دراسات أدبية

مواجع المرأة في قصص الدكتورة هيفاء بيطار

مواجع المرأة في قصص الدكتورة هيفاء بيطار

3453 مشاهدة

مواجع المرأة في قصص هيفاء بيطار

 

تتناول القاصة الدكتورة هيفاء بيطار في مجموعتها القصصية (خواطر في مقهى رصيف) موضوعين بارزين الأول محدد بآلام المرأة في المجتمع الشرقي، وظروفها وتطلعاتها ومشاعرها. والثاني يتناول جوانب إنسانية تتمحور حول مشكلة الفقر وأثره الحاسم في الإنسان رجلاً كان أم امرأة، وذلك ضمن إطار التحولات الاجتماعية وتطور القيم الأخلاقية. وآثرت الكاتبة هيفاء بيطار أن تلتفت إلى جوانب إنسانية منتزعة من مجتمعها تصور فيها معاناة الرجل أيضاً مستفيدة من التجارب الحياتية والعمل في مجال الاختصاص، الذي يفرض عليها أن تحتك بأبطال قصصها من الرجال والنساء على حد سواء

 تخصص الأديبة هيفاء بيطار مجموعتها القصصية لمعالجة مشكلات المرأة، ففي قصة (خواطر في مقهى رصيف) التي تصور فيها حيرة امرأة كانت في موقع الخيار بين ثلاثة شبان، يمكن أن تتزوج أحدهم، غير أن كلاً منهم يتمتع بصفات مادية وشروط اجتماعية لا تنطبق كلياً على المقاييس التي وضعتها لاختيار شريك حياتها، بل لعلها في حقيقة الأمر كانت تريد زوجاً يكون صورة عنها. وبما أن هذه المعايير لم تتوافر في أحد هؤلاء الثلاثة، فقد تخلت عنهم جميعاً، تخلت عن (فرح) الشاب الغني غير المثقف، لأنه لا يرضي تطلعاتها الفكرية، على الرغم من أنه سيوفر لها سبل العيش الرغيد. وتخلت عن (فضيل) وهو فنان يعيش في عالم الخيال والرؤى، لكنه فقير ليست الحياة معه مضمونة العواقب. كما تخلت عن (مروان) الشاب المؤمن المتدين الذي كان يوفر لها بطمأنينة نفسه وثقته بالخالق عطفاً وسلاماً روحياً، بعدما عصفت بحياتها الأحزان إثر وفاة والدها، لكنها رأت فيه مخلوقاً يلجم غرائزها الطبيعية وتدفن الحياة فيها. رفضت الثلاثة وآثرت أن تعيش في أجواء الحرية التي تجنبها الحياة مع مخلوق يطبع حياتها بطابعه الخاص.

وهكذا تبدو المرأة في القصة حريصة على استقلالها الذاتي، وتعتقد أن مؤسسة الزواج لا بد أن تجبرها على التنازل عن جوانب كثيرة من ذاتها، وفي ذلك انتقاص لإنسانيتها دون أن تلتفت بالمقابل إلى الرجل الذي سيتخلى أيضاً عن بعض حريته وذاته.
وفي قصة (صدمة قوية في الخاصرة) تعالج الكاتبة مشكلة الخيانة الزوجية من خلال حياة امرأة أودع زوجها السجن، وظلت وحيدة تنتقل بين بيوت إخوتها. لقد دفعتها غريزتها إلى السقوط في مستنقع الخيانة الزوجية، فلم تصمد منتظرة خروج زوجها من السجن. وارتمت بأحضان عشيق مخادع متزوج وله أولاد، أوهمها أنه يحبها ويريد أن يتخلى عن أسرته من أجلها. وفي طريقها ذات يوم إلى عش اللقاء غير المشروع يصدمها أحد الشبان وهو يركض في الشارع هرباً من رجال الشرطة، فتنبه الصدمة إحساسها بدونية سلوكها، وانحطاط نفسها، وتقرر أن تتراجع عن انحرافها، وتخلص لزوجها وتسترد ما فقدته من شرف مضاع بعد أن تبين لها خداع عشيقها وتغريره بها.

