مواضيع للحوار

مفهوم الإيماءة ودلالاتها في التمثيل الصامت

مفهوم الإيماءة ودلالاتها في التمثيل الصامت

3379 مشاهدة

مفهوم الإيماءة ودلالاتها في التمثيل الصامت

#الدكتور _أحمد _محمد _عبد _الأمير

#المصدر موقع الخشبة

 #الإيماءة لدى الإنسان ، جزء أساسي من التواصل البشري القديم وتعدُّ الصورة المتشكلة لما نفكر فيه ، فهي لا توضح  مقاصدنا ونوايانا فحسب ، وإنما تصف مواقعنا كما تظهر للآخرين ، وانعكاساً لجذورنا ، ولثقافتنا ولموقعنا الوظيفي ، ولمشاعرنا أيضاً ( فالإيماءة هي الإنسان ) ([1]) . هي لغة حركة لجزء من أجزاء الجسد أو أكثر تحمل تعبيراً ما ، وتحوي دلالات معينة ، تشتغل آلياتها على تراكب عناصرها الداخلية لتوليد المعنى دون الإفصاح عنه تماماً ، إذ أنها تعتمد الإيحاء ، لها خصائص وسمات تنبثق من بناءها الداخلي ، تخضع لسلطة المرجع المتداول ، وتتوقف عند حدود القيم والأعراف والتقاليد .

الإيماءة كجزء من سلوك إنساني توالدت وتنامت وانتقلت من خلال غريزة إنسانية أخرى ، ألا وهي غريزة المحاكاة ( Imitation ) ، التي تدفع الذات إلى فهم الجوانب السلوكية الإيجابية وطرح السلبية منها ضمن المنظومة السلوكية والمعرفية لها ؛ فالمحاكاة طريقة أولية ومثلى في تعلم ونقل العديد من الجوانب السلوكية والأدائية واللغوية والثقافية … الخ . كما عدّها ( أرسطو ) وسيلة مثلى في التربية والتعليم ، فللأطفال قدرة فائقة على محاكاة تعابير الوجه منذ الشهر الأول للولادة . لذا يمكن أن نستنتج بأن الدلالة التطورية للمحاكاة دلالة تساعدنا في تمثيلنا للأنماط السلوكية الثقافية ، كما تساهم أيضاً في التواصل مع الأقران الآخرين . معتمدين في ذلك على مهارة الأداء في التعبير والإيحاء بأنماط تشكيلية عدة ، لهذا تصبح هذه اللغة الجسدية ( الإيماءة ) إحدى اللغات التي تؤسس المحاكاة دعائمها الأساس([2]) . دون أن تتحدد في تشكيل ما ، لذا فقد أصبحت ذات معانٍ متغيرة وفقاً للسياق الذي ترد فيه . إذن فغريزة المحاكاة تنمي وتنقل وتحيي الإيماءة .

        أنّ المحاكاة ليست بالضرورة أن تكون محاكاة لفعل أدائي خارجي – أي لفعل شخص آخر – بل يمكن أن تكون محاكاة لعالم الذات الداخلي ، فإنسان المجتمعات البدائية كان يستخدم اللغة الإيمائية قبل أن ينمي قدراته اللغوية اللفظية التواصلية ، لذا اتخذت غريزة المحاكاة طريقاً إيمائياً تخاطبياً من الداخل إلى الخارج . إذ يكتسب الإنسان وعيه بذاته من خلال اكتشافه لدواخله الدفينة بما فيها من صراعات ورغبات كما أنه يدخل في علاقات مع العالم الخارجي ، من خلالها تنشأ الحاجة لأن يبدل العالم أو ذاته أو طريقة التعامل معه ، وتتخذ هذه الحاجة أنماطاً أدائية مختلفة كانت اللغة الإيمائية أولى لبنات تشكلها ، حتى وصلت أخيراً إلى شكل من التعبير أضحى أساساً لفن قائم بذاته ([3]) ، هو فن التمثيل الصامت .

نرى نحن هنا أنَّ الإيماءة ما هي إلاّ أنماط حركية سلوكية تصور واقعاً ، تلتقي معها اللغة اللفظية نظراً لفاعلية الدوال الجمالية التي تحملها ، لذا فإنَّ وظيفة الإيماءة لا تُكّمن دلالاتها في إيصال المعنى فحسب ، بل في القيمة المعرفية التي تحملها في ذاتها أي بوصفها حاملاً يحمل طابعاً  ( جمالياً ، فنياً ، تعبيرياً ) ، إنها أقرب ما تكون برسالة تشترط قصدية الإرسال ، لذا فهي عادة ما تشتغل آلياتها حول الإفصاح والإجهار في توصيل ما هو غير مرئي ، على اعتبار أنه قضية وجدانية غير متداولة ، فيلجأ باث العلامة في هذه الحالة إلى تشكلات إيمائية نفسية مجردة من خلال التجربة الجسدية للحواس ، أما الوظائف الأخرى فهي رغبة باث الإيماءة في إعادة خلق عالم ومجتمع متخيل تكون للإيماءة فيها وظائف عدة ، منها وظيفة معرفية ، استكشافية تكشف عن هوية الذات الأخرى ، ووظيفة نزعوية ذاتية ، تكشف عن رغبات شخصية واشتقاقية ، وإضافية ، لا تفهم إلاّ عن طريق إضافة أو إجراء تعديلات داخلية فيها . وإيماءات علائقية محضة يرتبط المعنى الأول فيها بالمعنى الثاني ، عن طريق ارتباط بعضها ببعض أو أقل اصطلاحاً في العادة من الإيماءات الاجتماعية ، وبالتالي فإن صراحة تشفيرها أقل منها في الثانية ، إنها تشتغل في ظل تركيب معين فتنتقل من حركتها الجزئية في المجتمع إلى حركتها الكلية في العمل المسرحي الصامت لتبنى علاقاتها الخاصة . ومن هنا تتأتى تداوليتها ، أي من خلال اشتغالاتها التركيبية والذهنية العقلية معاً . كذلك إيماءات مقامية ، حتى يمكن من خلالها إيضاح طبيعة الشخصية العلمية أو الاجتماعية أو الثقافية . والإيماءات الوظيفية هي إيماءات تشخيصية أو تصويرية تستخدم في العروض الصامتة لتصوير البيئة المتخيلة من أبواب وشبابيك وأدوات.

يعرف علم الإيماءات بمعناه الواسع بأنه : علم يخص جميع القنوات غير اللفظية التي تصدر عن الجسم ، فالإيماءة هي حركة العين والأطراف ووضعية الجسد وحركاته المختلفة والمسافة بين المتحدثين ، نغمة الصوت وسرعته ( المايم الصوتي ) ، وحتى مدة الصمت .. ومهما يفعل الإنسان سواء تحرك أم لم يتحرك صمت أم لا ، فإن هناك إشارات تصدر عنه والتي تهدف لإيصال رسالة ما وليس هناك حركة عشوائية ، إذ أنّ كل حركة تدل على شيء ما ([4]). لذا تُعَرَّف على أنها ” حركة وضعية لها دلالتها ومعناها ، إذ إنّ حركة إصبع صغير تؤدي إلى معنى معين ” ([5]). كما تعرف بأنها إشارة موجزة ، عادة ما تكون عرفية وغير مباشرة إلى شخص أو حادث أو مكان يفترض أنه مألوف ومعروف ، ولكن أحياناً يكون غامضاً وغير معروف من جانب المشاهد ([6]).

ويصفها ( ميرلو بونتي ) الظاهراتي ، بأنها نظام لغوي يمثل سلوكاً اجتماعياً ناتجاً عن قدرة الجسد على الإحساس وعلاقته باللغة ، ويعدّ الإيماءة وسيلة تلاحم بالجسد مع الأشياء ومع العالم ، ليس بغرض محاكاتها وإنما لصياغتها صياغة جديدة ([7]). وإنّها – بحسب سوزان لانجر – ” حركة تمثل جزءاً من سلوكنا الفعلي ” ([8]).

أنَّ الإيماءة ليست ظاهرة سطحية بل هي ظاهرة متكاملة تحمل في داخلها دلالة عميقة ، إذ تؤثر الجوانب النفسية في عملية الكشف عن كوامن النفس وخفاياها من كبت ورغبات تفصح عن تقلبات الأنا ، لتصبح الإيماءة هوية اجتماعية ، وثقافية ، ونفسية معبرة ، فالإيماءة في الواقع لا توجد ككينونة منعزلة ، ولا يمكن فصلها عن الخطاب أو الموضوع العام  كما نفصل الكلمة ، وهي لا تستقر بمفردها بل إنها  تحتاج إلى سلوك قراءاتي يضاف إلى وسطها وأولها وآخرها حتى يكتمل كيانها المعنوي، فالحركة متصلة بالفعل ، ولذا يتعذر وضع معجم للإيماءات ذلك إنها قابلة للتحليل فقط .

والإيماءات بشكل عام بما في ذلك الإيماءات العفوية هي ليست إيماءات مفرغة من معنى ( مجردة ) وإن كان بعضها لا يعني شيئاً محدداً ، فالنفس البشرية ، ملحقة هي الأخرى بالجسد وليس العكس ، والجسد عبارة عن مجموعة من الخلايا المتنوعة ، تضبطها وتتحكم بها الخلايا العصبية ، غير أن الحركات العفوية ( الإيماءات ) تستعصي على الضبط ، ولا ينقصها سوى الكلمات لتعبر بصراحة عن الحقيقة التي يحاول الخطاب المعلن أن يخفيها باستمرار ([9]).

كذلك أن العناصر التركيبية الموجودة في الكلام ، لها ما يناظرها في اللغات الإشارية ، وفقاً لمفهوم ( تشومسكي ) عن النحو العام الذي يطبق على جميع اللغات ، سواء كانت منطوقة أو أشارية ، إذ في اللغات الإشارية تأتي العلامات التركيبية ، وفي لغة الإشارة تأتي متزامنة مع بقية الرسالة ([10]). إذ يمكن أن تشترك في صنع الإيماءة جملة إيماءات ( أو حركات جسدية تشكل إيماءة مركبة ) متزامنة لتحقيق المعنى ، كإيماءة ( عدم الدراية ) أو ( لا أعرف ) التي تتم من خلال رفع الكتف عالياً ، وإمالة الرأس جانباً مع رفع الحاجبين وإطباق الشفتين وتقويسهما إلى الأسفل ، مع فتح كفي اليدين أمام الجسد . كذلك لابد من الإشارة إلى أن الإيماءة التركيبية تعتمد على اتجاه تحرك الأيدي في الفراغ أو على ترتيب الإيماءات ، فاستخدام الفراغ مهم بصورة خاصة ويعتمد جزئياً على أسلوب قوي تستخدمه لغة الإشارة لتحديد الأشخاص أو الأشياء التي ستصبح موضوعاً للحديث .

اعتمد فن التمثيل الصامت الذي يعد فناً صورياً إيهامياً يعتمد بدرجة أساس على التشكل الطرازي الفريد للإيماءة ودلالتها ، لتأخذ شكل المادة التي تريد أن تعبر عنها أو شكل المساحة أو الحالة ، في فضاء مجرد ، إذ لا تعد الإيماءة فيه نشاطاً حركياً بقدر ما تتخذ أوضاعاً تتيح للعين البشرية اختيار لحظات مميزة لحس الممثل وانفعاله تتخذ الإيماءة فيه وضعاً يبدو اصطناعياً حرفياً بوساطة جسد مرن ، ومدرب بحرفية وخاضع لمتن حكائي ، تكون الإيماءة جزءاً من ذلك السرد التمثيلي ، وجزءاً من ذلك النشاط أو السلوك الاجتماعي الممارس بل تتعدى أحياناً ذلك النشاط وانطولوجية الجسد ، وذلك عبر محاولة إعادة صياغة الوجود وفق رؤيا خاصة تتجاوز عادية الإنشاء والبث والاستقبال أيضاً . وهذا ما يفسر استمرار وديمومة ذلك الفن العتيق ، إلى جانب الاهتمام والشغف به ، والعيش وسط الصمت ليأخذ حيزاً يتجاوز كل النشاطات اللغوية . فالأوضاع التي تتخذها الإيماءة في التمثيل الصامت ناتجة عن خضوعها لمنظومة دلالية متكاملة من ناحية ( الشكل والمضمون ) ، أي احتوائها الجانب المعرفي والجمالي معاً والذي يبعدها بكل الأحوال عن صورة الواقع بدرجة ما ، فهي محملة بدلالات مقصودة الإنشاء وخاضعة لفكر هادف يسعى لتحقيق غرض دلالي معين ، وبذلك تبتعد الإيماءة – في الفن – عن كونها سلوكاً عادياً أو نشاطاً إنسانياً تواصلياً فحسب . كما يجب الأخذ بنظر الاعتبار الاختلاف في آلية الأداء الإيمائي باختلاف الطراز ( الجنس ) الأدائي الصامت ، كاختلاف البانتومايم عن المايم ( الموضوعي ، والجسدي ، والتماثل ، والذاتي ) ، والرقص الدرامي الذي لا يعد تمثيلا بل رقصا إيمائيا .

من القواعد الأساسية لقراءة الإيماءة ، إنها لا تؤخذ كحركة بمفردها وبمعزل عن شقيقاتها اللواتي تُبث معها في لحظة الأداء الحركي ( داخل العرض المسرحي الصامت أو خارجه ) ، بل إنها قائمة على علاقات متآزرة لبناء المعنى وتوضيحه من خلال أجزاء مختلفة من الجسد ، لذلك يجب أن تنظر إلى الإيماءة الجسدية بوصفها مجموعة بنائية واحدة ، كما في جلوس رجل على كرسي في حالة ملل ، يبث جلوسه بصيغ إيمائية مختلفة تشير إلى الحالة الشعورية والذهنية لديه ومنها استدارة الرأس نحو باب الخروج وتدوير الإبهامين حول بعضهما أو لمسه المتكرر لذراع الكرسي بصورة متناوبة .. الخ .

