شعر

من شعراء المعتقل توفيق زيّـاد الجزء الثاني

من شعراء المعتقل توفيق زيّـاد الجزء الثاني

353 مشاهدة

#إِنــّا هنا باقون فلتشربوا البحرا

من شعراء المعتقل توفيق زيّـاد الجزء الثاني

#بقلم _الدكتور _رياض _نعسان آغا

الجزء الثاني

  ولم يكن أحد يشك في مصداقية قصيدة الزيّـاد كما شكَّ كثيرون في مصداقيّة غنائيّة فيروز ( سنرجع يوماً إلى حيـّنا ) فقد كان حلم العودة بعيداً آنذاك، لكن فعل البقاء قائم ، وحاضر ، ولكننا لم نكن نعرف الكثير في تلك الآونة عن أهلنا في " المعتقل " حتى نقل الشعر إلينا صوتهم .. وفي مطلع السبعينيات أخذ شعر الأرض المحتلة من وجدان الناس حبّاً ضاق به الشعراء أنفسهم حتى كتب محمود درويش يقول ( ارحمونا من هذا الحب القاسي ) .. وأحسب انه أراد أن ينظر الناس إلى إبداعه الشعري ، بعيداً عن مشاعر الحب الغامرة  لقادم من أعماق فلسطين ، يقدم رمزاً للتشبث بالأرض وبالجذور ..

 ولقد زار محمود درويش دمشق في مطلع الثمانينات ضيفاً على مؤتمر لاتحاد الكتاب العرب، وكنت متلهفاً للقاء هذا المبدع الكبير الذي صار نجم الشعر العربي وهو فتىً، فذهبت لأرحب به في الفندق الذي كان يقيم فيه وكانت ترافقه زوجته ( آنذاك ) الأديبة الباحثة الدكتورة رنا صباح قباني، سليلة بيت الإبداع الدمشقي الأصيل وقد وجدت في ذاك اللقاء ( العابر ) مع محمود درويش، سبباً آخر لمقالته ( ارحمونا من الحب القاسي ) أحسب أنه خوفه على نفسه من الغرور وتضخم الذات إزاء ما قوبل به من حفاوة وتكريم على الصعيدين الشخصي والنقدي لم يحظَ بهما شاعر عربي     قبله، ولم يحظ هو بهما من بعد، وقد غادر الشعر إلى قصيدة النثر، فصار شاعر النخبة .. ولم ألتقِ محمود درويش بعد ذلك ..

 لكنني كنت أرجو أن ألتقي توفيق زياد، وأن أتعرف إليه عن قرب وكان ذلك صعباً، لان الزيّـاد بقي في ( المعتقل ) ولم يغادره إلى ( المنفى ) ..

لكن مصادفة، لا أنساها، جعلتني قبالة ( الزيـّـاد ) في مطلع التسعينيات ، فقد كنت في زيارة للقاهرة، وفي مقهى فندق شبرد، كان ثمة حشد من  الكتاب والمبدعين وقد مررت بإحدى الطاولات وقد تحلقت حولها أسرة توهمت أن فيها من عرفني، فألقيت تحية صامتة بإيماءة مجاملة، فردّ رب الأسرة التحية بأحسن منها، وقال: أتوقع أنني أعرفك، أنت من سورية ؟..

قلت : نعم  .. قال : نحن نعرفك من خلال متابعتنا لبرامجك الثقافية  على شاشة التلفزيون السوري .. وكنت أتأمل الرجل بــحدس يساورني فأنكره، لكنني   قلت: وأنا أعرفك .. لكنني لست متأكداً، فأنا أرى صورك في الصحافة .. قال : أنا توفيق زيـّاد، وانطلقت أعانقه فرحاً به وقلت: وأنا أبحث عن لقائك منذ ثلاثين عاماً ..

ونَـمَتْ بيني وبين توفيق زيـّاد رحمه الله، علاقة مودة صافية، وقد وجدت فيه إنساناً متواضعاً، رحب الأعماق، سمح النفس، لطيف المعشر، واسع الثقافة والاطلاع ..

 كان توفيق يومها عضواً في الكنيست الإسرائيلي، وكنت يومها عضواً في مجلس الشعب السوري، فاحتلت السياسة المساحة الكبرى من أحاديثنا ولكن لم يـَغـِبِ الشعر عن الحوار..

 وقد عـرّفـني توفيق إلى رفيق رحلته الروائي الفلسطيني الراحل إيميل حبيبي ( وكان كذلك عضواً في الكنيست ) وكنت معجباً بروايته الشهيرة ( المتشائل ) لكنني كنت أنتقد بعض تصريحاته السياسية، وهذا ما أوقع لقاءنا الأول في سوء تفاهم ( لاختلاف وجهات النظر من القضايا السياسية  الراهنة آنذاك ولاسيما من  اتفاقية أوسلو التي كنا نرى فيها تنازلاً سيقود إلى سلسلة من التنازلات ) لكن ديبلوماسية ( الزيّـاد) أخرجتنا من التوتر إلى الرحابة، وقال ( إيميل ) هل أنت مستعد أن تسمع وجهة نظري؟ ..  قلت: نعم ، مستعد أن أسمعها وأن أناقشك، ولكن على الملأ !  وقد سجلت معه حواراً (ساخناً جداً ) وقد تم بثه في  برنامجي  ( شهود العصر ) .. فأما حواري مع توفيق زيـّاد، فقد كان آخر حوار أجراه ( لأنه توفي بعد شهور في حادث سير عام  1994) وأحسب أن هذا الحوار هو الوثيقة المتلفزة الوحيدة لتوفيق زيـّاد لتلفزيون عربي ..

*  حدثني توفيق زيـّاد، رحمه الله، عن تأثره بالأدب الروسي، وعن مسيرته في الحزب الشيوعي الإسرائيلي وكان ( حزب راكاح ) يشكل الفسحة الأرحب المتاحة للعرب للمشاركة في الحياة السياسية داخل إسرائيل، وحدثني كذلك عن تأثره بالشاعر التركي الكبير ناظم حكمت، ثم عن رئاسته لبلدية الناصرة وتوقفنا طويلاً عند شعر الأرض المحتلة، وعند الاتجاهات الأدبية فيه، وقد كان - زيـّاد - أستاذاً للأدب، ناقداً نافذَ البصيرة، متمكناً من التراث الأدبي العربي، ولعل هذا ما مكّنه من أن تصير قصائده جزءاً مؤسساً للتراث الفلسطيني الأدبي المعاصر ..

 

*  لقد أطلقت الذاكرة أطياف توفيق زيّـاد، من وجدان محاصر مع الشعب الفلسطيني الجبار، لكنه يجد المنـفذ من الحصار في الإصرار، ووجدتني وأنا أتابع أخبار الصمود في فلسطين أردد في الأعماق قصيدة توفيق، التي تجلجل في وجدان كل عربي :

( أناديكمْ .. أشُدُّ على أياديكمْ ) ..