فإذا كانت المرأة في القصتين السابقتين مسؤولة عن تصرفاتها، فإنها في قصة (سحر) تبدو ضحية مجتمع شرقي لا يرحم. فهي أرملة فقيرة المنشأ، في الثانية والعشرين، منعها والدها من متابعة دراستها   بذريعة حرصه على ابنته، فأحبت شاباً من طبقة غنية، وعارض أهله زواجهما، إلا أنه تزوجها رغماً عن إرادتهم، فتخلت عنه الأسرة، وأصيب بالسرطان، فعانت الزوجة الكثير لتوفير المال اللازم لعلاجه، لكن القدر أودى به، فلم يزد موته إلا شماتة من أمه التي حمّلت زوجته مسؤولية وفاته، ولما ولدت الزوجة منه طفلاً تخلت عنه أسرة زوجها، كما تخلت عنه أسرتها لأنها تزوجت دون مشيئة أهلها، فلجأت إلى جدة كفيفة لها، وعاشت مع طفلها حياة ضنك وبؤس يزيد من ترديها مضايقات أسرة الزوج، والتمست عملاً في أحد المكاتب، وظلت تكافح من أجل طفلها الصغير.
وهكذا تبدو بطلة القصة ضحية العلاقات الأسرية الظالمة التي تصادر حرية الفتى والفتاة وحقهما في اختيار شريك الحياة بعيداً عن وضعه الاجتماعي أو طبقته.

وفي قصة (الزمن) تعود الكاتبة هيفاء بيطار إلى النزعة التقليدية في الأدب النسوي، فتحاول أن تحمّل الرجل مسؤولية دفع زوجته إلى الخيانة في موقف الدفاع عن بنات جنسها. فقد سافر زوج البطلة إلى الخارج ليعمل ويكافح ليوفر سبل العيش الكريم لأسرته، كان مسحوقاً في الغربة، لكن الزوجة لم تغفر له بعده الطويل عنها، وإهماله الاهتمام بها في رسائله، ما من كلمة حب أو تشجيع، وإنما رسائل مقتضبة مصحوبة ببعض المال لتقوم بأود الأسرة. غير أن غريزة المرأة الظامئة طغت على وفائها والتزامها، فالتقت بزميل لها عطف عليها في محنة مرضها، بادلته فراش الخيانة، وحين أرسل لها زوجها بعد سنوات برقية يعلمها فيها أنه قادم من مغتربه نهائياً، قررت أن تتخلى عنه، وتلتحق بعشيقها دون أن تغفر له إهماله غير المقصود طوال هذه السنوات التي هاجر فيها، وتبدو المرأة في القصة واقعة في صراع نفسي شديد بين متطلبات جسدها، وحرصها على الوفاء بالتزامات الزوج وشرفه، إلا أن الظروف المادية هي التي فرضت على الزوجين ذلك الواقع المؤلم.

وتشكل قصة (حمامة بيضاء، اسمها وئام) جانباً من معاناة المرأة الشرقية، فالبطلة أم لأربعة عشر ولداً آخرهم طفل أسمته (وئام). ولم يكن لديها وقت لتهب له بعض حنانها وحبها. تنصرف منذ الصباح إلى حقل التبغ لتجمع الأوراق ومعها أولادها البالغون، وتصطحب طفلها الذي يدرج بين الأثلام كيمامة ضائعة. كما فرضت عليها ظروف حياتها أن تتركه في حر الهاجرة دون طعام إلا ما يجود به ضرعها الجاف. أصيب الطفل بضربة شمس أدت إلى وفاته، فانبعث صوت الأمومة صارخاً في قلب أمه، وتمثلت قسوتها عليه، وإهماله، فحملت نفسها جريمة موته، وانتهى بها الأمر إلى الجنون، راحت تجوب الطرقات وهي تنادي (وئام) وتبحث عنه يمامة ضائعة في الحقول.

