الضخمة وبدأت بتجفيفه بسرعة فقد عاجلته عطسة بداية الزكام..

حينها أدركت أنني أيضاً مبتل بالكامل، خلعت ثيابي على الفور.. ورميتها إلى جانب الجدار.

لم أشعر بالخجل منه، كان صديقي الحميم ولا حرج بين الأصدقاء.

وقفت عارياً أمسح ظهره بقماشة الخيش خاصته.

لكن شعر رقبته العلوي كان بعيدا عن متناول يدي.. صعدت على ظهره أتابع التجفيف.

كانت الدوخة تغالبني في تلك اللحظة، فهو عال كما تشاهدون.

لوهلة شعرت بنفسي أنزلق عن ظهره ولوهلة أخرى شعرت بجسدي مستثاراً بالكامل.. كان جسده طرياً ورائحته عطرة وهو يبتسم بلؤم تجاهي.

لم أفهم تلك البسمة، لكنني في النهاية وجدت نفسي أداعبه، لم يتذمر، كان الظلام التام قد أدرك وجهه، فلم أعد أره. لم أكن أشعر إلا بجسده ينبض.. كان ذلك يدفعني نحوه.. ثم يردني.. لكني لم أعد أذكر شيئاً.

ارتميت أرضاً بين قدميه في غيبوبة كاملة حتى اليوم التالي.

***

e

هل تعلمون يا أصدقاء ما هي المتعة الكبيرة في امتطاء الخيل…

إن ركوب الخيل يشابه النشوة الكبيرة في امتطاء الريح… في اقتحام الأماكن بقوة الجمال… بقوة اللطف…

الحصان مخلوق غريب… فهو يتآلف مع صاحبه بشكل كبير ولا يرضى بعد ذلك أن يقربه سوى صاحبه الذي روّضه… هو لا يهتم بمن أنجبه أو بمن يطعمه، هو يدين بالكثير من الولاء لمن روّضه وكسر أنفه وامتطاه… وأسرجه وركب الحديد في فمه وفي قدميه.. مخلوق غريب… حتى يقول المجرّبون بأنه يزداد عشقاً لصاحبه حينما يضربه، أو يجلده مؤنباً.. ولا يقبل هذا الفعل من غيره… فيقاومه ويرميه عن ظهره..

كم أحبه من صديق.

(يقبله).

***

في اليوم التالي كنت مرمياً على أرض البيت، بينما كان خبر وفاة مخرج سينمائي شاب تحت التعذيب يملأ القنوات المغرضة..

وكان البيان من وزير الداخلية واضحاً ومقتضباً:

انه حادث فردي، والمسؤول عن هذه العملية عنصر شذّ عن القواعد، وحين داهمنا منزله لاعتقاله كي يقدم للمحاكمة.. أخرج مسدسه وأطلق الرصاص على نفسه، أمام عناصر دورية كاملة، برصاصة واحدة في الرأس.

هذا ما أخبرني به زميلي في الفرع على الهاتف.

***

بعد أن وصلني ذلك الأمر الرهيب.. بأني يجب عليّ أن أقضي على نفسي وإلا فإني سأنتحر برصاصتين…..

شعرت بشعور غريب ممزوج بين السعادة والحزن، هذه المكالمة الهاتفية لم تصدمني أبداً..

كنت وطوال مسيرة حياتي أتوقع دوماً نهاية فجائعية.. لهذه الطريق التي سلكتها.

بل وعلى العكس كانت نهايتي عن طريق حادث سيارة، أو مرض ما على السرير ستكون هي الغريبة فعلاً.

الحياة فعل ورد فعل.. هكذا كنت أسمع المثقفين يتكلمون في السجن الصحراوي البعيد.

وكنت مستعداً.

ليس من الآن.. بل من البداية، كانت قدرة التخلي لديّ كبيرة جداً.

كنت مستعداً للتخلي عن كل شيء امتلكته في عمري.

من النساء المتوفرة بحكم مهنتي، إلى البيوت المستباحة، والأشجار والسيارات والرفاهية كلها حتى الأسلحة.

إلا شيء واحد.

شيء واحد لم أكن أتخيل نفسي قادراً على التفكير بمصيره من بعدي.

هذا الحصان.

إنه ملكي أنا، خلق لأجلي أنا.. ومسألة تلاقينا كانت ضرباً من ضروب القدر لا أكثر.

امتزج دمي بدمه ولحمي بلحمه، وروحي بروحه.

لذا قررت…

(يخرج المسدس ويلقمه)

(الإضاءة تكشف الحصان تماماً لأول مرة، وهو يبدو مختلفاً عن بداية المسرحية، هزيلاً وشاحباً ومتسخاً ومنكس الرأس)

الحصان المصاب لا علاج له، وأفضل دواء له هو رصاصة في الرأس.

