مواضيع للحوار

منطق الطير مسرحية عن سبيل الإنسان إلى ذاته

منطق الطير مسرحية عن سبيل الإنسان إلى ذاته

842 مشاهدة

منطق الطير مسرحية عن سبيل الإنسان إلى ذاته

أبو بكر العيادي

المصدر / العرب

المصدر: موقع الخشبة

العرض حكاية شعرية رمزية صاغها فريد الدين العطار في نحو أربعة آلاف وخمسمئة بيت، والمخرج بيتر بروك أول من حولها إلى المسرح.

بعد حضور لافت في ربيع الممثلين بمونبلييه في يونيو الماضي، التقى غي بيير غولو وفرقته برواد مسرح كوميديا الشرق في عرض لـ”منطق الطير”، المسرحية المقتبسة من الأثر الخالد لفريد الدين العطار، والذي كان بيتر بروك أول من قدّمه للجمهور الفرنسي.

“منطق الطير” نص مسرحي اقتبسه جان كلود كاريير من حكاية بالعنوان نفسه للفارسي فريد الدين العطار وتولى إخراجه بيتر بروك عام 1979 في مهرجان أفينيون، والمعروف أنها حكاية شعرية رمزية صاغها العطار في نحو أربعة آلاف وخمسمئة بيت، حول مجموعة من الطيور تلتقي للبحث عن السيمورغ، الطائر الملكي الذي تأتمر له الطيور جميعا، وتختار الهدهد مرشدا يهديها إلى طريق الصواب.

ولكن سرعان ما يتضح لها أن البحث عسير والطريق إلى السيمورغ دونها صِعابٌ وعِقاب، فيلتمس كل طائر لنفسه الأعذار، فالبلبل يعتذر بانشغاله بعشق الوردة، والببغاء بالأسر الذي يسببه جماله، والطاووس بالخجل، والصعوة بالضعف والهزال، وكذا البطة والبجعة والبومة والصقر، لكونها لا ترغب في ترك ما هي فيه والابتعاد عنه.

غير أن الهدهد استطاع، بفضل ما يملكه من معرفة وحكمة، أن يثنيها عن تلك الأعذار، ويقنعها بضرورة السعي في طلب السيمورغ، فتمضي الطيور في بحثها عن الكائن الأعلى، وتجتاز أودية عجيبة هي أودية السلوك السبعة، من وادي الطلب ووادي العشق فوادي العرفان ووادي الاستغناء، فوادي التوحيد ووادي الحيرة إلى وادي الفقر والفناء.

وكانت الطيور أثناء عبورها للأودية السبعة بحثا عن السيمورغ الأسطوري كي تتخذه ملكا لها، تعبّر عن مخاوفها، قبل أن تعرب عن آمالها وأحلامها بعالم يسوده التسامح والسلم، وتُكتشف في النهاية أن السيمورغ ليس سوى ذاتها “شمس فخامتي مرآة، من يرى في هذه المرآة ذاته، يرى فيها روحه وجسده”، تلك الرحلة هي تعبير شعري عن المسار الصوفي الفارسي، ذلك المذهب الذي لا يرى الله خارج الكون أو داخله، بل يؤمن بوجوده في الكون بكليته، ويدعو إلى الفناء فيه.

ولكي يبقى قريبا من تلك الخرافة ذات النبرة الطريفة في بعض الأحيان، بنى غي بيير كولو مع الممثلين الرواة كوريغرافيا تقود تلك الطيور المهاجرة إلى التخلّص تدريجيا من أقنعتها لتستعيد مظهرها الآدمي وتتقمص أدوار الشخصيات الخمسين التي تتضمنها الحكاية.

فالممثلون العشرة يؤدون أدوار طيور من شتى الأصناف يقودها هدهد لا يرى فيها سوى “خصومات ومعارك من أجل رقعة أرض حسيرة، وحبات قمح قليلة”، ويقنعها بالبحث عن ملكها الذي لا تملك عنه إلاّ ريشة وقعت منه ذات ليلة في بلاد الصين.

رغم الغربلة التي قام بها جان كلود كاريير، فإن الاقتباس حافظ على بنية النص الأصلي وأسلوبه الشاعري وروح الحكي التي تميّز بها

وشيئا فشيئا، يشرع الممثلون في نزع أقنعتهم والاستعانة بالحكي أمام مرآة ذات ثلاثة أوجه، تعكس صورهم وصور المتفرجين في الوقت ذاته، ويتخلصون رويدا رويدا من إيماءاتهم وحركاتهم الحيوانية ليستعيدوا سلوكا آدميا، فتغدو الحكاية استعارة تصور نقص الإنسان، الذي يملك القدرة على التسامي الروحاني، ولكنه عادة ما تكبّله إلى المسائل المادية، وتتحول من حكاية طيور إلى حكاية مقنَّعة أبطالها في الواقع بشر.

هذا النص الصوفي، الذي لم يعرض سوى مرة واحدة منذ عام 1979، يستعيد هنا شبابه، وقد اعتمد غي بيير كولو إخراجا حاول من خلاله ربط السعي الروحاني الذي تضمنه النص الأصلي بالحاضر، فكان الديكور بسيطا حيث جعل واجهة بلورية مضاءة كما في الكباريه، يغرف منها الممثلون ما يرغبون فيه من أقنعة لتقمّص هذا الدور أو ذاك، والتلميح عند الحديث عن تلك الرحلة الروحية إلى الهجرة المكثفة التي تشهدها الآن شعوب كثيرة عبر العالم.

 فهي رحلة داخلية ذات بعد ميتافيزيقي مستوحى من الفلسفة الصوفية، ولكن لها أصداء، ولو بعيدة، بالراهن، سواء من خلال التجوال عبر أماكن مختلفة من حيث عناصرها ومكوناتها، أو من خلال الممثلين الذين يتحدّرون من أصول بعيدة كإميل أبوصولو مبو من الكاميرون، ومانون علوش من جزيرة لاريونيون، ونيلس أوهلوند من السويد، وشاروخ موشكين غلام من إيران.

وهم إذ يساهمون في أداء أدوارهم في تلك المسرحية الرمزية، إنما يساهمون في ملحمة إنسانية تتبدى فيها مظاهر النعيم والبؤس، الدهشة والفتنة، الاستسلام واليأس كصور لعلاقتنا بالخالق.

ورغم الغربلة التي قام بها جان كلود كاريير، فإن الاقتباس حافظ على بنية النص الأصلي وأسلوبه الشاعري وروح الحكي التي تميّز بها، وهذا ليس غريبا عليه، فهو كاتب سيناريو ومؤلف ومخرج مسرحي، قبل أن يكون مقتبسا، ولو أنه تعامل في هذا المجال مع أسماء لامعة أمثال لويس بونويل، وأندري برساك، وجان لوي بارّو، وميلوش فورمان، علاوة على بيتر بروك.

ولذلك اختار التعامل مع مخرج قدير هو غي بيير كولو، الذي سبق أن أخرج نصوصا لموليير، وأودون فون هورفات، ويوجين أونيل، ودانيال دانيس، ومن بين إنجازاته الأخيرة إخراجه مسرحية “السيد بنتيلا وخادمه ماتّي” لبرتولد بريخت، و”حلم ليلة صيف” لشكسبير.

يقول كولو “منطق الطير تعالج إنسانيتنا، بمحاسنها ومساويها، وتصف في لغة شاعرية السبل التي ينبغي علينا انتهاجها طوال حياتنا لكي نكتشف من نكون”.