فالإيماءة تستند بالأساس هنا – أي في القراءة الموضوعية – إلى ما يترشح من علاقات مع سابقاتها أو حتى اللواحق منها لتعاد قراءتها من جديد مع تنامي الفعل الإيمائي ومع اختلاف مواقع بث الإيماءات جسدياً ( الوجه وأجزاؤه ، الذراع ، والأقدام … ) كما نود  التأكيد هنا على أنّ الإيماءة هي بنية بحد ذاتها مرتبطة بجملة علاقات ذات صلة وثيقة بدخيلة باثها أو مستخدمها سواء كان القصد منها شعورياً أم لا شعوري ، كما ترتبط بعلاقات وثيقة أيضاً بالبنية الاجتماعية والثقافية ، لتصبح الإيماءة خاضعة قراءاتياً للارتباط الوثيق بالمحيط البيئي الأوسع ومتأثرة بالتحولات المتعددة بين هذه البيئة الثقافية والأخرى .

لكن هناك خلطاً كبيراً بين فهم الإيماءة كبنية دالة في حد ذاتها وبين فهمها كمفردة أدائية ، إذ وجد أنّه من الضروري هنا أن يثبت ماهيتها الدلالية ، وقد أثبتنا هنا أن الإيماءة بنية دالة وليست مفردة أدائية ، وذلك لوجود غموض كبير على المستوى ألمفاهيمي والماهوي والأدائي لبنية الإيماءة ، لهذا قام صاحب المقال هنا بدراستها دراسة بنيوية ومن ثمَّ دراستها بوصفها بنية دالة لها دلالات ضمن اشتغالها في فضاء العرض المسرحي الصامت .

في فنون الحركة فإنّ توظيف الإيماءة في التمثيل الصامت يستدعي مراعاة ما يأتي :

التحريف النسبي لبعدها المادي الدلالي على أن يراعى شرط الدافع المحرك لإنتاجها ([11]) ، أي تكامل بنية عناصرها الداخلية ضمن نسق يتألف ويتآزر مع الإطار الشكلي الذي يحتويه . وهو ما يجعل منها منظومة قصدية انتقائية ذات دلالات عدة .

قصدية التأثير أو ما يسمى بـ( الإيضاح والتأكيد ) ([12]) ، وهي هنا إيماءة وظيفية تتجاوز حدود الإمتاع البصري ، لتؤدي أثرها من خلال الإفصاح عن فحوى فكرة أو فلسفة العرض ، مضيفة لذلك أبعاداً دلالية تفرز معاني لتؤكد الفكرة الأساس أو المرتكز الرئيس الذي يدور معنى العرض حوله.

الطابع المجازي الشعري ، الذي يفترض الابتعاد النسبي عن محاكاة الواقع دون إنكار حيثياته أو المغالاة في مقاطعته وعلى نحو يمكن معه للمتلقي من أن يعطي سلسلة معانٍ افتراضية وصولاً إلى المعنى النهائي المحمول في الطابع المجازي أو الشعري.

التوقيت ، أي تحديد نقطة البداية والنهائية لكل إيماءة . بمعنى آخر ضرورة إضفاء طابع الانتظام على كلية الإيماءة ، لكي تصبح أكثر دلالة وجمالاً وابتعاداً عن الفوضى والتشتت .

التجريد النسبي للشكل ، وهو لا يأتي هنا لأجل التعبير الجمالي فقط ، بل لفتح المجال واسعاً لتعددية الدلالات ، والتي تعوض بالتالي غياب اللغة اللفظية في العرض وتنشط حاسة البصر للمشاهد إلى أعلى درجاتها .

أما خصائص الإيماءة عند ( ميرلو بونتي ) في دراسته حول ظاهراتية الجسد فهي :

تدرك حسياً لأنها فعل من أفعال البدن وهي تدرك من خلال خبرة البدن .

لا ينفصل معناها عنها أبداً بل العكس لا يمكن أن يكون إلا مبطناً فيها ، فالمعنى بهذا الوصف يُبنى متجسداً محسوساً .

لا يفهم معناها إلا بعدّها كلاً موحداً داخل نسق دلالي ([13]).

وما الإيحاء في الإيماءة إلا دليل على أنها تضمر المعنى فيها ، وأن المعنى النهائي أو الكلي ليس هو بحصيلة جمع معان جزئية ، بل يتوالد من مجمل العلاقات القائمة بين الإيماءات داخل  السياق ([14]).

علاوة على ذلك ، فإن للإيماءة تركيباً حركياً ، يتم من خلال التتابع أو التبادل أو الجمع بينهما معاً وفقاً لضرورات العرض ، إلا أنه يفترض بكل الأحوال عنصر التناسق والانتظام ، وبشكل عام يدل التركيب الحركي على العلاقة القائمة بين الإيماءات ، والتي تمكن العرض من التنامي عمودياً والانتشار أفقياً داخل ذهن المشاهد ، إذ تستمد كل إيماءة قيمتها من تعارضها أو تبادلها مع مختلف الإيماءات الأخرى . أما الإيقاع الحركي لها فهو التكرار المنوع لتسلسل الإيماءات ، على أن لا يكون تكراراً رتيباً ، لكي يمكن له أن يعبّر عن انفعال أو عاطفة معينة ، كما توجد أنواع أخرى من الإيقاع هي الحر ، والمتناقص ، والمتزايد .

يرى ( مارسيل مارسو ) ” أنّ الإيماءة ليست لغة الحركة فحسب ، بل هي لغة الفعل أيضاً ” ([15])، لهذا فإن لكل حركة علاقة متبادلة بين شكل الإيماءة ومضمونها ، لهذا فإنها عادة ما تأخذ شكل المادة التي يريد أن يعبّر عنها أو شكل الحالة والدوافع ، وهي تحمل بهذا المعنى دور المفسر للفعل والرغبة([16])  .

يرى كاتب المقال هنا أنَّ الإيماءة ما هي إلاّ أنماط حركية سلوكية تصور واقعاً ، تلتقي معها اللغة اللفظية نظراً لفاعلية الدوال الجمالية التي تحملها ، لذا فإنَّ وظيفة الإيماءة لا تُكّمن دلالاتها في إيصال المعنى فحسب ، بل في القيمة المعرفية التي تحملها في ذاتها أي بوصفها حاملاً يحمل طابعاً ( جمالياً ، فنياً ، تعبيرياً ) ، إنها أقرب ما تكون برسالة تشترط قصدية الإرسال ، لذا فهي عادة ما تشتغل آلياتها حول الإفصاح والإجهار في توصيل ما هو غير مرئي ، على اعتبار أنه قضية وجدانية غير متداولة ، فيلجأ باث العلامة في هذه الحالة إلى تشكلات إيمائية نفسية مجردة من خلال التجربة الجسدية للحواس ، أما الوظائف الأخرى فهي رغبة باث الإيماءة في إعادة خلق عالم ومجتمع متخيل تكون للإيماءة فيها وظائف عدة ، منها وظيفة معرفية ، استكشافية تكشف عن هوية الذات الأخرى ، ووظيفة نزعوية ذاتية ، تكشف عن رغبات شخصية واشتقاقية ، وإضافية ، لا تفهم إلاّ عن طريق إضافة أو إجراء تعديلات داخلية فيها . وإيماءات علائقية محضة يرتبط المعنى الأول فيها بالمعنى الثاني ، عن طريق ارتباط بعضها ببعض أو أقل اصطلاحاً في العادة من الإيماءات الاجتماعية ، وبالتالي فإن صراحة تشفيرها أقل منها في الثانية ، إنها تشتغل في ظل تركيب معين فتنتقل من حركتها الجزئية في المجتمع إلى حركتها الكلية في العمل المسرحي الصامت لتبنى علاقاتها الخاصة . ومن هنا تتأتى تداوليتها ، أي من خلال اشتغالاتها التركيبية والذهنية العقلية معاً . كذلك إيماءات مقامية ، حتى يمكن من خلالها إيضاح طبيعة الشخصية العلمية أو الاجتماعية أو الثقافية . والإيماءات الوظيفية هي إيماءات تشخيصية أو تصويرية تستخدم في العروض الصامتة لتصوير البيئة المتخيلة من أبواب وشبابيك وأدوات .

يجد كاتب المقال ضرورة وضع فوارق توضيحية لمفهوم الإيماءة كبنية فعالة في فن التمثيل الصامت والشغل المسرحي الصامت ، إذ تنتفي في العادة علاقة الإيماءة بالأدوات المسرحية ، أما الشغل المسرحي ، وهو عكس ذلك ، فله علاقة باستعمال أدوات على المسرح والذي يأتي ضمن المتن الحكائي للنص المسرحي أو العرض المسرحي كفتح الباب أو مشاهد الأكل وما شابه ذلك .

كما أنّ للإيماءة قدرة على نقل فكرة ما إلى حركة ، ومن ثمَّ إحياء الشعور بها ، وعلى نحو تتحول معه إلى حقيقة معبر عنها أدائياً ، بمعنى أنها تكتب بلغة الأداء ، فتبدو واضحة معبرة لا تحتاج إلى تركيبات مادية مساعدة . وهي أيضاً لدى ( مارسيل مارسو ) اتحاد الذات بالعناصر الساكنة والمجردة المحيطة به في الترجمة الأدائية ، إنها علاقة متبادلة بين التشكل الأدائي والمضمون والتكامل هو الذي يعني لغة الجسد ([17]). بينما الشغل الصامت ينقل فكرة ويوضحها بطريقة تتحول فيه إلى حقيقة تدرك بصرياً والذي قد يدفع إلى تراجع الإحساس بها كشعور خالص والشغل المسرحي عادة ما يحتاج إلى عناصر مادية محيطة به في ترجمة ونقل الأفكار الأمر الذي يجعل منه إرسالية مباشرة المعنى ، من خلال ارتباط الشكل بالمضمون ارتباطاً أيقونياً في حين تكامل الشكل مع المضمون في الإيماءة والذي عادة ما يكون غير سهل الإدراك ينتج معنى ذا أبعاد دلالية متعددة المعاني ، وهي تحمل بهذا دور المفسر لها كفعل تعبيري ، وتقريري وتأثيري .

يرى كاتب المقال أن الإيماءة  هنا تعتمد على فاعلية الإدراك المتخيل من خلال قيمتها الإيحائية في حين يعتمد الشغل الصامت على الإدراك العقلي فالإيماءة يمكن عدها صورة تنبع من الداخل في حين الشغل الصامت صورة تأتي من الخارج زيادة على ذلك إنّ الإحساس بشاعرية الإيماءة والتفكير بصور المعنى الذي يمكن أن تقدمه يتجاوز حدود الواقع المدرك  المباشر ، إذ يمكن المشاهد من استدعاء صور جمالية محتملة قد تحمل عبق الماضي أو الحاضر أو المستقبل وعلى نحو تحمل معه مشاعر المشاهد إلى التنقل الخيالي عبر إطار زمني ممتد ومنفتح ([18]). وهكذا يتسع المدى الجمالي بالمشاهد ليتحرك بين التمثلات الخارجية – عبر فاعلية الإيماءة في خلقها – وبين التمثلات الداخلية له ، أي ملاحظة ومعايشة فعلها التأثيري عليه . علاوة على ذلك ، فالإيماءة تتسم بكونها متغيرة الدلالة وفقاً للثقافة المنبثقة  منها ، أما الشغل الصامت فيتميز بإظهار ترابط في المعنى الذي يمكن استخدامه بدلاً من اللفظ أو بالإضافة إلى الكلمات ([19]).

إنَّ الإيماءة في فن التمثيل الصامت ذات خصوصية تختلف عنها في أشد حالات التقارب في الاستعمال والاشتغال ألا وهو لغة الصم ، إذ أن لغة الصم هي لغة إيماءات بشكل عام لكنها ليست لغة عالمية ، إنها فردية اجتماعية تفكّ شفراتها وفقاً للمؤسسة الثقافية التي أنتجت فيها والتي تتحكم في تحديد المعنى المناسب لها . أما اللغة الجمالية الفنية للإيماءة  فهي لغة عالمية نظراً لحملها أبعاداً وفكراً فلسفيا يكشف المعنى أكثر مما يشير إليه أو يوضحه ([20]). وإنّ لغة الصم الإشارية تناظر الكلمة في اللغات المنطوقة ، في حين تكون للإيماءات علاقة أكثر تشخيصية بالشيء المراد التعبير عنه بعيداً عن الإيحاء .

لأجل التفريق بين فطرية الإيماءة ، وعقلانيتها ، فان علم الدلالة يأخذ بالاختيار بين أحد المنهجين التاليين :

يتعامل مع الإيماءة بوصفها نظاماً للاتصال يهدف إلى توليد معنى محدد من خلال مجموعة من الدلالات.

الإيماءة بوصفها معنى بحد ذاتها .

        إذ يكون تحديد أو تحليل دلالة الإيماءة يتأرجح بين هذين المنهجين ، وان البنية الداخلية للإيماءة وحدودها تظل كما النموذج الواقعي الذي تشير إليه ، والذي يتسم بالغموض ، لذا يصعب تحديد مركزية في الجسد تحمل المعنى عند تعدد الإيماءات المرسلة عبر الجسد ، كما إن تحديد دلالاتها يحتاج إلى سلوك اجتماعي يوضح هويتها ما إن كانت : طبيعية ، اعتباطية ، مقصودة ، واعية أو غير واعية ، في القاموس الإيمائي للإنسان ( الممثل ) ([21]).

نورد بعض الإيماءات التي جاءت في سياق حديثه عن ماهية الإيماءة واشتغالاتها ومفاهيمها ، ويصنفها كالآتي :

إيماءات اشتقاقية : وهي الإيماءات التي يحكمها ترابط أو تتابع منطقي وعلى نحو تتبع الواحدة فيها الأخرى ضمن سياق العرض الجمالي كما في مشهد تعذيب بإيماءات شتى يعقبها أو يختمه إيماءة الموافقة ( OK ) ، إذ تكون هذه الأخيرة إيماءة اشتقاقية اشتقت من سلسلة الإيماءات ضمن سياق المشهد ذاته .

إيماءات إضافية : لا تفهم إلاّ عن طريق إضافة أو إجراء تعديلات داخلية فيها ، أي أن العملية قائمة على فاعلية إدراك المشاهد الذي يعيد ترتيبها وتشكيلها ليفهم معناها ، كإيماءات قتال في مشهد صامت يتم فيه استبدال نوع السلاح وفقاً لضرورة التعبير ، يقوم المشاهد حياله باختيار المعنى الأقرب والأصح لفكرة العرض كلها .

الإيماءات الوظيفية أو التصويرية أو التشخيصية : وهي التي تستخدم لأجل تصوير البيئة المتخيلة من شبابيك وأدوات وأبواب .

الإيماءات العلائقية : وهي الإيماءات التي يرتبط المعنى الأول فيها بالمعنى الثاني عن طريق ارتباط بعضها ببعض أو هي في الحقيقة جملة إيماءات تظهر خصائص تتابعية أو استبدالية ، كإيماءات التجديف أو إيماءات استبدال سيف المعركة بعصا موسيقار وهكذا .

الإيماءات التراكبية : وهي الإيماءات التي يشتغل فيها أكثر من جزء من أجزاء الجسد ، لتعطي معنى يدرك إدراكاً حدسياً وعقلياً معاً ، كإيماءات سقوط المطر التي تؤدي بامتداد اليد على خط أفقي يبتدئ من مفصل المرفق حتى نهاية الكف وبحركة نصف دائرية تدور حول الجذع لتكون نصف دائرة.

الإيماءات المقامية : والتي من خلالها يمكن إيضاح طبيعة الشخصية ومكانتها العلمية أو الاجتماعية أو الإدارية .

الإيماءات الإدماجية : وهي التي تجمع بين وجود الشيء و الإحساس معاً واحد كما في الإيماء بوجود شخص عزيز ومصادفته فجأة ، فالمتوقع هنا هو أن تكون الإيماءة التالية هي احتضانه والترحيب به .

الإيماءات التناظرية : وهي التي تتشابه فيما بينها في الشكل والمضمون كالإيماءات المتبادلة بين شخصين يتحدثان وجهاً لوجه ([22]).

الإيماءات الإشارية ( Indicative ) ” وهي تشير بشكل مباشر إلى الشخص المعني أو الشيء “([23]) .

10 . الإيماءات التوكيدية ( Emphatic ) : وهي تشير إلى التأكيد لمعنى ما بشكل متكرر أو بصيغ مختلفة .. كإيماءات الترحيب من خلال استخدام اليد للمصافحة مع هز الرأس المتكرر وصم الأيادي مع يد الضيف ، إذ تعد مثلاً هزة الرأس المتكررة هذه إشارة إيجابية وهي الموافقة والترحيب.

الإيماءات الاجترارية أو الفصامية ( Autistic ) التي لا يكون المقصود منها أبداً التواصل مع الآخرين ، لكنها مع ذلك تكون معبرة عن نوازع الذات ، كما في كتم مشاعر الانفعال التي تفضحه إيماءات معينة مثل عقد الساعدين واحتضان نفسه تحت كتفيه ([24]).

الإيماءات التشخيصية أو الكاشفة : وهي التي تعطي تأكيداً ما وتنقل المعنى .

الإيماءات التعينية الإرادية : توسل ، تهديد …

الإيماءات الوراثية : كإيماءات الرفض المتوارث .

الإيماءات الغريزية : ” مثل استخدام السبابة بشكل عمودي على الفم لتدل على رغبة إقامة علاقة جنسية مع الشخص الآخر ” ([25]).

***************

([1]) مجموعة من الباحثين : الدليل الشامل في التعبير والتواصل مع الآخرين ، ( شعاع للنشر والعلوم ، دمشق ، 2006 ) ، ص87-88 .

([2]) ويلسون ، جلين : سيكولوجية فنون الأداء ، ت : شاكر عبد الحميد ، ( سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون ، الكويت ، 2000 ) ، ص51-52 .

([3]) سركيس ، إحسان : الآداب القديمة وعلاقتها بتطور المجتمعات ، بابل ومصر الفرعونية ، ( دار الطليعة للطباعة والنشر ، 1988 ) ، ص 15 .

([4]) غريب ، منى : الإيحاء والإيماءة ، مجلة عرب ، العدد 124 ، الكويت ،2001 ، ص 3 .

([5]) البزاز ، عزام ، وآخر : أسس التصميم الفني ، ( جامعة بغداد ، كلية الفنون الجميلة ، قسم التصميم الفني ، بغداد ، 1996 ) ، ص 37 .

([6]) فتحي ، إبراهيم : معجم المصطلحات الأدبية ، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين ، تونس ، د. ت ، ص 3 .

([7]) باربا ، اوجينو ، وآخرون : طاقة الممثل ( مقالات في انثروبولوجيا المسرح ) ، ت : سهير الجمل ، ( أكاديمية الفنون ، القاهرة ، 1998 ) ، ص 9 .

([8]) كاي ، نك : ما بعد الحداثة والفنون الأدائية ، ت : نهاد صليحة ، ( الهيئة المصرية العامة للكتاب , مصر ، 1999 ) ، ص 136 .

([9]) ميسنجر ، جوزيف : المعاني الخفية لحركات الجسد ، ت : محمد حسين شمس الدين ، ( دار الفراشة للطباعة ، بيروت ، 2006 ) ، ص  7

([10]) كاي ، نك : المصدر نفسه ، ص 139 – 141 .

([11]) شيبرد ، ريجموند : التمثيل الصامت ، ثلاثون درساً في التعبير الصامت ، ت : سامي عبد الحميد ، وليد شامل ، ( دار الكتب للطباعة والنشر ، الموصل ، 1999 ) ، ص 6 .

([12]) المصدر نفسه ، الصفحة نفسها .

([13]) ينظر : توفيق ، سعيد : الخبرة الجمالية ، المؤسسة العامة للدراسات والنشر  والتوزيع ، بيروت ، 1992 ، ص 216 .

([14]) بيز ، آلن : لغة الجسد ، كيف تقرأ أفكار الآخرين من خلال إيماءاتهم ، ت : سمير الشيخاني ، الدار العربية للعلوم ، بيروت ، 1997، ص 15 .

([15]) أصلان ، أوديت : فن المسرح ، ت : سامية أحمد أسعد ، ج 2 ، ( مكتبة الأنجلو ، القاهرة ، 1970 ) ،  ص 556 .

([16]) كرومي ، عوني ، وآخرون : تقنيات تكوين الممثل المسرحي ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، دار الفارس للنشر والتوزيع ، عمان ، 2002 ، ص 233 .

([17]) كرومي ، عوني ، وآخرون : مصدر سابق ، ص 229-231 .

([18]) عبد الحميد ، شاكر : عصر الصورة ، السلبيات والإيجابيات ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون ، الكويت ، 2005 ، ص9 .

([19]) ويلسون ، جيلين : سيكولوجية فنون الأداء ، ت : شاكر عبد الحميد ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون ، الكويت ، 2000 ، ص 201 .

([20]) كورباليس ، مايكل : في نشأة اللغة ، من اليد إلى نطق الفم ، ت : محمود ماجد عمر ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ،  2006، ص 130 .

([21]) ينظر : الكاشف ، مدحت : اللغة الجسدية للممثل ، مطابع الأهرام ، سلسلة أكاديمية الفنون ( 44 ) ، مصر ، 2006 ، ص 48 – 49 .

([22]) ينظر : تشاندلر ، دانيال : معجم المصطلحات الأساسية في علم العلامات ( السيموطيقيا ) ، ت : شاكر عبد الحميد ، أكاديمية الفنون ، مصر ، 2000 ، ص 18 .

([23]) ويلسون ، جلين : سيكلوجيا فنون الأداء ، مصدر سابق ، ص 203 .

([24]) ينظر : غروست ، غدويس : لغة الجسد ، ت : هيدانة صالح شقير ، ( دار علاء الدين ، دمشق ، 2007) ، ص 44 .

([25]) ميسنجر ، جوزيف : المعاني الخفية لحركات الجسد ، مصدر سابق ، ص 55 .