وأنت يا عزيزي مصاب.

أو على الأقل ستصاب.. من بعدي بأمراض من كلاب كثيرة ستمتطيك.. ستدّعي أنها ستعاملك برفق أكثر مني وستطعمك أفضل مني.. و ستجلدك ولن تشد الرسن في فمك.

لكنني أعلم أن مصيرنا واحد وهو ما تريده أنت، أليس كذلك؟

(يشد الرسن فيتنحنح الحصان)

أحسنت..

لذلك أنت ستقدر لي ما سأفعل..

(يصرخ): أليس كذلك؟

أجب؟

انطق؟

 

(الحصان لا يتحرك أبدأ)

أجب… (يجلده بالسوط، فيصهل الحصان صهلة عالية جداً رافعاً قدميه في الهواء).

ههه

يالله.. هذا هو بالضبط ما كنت أتمنى سماعه منك.. ذلك الصهيل العالي الذي كنت أسمعه من عشرات السنين في السجن، صهيل الحرية والسهوب المفتوحة.

صهيل الركض في البراري والريح تمشط شعرنا سوية… صهيلك هو حريتي.. أنا…

 حريتي حينما أتأكد أنك موافق على كل ما قلته، وأنك إلى صفي دوماً في كل قراراتي، حتى ولو كانت ضدك.

u

سأقول لك شيئاً:

أنت أفضل حصان امتطيته في عمري، مع أني لم أصعد على ظهر غيرك.

لكنني متأكد من أنك الأفضل، أنت الحصان العربي الأجمل والأعرق..

هذه الحياة لا تناسبنا أنا وأنت.. ولذلك سنرحل سوية..

(يخرج المسدس ويرفعه باتجاه رأس الحصان الذي يطأطئ للأسفل بصمت، يطلق النار على الحصان، يرتمي هو أرضاً من جراء الصوت، ويدفن رأسه بين يديه، الحصان لا يتحرك من مكانه أبداً، ولكنه في ثبات تام).

ينهض واقفاً على قدميه:

يا إلهي..! ماذا فعلت؟ لقد قتلته.. قتلت حبيبي..

اثبت.. يا رجل اثبت.

والآن جاء دورك… (مخاطباً نفسه)

(يرفع المسدس إلى رأسه، ترتجف يده أمام رأسه..)

لا أستطيع يا ربي، لا أستطيع.. الرصاص ليس خلبياً، والقاتل معروف، ولكن ليس هنالك من ندم من بعدي.

ربما استطعت عقد صفقة ما، أو ربما وجد أحد ما يعفو عني، لقد خدمتهم طويلاً ولديّ تاريخ طويل معهم، لا، أنا أعرف أسراراً أهددهم بها، أنا أستطيع أن أهدم كل شيء، عليّ وعلى أعدائي.. سأقاوم..

انهض.. انهض.. قاوم.. فأنت القويّ، حتى لو كنت الآن في موقف ضعيف.. أنت مجاهد مناضل، مقاوم، حاربت من أجل الوطن وأمن الوطن.. حاربت ضد هؤلاء الصعاليك، من أنتم، يا من تريدون سلبي شرف الفرسان المقاتلين، من أنتم، كي أختبئ منكم.. ما أنتم إلا مجموعة من الجرذان والفئران والجراثيم… حثالة المجتمع أنتم.. أين كنتم حينما سجنت وعذبت وكافحت وقاتلت وناضلت كي أصلَ إلى ما أنا عليه.

لقد حفرت طريقي من تحت الصخر، والآن أستطيع أن أكمل..

أنا من جعلكم يا كلاب تصبحون رجالاً لكي تواجهوني.. أنتم أغلاطي.. أنتم خرجتم من عباءتي…

أنا ربكم الأعلى فاعبدوني..

(نسمع طرقاً عنيفاً على الباب…)

(من الخارج): هي أنت!… افتح…!

الرجل: أنا ربكم الأعلى فاعبدوني.. أنا ملك الأرض ولو قدّر لي أن أحكم العالم لسيرته أحسن تسييرا..

لا تشتر العبد إلا والعصا معه…. إن العبيد لأنجاس مناكيد.

إعتام

(نسمع أصوات أحذية عسكرية تخطو على الأرض.. يعقبها التماع ضوء وصوت طلقتين في الصمت.. في ظلام الخشبة نسمع صوت صهيل حصان بعيد، مترافق مع هدير هائل لحشود تهتف من العمق )  الله، سوريا، حرية وبس.

إعتام

(صوت خارجي)

النهاية.