وفي قصة (تسامح) تصور الكاتبة تلك الصداقة الظاهرة التي تخفي عداوة خفية، وتنافساً بين البطلة وإحدى رفيقاتها. كانت فتاة متزمتة تحافظ على عفافها وشرفها، وتدل على صديقتها بنقائها وهي تعلم أن تلك الصديقة لم تخل حياتها من هفوات، إلى أن جاء يوم غرر فيه أحد الشبان بالفتاة، ونال مراده منها، وتركها فريسة الحزن والانهيار. ولما حانت اللحظة المؤاتية لصديقتها لتتشفى منها، وتستوفي ديناً قديماً من تلك المرأة التي أذلتها، بزغ في قلبها عاصف من العطف والتسامح والنبل، فذهبت إليها في قمة سقوطها وانهيارها، ومسحت آلامها وكفكفت دموعها، فكان تسامحها أعظم نصر حققته، وتتجاوز حقدها، وانتصارها عليها، وقد كانت تنتظره زمناً طويلاً لتشمت بها. من استعراض هذه المواقف، يتبين لنا خصوصية بعض الشخصيات النسوية التي رسمتها الكاتبة هيفاء بيطار، وحرصها على الواقعية في تمثيل المواقف. فإن كثيراً من تصرفات أبطالها يمكن ردّه إلى غلبة المشاعر والنزوات الذاتية للمرأة، وهي مشاعر تقودها إلى السقوط دون أن يكون الرجل أو الظروف المحيطة مسؤولة عنها، وإن كانت الكاتبة تحاول تخفيف وطأة هذه المسؤولية، بإيجاد الظروف المسوغة للسقوط، لكن تلك الظروف تبقى أدعى إلى عدم اقتناع القارئ بتسويغ انحراف البطلة والتعاطف معها. ولا تتعمق الكاتبة في وصف الشخصية وتحديد مستواها الفكري والثقافي، ومقدار وعيها ورسالتها الزوجية، مما يرجح أن هذا النمط من الزوجات نموذج يتعامل في الحياة ويسلك طريقه انطلاقاً من مشاعره ورغباته لا من وعيه الإنساني، وتمسكه بالمثل الزوجية.
إن خيانة زوجة الرجل المهاجر مثلاً تظل خيانة غير مشروعة للمرأة، ذلك أنها استغلت أقسى ما يمر به الزوج من ظروف دفعته إلى الغربة، وأضافت بخيانتها ظرفاً لا يقل قسوة عما يحيط به، فبدا في القصة أنه الضحية وليس المسؤول.
ولعلنا نلتمس أفقاً من الوعي الإنساني لدى البطلة في قصة (خواطر في مقهى رصيف) فهي تنشد حرية مثالية بعيدة عن الواقع، حرية تبدو فيها المرأة كائناً كاملاً بذاته، يمكن أن يجد ذاته وحريته بعيداً عن الرجل، وفي ذلك مخالفة لمنطق الحياة، لأن المرأة لا تكتمل حياتها إلا بحياة مشتركة مع الرجل، ولعل هذه الفكرة هي ما تريد أن تفصح عنه الكاتبة هدفاً لقصتها، إن فرض شروط مثالية مطلوبة لرجل المستقبل تطابق ذات المرأة يكاد يكون ضرباً من الإفراط في التمسك بالأنا، وضرباً من المستحيل ينتهي بالمرأة في آخر المطاف إلى أن (تتزوج) ذاتها.
ولعل أكثر القصص واقعية تلك التي حللت الكاتبة فيها معاناة المرأة بسبب الظروف المحيطة بها كثرة الإنجاب، الفقر الذي لا يترك للأم فرصة للحنان، أو يدفعها إلى كفاح مستميت من أجل أطفالها حتى لتنسى ذاتها أو تنسى واجباتها كأم في غمرة كفاحها من أجلهم، فيما يبدو الرجل جزءاً من المرأة، يعانيان معاً تحت وطأة الضغوط الاجتماعية الخارجية التي لا ترحم، فتتحد ذاتاهما وينصهران معاً في بوتقة المعاناة.

وعن الجانب الآخر، أي ما يتصل بحياة الرجل بدت الكاتبة قادرة على التقاط تجارب اجتماعية وإنسانية مؤثرة، تختارها من دائرة الحياة، فقد نجحت في تصوير فقدان الإنسان إنسانيته، وشعوره بذاته حين تسحقه الحياة. ففي قصة (مجرد عين) يفقد أحد العمال المسحوقين عينه، فلا يشكو ولا يتفجر، بل يرفض أن ينال استراحة بعد الحادث لئلا يقتطع من راتبه بعض ما هو أحوج إليه وإلى إعالة أولاده، ويبدو البطل في القصة متعالياً على الألم، وكأن إحساسه قد تبلّد، كما يبدو مثال الزوج الشرقي الذي يهب حياته ووجوده لأسرته في تضحية لا تقل عن تضحية الطائر الذي يعشق صغاره.
وفي اعتقادي أن القصص الإنسانية المتصلة بهذا الجانب من المجموعة بدت أكثر صدقاً وأبلغ تأثيراً في القارئ، وبرهاناً صادقاً على أن الأدب النسوي يستطيع أن يتناول جوانب من الحياة بنجاح، فيما إذا أتيح للكاتبة فرص رصد تجارب الحياة الواسعة، بعيداً عن قضايا المرأة الخاصة التي أصبحت الموضوع المفضل، والمطروق للأدب النسوي.

إن قلم الأديبة القاصة هيفاء بيطار قلم متميز، ونجاحها مرتهن بمقدار وعيها الإنساني للمشكلات الاجتماعية التي تعالجها بواقعية تطمح أن تكون هادفة، لا تعطي من خلالها الجنس خصوصية عامة، وإنما تجهد أن تلتقط التجارب الإنسانية ببراعة المبدع، فأبطالها بشر متفردون لا نماذج إنسانية يقاس عليها خصوصية الهوية البشرية.

عبد اللطيف الأرناؤوط

جريدة النور : 466

11 / 1 / 2011

 

التعليقات

  1. Image
    امنياتي لك دكتورة هيفاء مع خالص اعجابي بكتاباتك الرائعة

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية