دراسات أدبية

نهاد صليحة بين المسرح والحياة

نهاد صليحة بين المسرح والحياة

1234 مشاهدة

نهاد صليحة بين المسرح والحياة

مجلة الفنون المسرحية

 

جرجس شكري - نزوى

 

حياة "نهاد صليحة"، حياة مسرحية، فهي شخصية درامية منذ أن بدأت علاقتها بالمسرح وهي تلميذة في مدرسة "شبرا الثانوية"، حياة مليئة بالمفارقات والصخب، لم تكتب "نهاد" المسرح ولكنها عاشته في حياتها ليس فقط بالدراسة وارتياد المسارح بل تمسرحت، إذا جاز التعبير فالمخرج أو الكاتب يمسرح واقعةً ما ليقدمها على خشبة المسرح، و"نهاد" عاشت لتمسرح كل تفاصيل حياتها وحدث ذلك بالفطرة،إذ كانت تعي أن اللعب أساس المسرحة.

 

– 1 –

"نهاد صليحة" مواليد شبرا 1945، تمنت وحلمت بمهنتها التي سوف تكون مستقبلها مثل كل الأطفال، حلمت أن تكون مراسلة صحفية، حتى تجوب العالم، ودرست اللغة الإنجليزية حتى تدعم هذه الفكرة، ولم يخطر المسرح لها على بال، على الرغم من أنها مارست التمثيل في مدرسة "شبرا الثانوية"، من خلال مسرحيتين لشكسبير «كما تهوى» و«تاجر البندقية»، وفي الأخيرة أدت دور «شايلوك» التاجر اليهودي، وبالطبع في المسرح المدرسي على الممثل أن يعد ملابس الشخصية وما يلزمها من إكسسوار، فاستعارت جلباب والدها وعباءته، وفكرت ماذا تفعل في مشهد «الرطل» الشهير، فتفتق ذهنها المسرحي عن حيلة مسرحية مدهشة فسألت الجزار الذي ما زالت تذكر اسمه «عم عطية» أن يمنحها ميزانه القباني، وبالفعل خبأته تحت العباءة وأبرزته في المشهد، وفي الجامعة اختارها "رشاد رشدى" لتشارك بالتمثيل في مهرجان "شكسبير" حيث كانت الجامعة تحتفل بمولده بالتعاون مع معهد الفنون المسرحية وأدت دور «هيرما» في مسرحية «حلم ليلة صيف» "لشكسبير" أيضاً، وكأن "شكسبير" قدرها الذي سوف تسافر إلى بلاده بعد قليل وتشاهد مسرحياته في مسقط رأسه، وبالفعل أدت الدور مع "هناء عبد الفتاح" و "رباب حسين" و "سعيد طرابيك"، وهذه المسرحية تم تقديمها في المهرجان كاملة، مع مشاهد من «هاملت، عطيل، وأنطونيو وكليوباترا»، وأدت دور "ديدمونة"، وربما بدأ يراودها حلم التمثيل في تلك الفترة، ولكن لم يفارقها حلم السفر، وما زالت تحب اللغة الإنجليزية.

وفي مهرجان "شكسبير" أيضاً تعرفت على الدكتور "محمد عناني" الذي كان معيداً في قسم "اللغة الإنجليزية" وتمت خطبتهما في نهاية العام الدراسي للسنة الثانية من الدراسة في كلية الآداب لتقضي عام 1965 مع خطيبها ورفاقه وتتعرف على أوساط المثقفين في القاهرة، ترتاد المسارح وتلتقى الشعراء والكتاب، ذهبت إلى "مجلة المسرح" وسمعت الشعر من "صلاح عبد الصبور".

وكان "عناني" يسألها عن مستقبلها فكانت تجيب بأنها الآن ترغب أن تكون ممثلة، وتقول: «لولا سفره ولحاقى به فيما بعد لربما تغير مستقبلى ودخلت مجال التمثيل»، فسرعان ما سافر الدكتور "محمد عناني" للدراسة في بعثته إلى "انجلترا" وكانت "نهاد صليحة" لا تزال في الليسانس، ثم لحقت به، إذ تم الزواج عبر توكيل أرسله الدكتور "عناني" لأخيه "مصطفى"، وسافرت الزوجة إلى زوجها وحملت معها العود الخاص به، فلم يكن هناك حفل زفاف أو بيت للزوجية، فقط عروس بملابسها العادية في يدها حقيبة بداخلها قليل من الملابس والكتب وبالطبع عقد الزواج، وفي يدها الأخرى آلة زوجها الموسيقية.

وكما ذكرت عاشت "نهاد صليحة" حياة تمت مسرحتها من قبل، وكأن ثمة كاتب أو مخرج يقوم بهذا الدور، فهي تعيش سلسلة من المشاهد الدرامية والعبثية أحياناً.

 

– 2 –

في "إنجلترا" كان عليها أن تجد عملا، لأن راتب الزوج في البعثة خمسون جنيها، تضاف إليها ثمانية جنيهات في حال سفر الزوجة، فعملت في السفارة "السودانية" وكان الدكتور "عناني" يعمل إلى جوار الدراسة في إذاعة الـ«بى بى سى»، وقدمت في جامعة SUSSEX للحصول على درجة الماجستير، وكانت الدراسة لمدة عام من خلال قسمين، الأول بحث حول الرواية في القرن العشرين، والثاني حول تاريخ الكوميديا الإنجليزية من العصور الوسطى حتى عصر شكسبير، وبعد الدراسة يتم تقديم بحث كبير وقدمته عن الروائي الإنجليزي «جوزيف كونراد» صاحب رواية «قلب في الظلام»، وقدمته تحت عنوان «مشكلة الوفاء في حياة كونراد»، وحتى تلك اللحظة لم تكن قررت احتراف المسرح أو العمل به، فكان حلم التمثيل قد توارى ولكن في الأفق ما زال يلوح حلم المراسلة الصحفية التي سوف تجوب العالم.

سألتها: لماذا الرواية أثناء الدراسة في بحث عام، ثم الأطروحة النهائية للماجستير حول "كونراد"؟.. فقالت لى: "فكرت في "شكسبير" لكنه كان يحتاج إلى وقت طويل والأحوال المادية لم تكن تسمح بذلك، بالإضافة لحبى "لجوزيف كونراد" وحياته الغريبة وموضوعه الأثير في أعماله حول الشخصيات التي تخون نفسها، التي تتعرى أمام نفسها".

ونالت درجة الماجستر عام 1969، لكنها عادت إلى "مصر" في زيارة سريعة بعد وفاة "جمال عبدالناصر" الذي ارتبطت به في علاقة تكاد تكون روحية تتخللها العديد من المفارقات، إذ شاركت في جنازته الرمزية التي أقامها له المصريون والعرب في "بريطانيا"، وصممت على الرجوع إلى "مصر" وكأن من رحل هو أقرب الأقرباء لها، عادت لتتأمل الشوارع والطرقات بعد موت الزعيم! عادت لتطمئن على "مصر" وفق تعبيرها، وهذه العلاقة تدل بقوة على شخصية "نهاد صليحة"، ففي المرحلة الإعدادية ذهبت مع وفد المدارس إلى جامعة القاهرة لحضور لقاء "عبدالناصر" بأحد الضيوف وتفتق ذهنها المسرحي عن حيلة تليق بكاتب بمسرحي كبير، فقد أخذت "مصحف" أبيها وخبأته وجلست في الممر بحيث يكون خروجها سهلاً بعد انتهاء "عبدالناصر" من خطبته، فقد دبرت كل شيء ورسمت الحركة والسيناريو والحوار، وبمجرد انتهاء الخطبة قفزت إلى المنصة وأهدت "المصحف" للضيف واتجهت إلى "عبدالناصر" وبالطبع منعها الحرس، فأمرهم "عبدالناصر" «سيبوها»، فلم يكن الغرض هو إهداء الضيف "المصحف"، بل ذلك كان حيلة للوصول إلى "عبدالناصر"، فسلمت عليه وطبعت قبلة على خده وذهبت.. سألوها: ما اسمك؟ فقالت: «نهاد محمد». وعاتبها والدها "صليحة" لأنها لم تذكر اسمه حتى يفخر بها أمام زملائه في المصلحة، فردت بأن هذا شأن شخصي يخصها وحدها.

قلت إنها كانت تمسرح تفاصيل حياتها وتحولها إلى مواقف درامية بالفطرة. وأخبرتني فيما بعد بأنها قررت أن تكون من الأوائل في الثانوية العامة حتى تصافح "عبدالناصر" مرة أخرى وقد حدث، وقالت لي: «خُطب عبدالناصر كانت رائعة وكلامه كان أحلاماً لدرجة أنني كنت أحلم بالاستشهاد في "فلسطين"، كانت مرحلة الحرية والعزة والكرامة، كان كل شىء يدعو إلى الحلم، الأغاني، الشوارع، كل تفاصيل الحياة، أنا التي غنت وراء "عبدالوهاب" في "ميدان التحرير" مع زملائي في المدرسة، وحين مات لم أصدق، فوجدتنى أقول لزوجي لابد أن أعود إلى "مصر" فورا». هذه المواقف ليست حماسة شباب، بل لا تخلو من دلالة وتفسر علاقة "نهاد صليحة" بالفرق المستقلة وشباب المهمشين في التسعينات ومساهمتها الكبرى في تأسيس حركة المسرح الحر في أوائل التسعينات.

 

– 3 –

عادت إلى "القاهرة" قبل ستة أشهر من حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، عادت حتى لا تتحدث ابنتها "الإنجليزية" وتنسى العربية وعلى حد تعبيرها «حتى لا تكون ابنتي بنصف لسان»، وكانت قد أنجبتها في "إنجلترا" عام 1971 ، وبدأت في تكوين بيت الزوجية، لأن فرص العمل كانت قليلة بل نادرة.

سافرت إلى "السعودية" لتعمل في جامعة "الملك عبدالعزيز" لمدة عام ونصف، وعادت إلى "القاهرة" ليتم تعيينها في أكاديمية الفنون عام 1977 وتبدأ رحلة البحث عن منحة لنيل درجة الدكتوراه من "إنجلترا" أيضا، وحدث ذلك في الفترة من 1982 إلى 1984، واختارت "اللورد بايرون" الشاعر والمسرحي الإنجليزي في أطروحة تحت عنوان «مسرح لورد بايرون قراءة حداثية» ونشرتها بالإنجليزية 1986.

علاقة "نهاد صليحة" بالمسرح ليست العلاقة الأكاديمية الجامدة والمحددة، بل هي علاقة إبداعية تتسق وتفاصيل حياتها، فمنذ أداء دور اليهودي في «تاجر البندقية» وهى في المرحلة الثانوية وحتى حصولها على الدكتوراه عام 1986 درست المسرح في مسارح "إنجلترا"، وفي رسالة الماجستير وفي رسالة الدكتوراه وفي الكتب درست الشعر والرواية، وذكرت أنها قدمت أول كتبها «المدارس المسرحية المعاصرة» لنفسها أولاً وكأنها تدرس مع نفسها هذه المدارس أو تفسر لنفسها ما هو غامض منها، وكيف تفرق بين هذه المدارس، ليس عن طريق مجموعة التقنيات، ولكن من خلال الأرضية الفكرية التي نشأت عليها هذه المدارس، فهي لا تنتمي إلى مدرسة مسرحية محددة كما يحبس الأكاديميون أنفسهم داخل قفص حديدي اسمه المناهج النقدية الصارمة، فهي نموذج للمثقف الذي يبحث مشروعه الثقافي طيلة حياته، وكل أفعاله تأتي في سياق هذا المشروع، فقد مارست التمثيل ودرست الشعر والرواية مع المسرح، وقالت لي إنها كانت تعمل في "إنجلترا" إلى جوار الدراسة حتى تستطيع أن ترتاد كل المسارح.

 وحين سألتها قالت لي: "أنا سيدة انتقائية، أنطلق من الأرضية الفكرية، وحين أشاهد عرضاً مسرحيا أذهب بدهشة طفل ودون مدارس أو قرارات، فالعرض نفسه يفرض مدخله، يفرض المذهب الذي يناسبه، البنيوية، التفكيكية، السيميائية، أو يفرض شيئاً آخر لا نعرفه".

 

سألتها ما المسرح؟

 

 المسرح لعبة، واللعب هو المسرح، المسرح فضّاح، المسرح كذبة.. وكيف أصدّق أنا كمشاهد الكذبة؟!

 إذا كانت في رأسي مدارس ومعتقدات وأفكار جاهزة ستفشل عملية المشاهدة.

 

وكيف تشاهدين العرض المسرحي؟

 

الفرجة على المسرح فن، عملية اشتباك وجودي بين الُمشاهد والعرض، يشتبك بكل كيانه في عملية تبادلية مع العرض.

 

لكن هناك قواعد لهذا اللعب؟

 

نعم هناك قواعد للعب، فالجسم البشرى عبارة عن لوحة، مكتوب عليها الكثير، وعلى المسرحي اللاعب أن يحذف كل ما هو مكتوب على هذا اللوح قبل أن يبدأ اللعب، يحذف المسلمات والمعتقدات، سواء أكان الممثل أو الكاتب الذي يجب أن يترك شخصياته في مسارتها الطبيعية دون أن يتدخل.

 فالمسرح الجيد الحقيقي هو المسرح الذي يثير الفرحة والدهشة في نفس المتفرّج من خلال التشكيل الجمالي، والبناء الدلالي للصورة في نفس المتفرج للصورة المسرحية «السمعية البصرية»، فينزع عن عينيه غشاء العادة ليستعيد براءة النظرة الطفولية الأولى إلى العالم والبشر، وكلّ ما غدا اعتياديا ومألوفا، إنه المسرح الذي يثير النفس، والعقل، ويحرّك الذاكرة وأشجان القلب وأشواق الروح. أما المسرح الرديء فهو المسرح المزيّف، ومسرح الزيف، والنقيض للمسرح الجيّد، وحول قصوره وعجزه عن بلوغ مستوى الإبداعية الحقة برداءته .. إنّه المسرح الذي لا يُتقن لغاته، ولا يُجيد توظيف أدواته، فيفشل في إبداع تكوين جمالي ودلالي يمتع المتفرّج، بل يصبح عبثاً على السمع والبصر، وهو المسرح الذي يتّسم بالجبن والخنوع، ويوثر السلامة، فيظل يدور في فلك الأفكار السطحية، والشعارات الجوفاء، والأنماط المستهلكة، فلا يثير الروح، أو الفكر، والفكرة، أو الذاكرة، ويصيب المتفرّج بالبلادة بدلا من الدهشة، وبالإغماء بدلا من التوهج، وبالملل بدلا من المتعة، وبالخمول بدلا من التألق. ولعل أفضل وصف لهذا المسرح هو «المسرح القاتل» في تعبير بيتر بروك.

 

– 4 –

احترفت نهاد صليحة النقد المسرحي في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وحكت لي أنها أول مرة تكتب فيها النقد المسرحي من خلال رسالة ترد فيها على الدكتور "سمير سرحان" بعد أن أرسل لها نصا مسرحيا، وبدأت بالكتابة في مجلة الإذاعة والتلفزيون، ثم مجلة "روزا اليوسف" و"مجلة المسرح"، وقالت لي إنها كانت تمارس ثلاثة مستويات من النقد في المجلات الثلاث، الدراسة التحليلية في مجلة المسرح، والمقال الطويل في مجلة الإذاعة، والملاحظات المكثفة في مقال قصير في مجلة "روزا".

وظلت تكتب النقد المسرحي باللغة العربية في مجموعة من المجلات وكان حصادها مجموعة من الكتب منها أمسيات ثقافية، المسرح بين النص والعرض، شكسبيريات، عن التجريب سألوني، وكتب أخرى.

في كتابها الثالث «أمسيات مسرحية» 1987، والذي جاء بعد «المدارس المسرحية المعاصرة»، و"المسرح بين الفن والفكر"، وكان أول كتبها الذي يضم مجموعة من المقالات النقدية حول مجموعة من العروض المسرحية في "مصر" وحصاد مشاهدة عامين، يتعرف القارئ على منهجها وانحيازها لجيل الشباب، فالإهداء «إلى شباب الحركة المسرحية الواعدة في مصر»، وتصف هؤلاء للقارئ بأنهم طلائع الموجة المسرحية القادمة في "مصر" التي ستعيد، بل وتتخطى أمجاد الستينات، وتضع أول عناوين الكتاب «هذا المسرح هو الأمل»، وتطرح في وقت مبكر في "مصر" مصطلح المسرح البديل الذي يقدم بديلاً فكرياً وفنياً للمؤسسة المهيمنة سواء كانت رسمية أو تجارية، وتقول «لكن المسرح البديل في "مصر" يختلف عن صنوه في "الغرب". فالمسرح البديل في "الغرب" لا يزال بعد نشاطا هامشيا لا يشكل حركة فكرية وفنية نامية ومستمرة، فهو نشاط أقليات مثقفة لا تربطها صلات وثيقة بقاعدة شعبية عريضة. أما المسرح البديل في "مصر" فهو يعد بأن يصبح مسرح الفلاح والعامل والطالب والإنسان العادي، وهو مسرح يسير بخطوات ثابتة ليحتل مركز الحركة المسرحية في "مصر"". وتحققت النبوءة، وشهدت حقبة التسعينات ولادة الهامش أو المسرح الحر أو المستقل، وكانت الفكرة قد بدأت في ثمانينات القرن الماضي، ليغير المسرح البديل أو هذا الهامش بنية الحركة المسرحية في "مصر" في تسعينات القرن الماضي. والكتاب يخصص مساحة كبيرة لمسرح الأقاليم والمسرح المتجول، ويهتم بالمسرح البعيد عن أضواء العاصمة.

وفي كتابها "المسرح بين النص والعرض" تتناول قضية مهمة وهي الصراع المحتدم بين المؤلف والمخرج، والفصل التعسفي بين النص الدرامي الذي يُكتب للمسرح وبين الأداء التمثيلي لهذا النص الذي يحوله إلى عرض مسرحي حي أمام الجمهور، وتتساءل: " كيف حدث هذا والمسرح نشأ عملاً جماعياً تكاملياً يتحقق من خلال اتحاد وتناغم مجموعة من العناصر يمثّل النص الحواري المنطوق أحدها فقط، وتتضافر جميعها لإنتاج التجربة المسرحية؟"  وفي كل إصدار كانت تضع حجراً راسخاً في معمار مشروعها النقدي للمسرح، وجاء كتاب «عن التجريب سألوني» حول مفهوم التجريب في المسرح وكان سؤالاً مهماً خاصة بعد أن فهم البعض مفهوم التجريب بصورة منقوصة، ودون شك كان "لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" دور كبير في تحريك المياه الراكدة في المسرح "المصري"، وكان له الفضل في خلق أجيال جديدة من الشباب الذي شاهد عروض هذا المهرجان وتأثر بها، لكن البعض فهم عن جهل التجريب بشكل خاطئ، فجاء كتاب الدكتورة "نهاد صليحة" ليضع النقاط على الحروف خاصة أن العروض التي يتناولها عروض "مصرية".

 

– 5 –

في عام 1989 تأسست جريدة "الأهرام ويكلى" ودخلت "نهاد صليحة" مرحلة جديدة في حياتها وطريقاً جديدة في النقد المسرحي، والتحول لم يكن سهلاً فذلك العام كان عام التحول من الكتابة "باللغة العربية" إلى "اللغة الإنجليزية". وعن هذه التجربة تقول في مقدمة الكتاب الذي صدر عن المركز القومي للمسرح ويضم المقالات التي كتبتها "بالإنجليزية" في "الويكلي" بعد أن تم ترجمتها إلي "العربية" :

"كان قبول عرض "الويكلي" يعني ضربا من الاغتراب. واعترف انني ارتعبت أيضا من ثقل المهمة والمسؤولية. أن تتحدث عما تظنه، فهذا شيء، أما أن تتحدث نيابة عن الوطن، فهذا شيء آخر. لكنني قبلت، وكان عزائي أنني سوف أفتح نافذة يطل العالم منها على المسرح "المصري والعربي"، خاصة وإنني كنت أعلم من خلال خبرتي في الخارج أن غالبية المسرحيين في "الغرب" لا يعرفون شيئا عن مسرحنا سوى ما ترجم من أعمال "توفيق الحكيم" أو ما كتبه قلة من المستعربين الغربيين عن مسرح الستينيات.

كذلك فقد وجدت شيئا من العزاء في وصف "إدوارد سعيد" للمثقف بأنه بالسليقة إنسان مغترب، لا يتماهى تماما مع مجتمعه وثقافته الأم، بل تفصله عنهما مسافات صحية تسمح بالتأمل والنقد والمراجعة. وتدريجيا، ورغم اغترابي اللغوي المؤلم، وجدتني أعيد الانتماء للوطن بصورة أكثر حميمية وحرية عن ذي قبل. وجدتني أنتمي إلى "مصر" عن قناعة واختيار لا عن ميلاد وميراث. وعلى مدى السنوات الطوال من الكتابة في "الويكلي"، منذ الأعداد التجريبية الأولى – أو ال (zero numbers) – كما يقولون بلغة الصحافة، وجدتني أكتسب جمهورا رائعا جديدا، متعدد الجنسيات والأعراق والثقافات، يتابع ما أكتب بحدب وشوق، ويجادلني ويطلب المزيد من المعرفة. وطوال تلك السنوات، كنت أتذكر دائما ما قاله لي "بيتر طومسون"، أستاذ المسرح بجامعة "إكستر"، الذي أشرف على رسالتي للدكتوراه عن مسرح "بايرون"، وهو انني محظوظة لأنني أمتلك ناصية ثقافتين، وكأنني (هكذا فكرت وقتها) "أنطونيو" ، الذي وصفته حبيبته "كليوباترا"، في رائعة "شكسبير" المسرحية – أنطونيو وكليوباترا – بأنه يملك ناصية عالمين، أو يمتطى جوادا يضع قدما في "أوروبا" والآخر في "أفريقيا". استغرقتني الكتابة "للويكلي" فلم يعد لدى من الوقت ما يسمح لتغطية النشاط المسرحي في "مصر" أو في البلاد العربية التي كنت أدعى إليها بين الحين والآخر. وكان يحزنني أحيانا أن من أكتب عنهم وعن أعمالهم قد لا يتمكنون من قراءتي اللهم إلا من خلال الترجمة الشفاهية المختصرة التي قد يتطوع بها أصدقاؤهم ممن يتقنون "الإنجليزية". لكن عزائي كان أنني أعبر بإبداعاتهم حدود الوطن لأطلع العالم الناطق "بالإنجليزية" عليها، خاصة بعد أن أصبحت "الويكلي" تنشر على الإنترنت بانتظام، إلى جانب توزيع طبعتها الورقية في الخارج، وخاصة أيضا أن صدور "الويكلي" قد تزامن تقريبا مع انطلاق "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" الذي وضع المسرح "المصري" تحت الأضواء وأثار فضول ضيوف "مصر" من المسرحيين الأجانب للتعرف عليه، فكان شيئا رائعا أن يتمكن هؤلاء من العثور على مادة مكتوبة عنه بلغة يعرفها معظمهم.

بالطبع لم يكن الأمر سهلاً ليس فقط لشعورها أن سوف تكون سفيرة المسرح المصري للعالم ، بل لأنها سوف ترحل إلى لغة غير "العربية"، فعل الرغم من حبها للغة "الإنجليزية" واتقانها لها إلا أن الكتابة بلغة غير اللغة الأم أمر ليس باليسير وخاصة أن لغة "نهاد صليحة" "العربية" لغة رقيقة ولا تخلو من الشعر، إلا أنها محظوظة كما قال استاذها لأنها تملك ناصية ثقافتين، وبالفعل قدمت على مدى أكثر من عقدين جيلاً كاملاً من شباب المسرحيين وخاصة من أجيال التسعينات والثمانينات للعالم فكتابتها في "الويكلي" والتي صدرت فيما بعد في جزئين من الهيئة المصرية العامة للكتاب المرجع لكل من يريد التعرف على المسرح "المصري" وخاصة الاتجاهات الجديدة والأجيال الشابة .

 

– 6 –

لن أبالغ إذا قلت أنها ناقدة مسرحية برتبة مقاتل، أو قل على درجة فدائي، فالمسرح بالنسبة لها هو الحياة وغيابه هو العدم، وظني أن هذا سر نجاحها وتألقها الدائم، فمن الممكن أن تخوض معركة شرسة لأن مخرجا موهوبا أو ممثلا مغمورا شعر بالظلم أو تم منعه من ممارسة حقه في التمثيل والإخراج، فتقيم الدنيا ولا تقعدها إلا بعد أن يستقيم الأمر، ربما تذهب آخر الدنيا لمشاهدة مجموعة من الهواة يقفون على خشبة المسرح للمرة الأولى، وهذا هو الدرس الأول الذي تعلمته منها وأنا أجلس إليها تلميذاً في أكاديمية الفنون قبل أن أتعلم منها علوم المسرح.

التقيت الدكتورة "نهاد صليحة" في نهاية عام 1993 في معهد النقد الفني، وكنت قد قرأت لها من قبل ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن وأنا أتعلم منها سواء حين كنت تلميذاً أو حين تشرفت بالعمل معها في لجنة المسرح سنوات طويلة وأنا أتعلم من أستاذتي خارج قاعة الدرس، تعلمت أن أشاهد كل العروض المسرحية فهذا واجب على الناقد، وربما يكون استمراري في كتابة النقد المسرحي بشكل منتظم على مدى سنوات طويلة على الرغم من حالة الانحطاط التي يعيشها المسرح "المصري" ، هذا الاستمرار بفضل "نهاد صليحة" فهي تكاد تكون الوحيدة من جيل الكبار المخلصة لفن المسرح، فمن الطبيعي أن تشاهدها في عرض مسرحي للهواة وقد افترشت الأرض، لأنها لم تجد مقعداً، تفرح وتصفق وتضحك كطفل وتعبر عن سعادتها بمجموعة الهواة، ويمكن أن تسافر وتقطع المسافات الطويلة لمشاهدة عرض صغير في قرية، تتابع نهاد صليحة تقريباً معظم الفعاليات المسرحية من عروض ومهرجانات، وكما ذكرت فهي بالنسبة لي ولأجيال من المسرحيين نموذجاً في المشاهدة المسرحية .

"نهاد صليحة" ليست فقط الناقدة المسرحية، بل ثمة وجوه عديدة منها الأستاذة التي يدين لها الكثير من المسرحيين الذين تعلموا منها في قاعة الدرس وخارجها ، وهي المترجمة التي قدمت مجموعة من الكتب النوعية للمكتبة المسرحية ومن أهمها «ما بعد الحداثية والفنون الأدائية» من تأليف "نك كاي" ،ونظرية "العرض المسرحي" "لجوليان هيلتون" ، فضلاً عن دورها الكبير كباحثة في قضايا المرأة سواء في المسرح أو خارجه، وعلي سبيل المثال قدمت قراءة عميقة في مذكرات المطربة المسرحية "فاطمة سري"، والتي تتناول وقائع خصومتها مع "محمد بك شعراوي" ابن رائدة تحرير المرأة "هدى شعراوي"، وقد قطعت رحلة طويلة من المعاناة في سبيل تقصي حقيقة هذه الحكاية .

ومن الوجوه العديدة للدكتورة "نهاد صليحة" تبنيها الواضح والصريح لقضايا المسرح الحر أو المسرح المستقل، حيث كانت من المؤسسين للمهرجان الحر الأول الذي أقيم في مركز الهناجر للفنون عام 1991، وظلت تدافع عن وجود المسرح المستقل وقضاياه ليس فقط الفنية ولكن عن وجوده ودعمه المادي، ولن أبالغ إذا قلت أن عشرات الفرق المسرحية تدين بوجودها "لنهاد صليحة" .

 

– 7 –

إذا كان ما يميّز الكاتب والمبدع بشكل عام أسلوبه فقد اختارت "نهاد صليحة" لحياتها أسلوب المحاربين بما يحمله من انتصارات ومخاطر، منذ طفولتها وحتى تألقها كناقدة مسرحية وسفيرة للمسرح "المصري" في "الغرب"، ومروراً بسنوات طويلة بين الدراسة والجامعة و"بريطانيا" و"مصر"، اختارت أن تحب الحياة والمسرح. اختارت الشعر والرواية والنقد المسرحي والتمثيل والترجمة والسفر والكتابة، اختارت مشروعها الثقافي ووضعت مواصفته ليس كما في الكتب، ولكن وفقاً لروحها، اختارت الحرية .

اختارت "نهاد صليحة" الحياة، اختارت المسرح، عاشت تحب الحياة في كل أفعالها، وعاشت كما تحب، اختارت أجمل ما في الحياة أن تحب الحياة.

رحلت "نهاد" مساء الجمعة السادس من يناير ليلة عيد الميلاد.. رحلت بينما كان العالم يفرح ويدق الأجراس، حتى ساعة الرحيل كانت زاخرة بالفرح.

رحلت الناقدة المتميزة في تاريخ النقد المسرحي، رحلت بجسدها ولكن سيبقى إنجازها ليس فقط في النقد المسرحي ولكن في الحياة المسرحية بشكل عام، في دعمها للشباب المسرحيين، في تبنيها للاتجاهات الجديدة ودفاعها الشرس عن المواهب الواعدة، وليلة رحيلها تجسد حب الأجيال المختلفة "لنهاد صليحة"، حين امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بصورة الفقيدة وعبارات الحزن ورسائل الوداع، في تلك اللحظة حصدت "نهاد صليحة" ما زرعته على مدى سنوات طويلة في دعم مئات المسرحيين.

سوف تظل "نهاد صليحة" حالة نادرة في تاريخ النقد المسرحي، ولا تحتاج هذه السيدة إلى كلمات النعي بقدر عرض صور من حياتها للقارئ.

من أعمالها "بالعربية" و"الإنجليزية"، والترجمات في مجال الأدب والدراما والمسرح ،وأهمها :

 

: مؤلفات باللغة العربية:

 

 المدارس المسرحية المعاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982

 المسرح بين الفن والفكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985.

 – أمسيات مسرحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987.

 أضواء على المسرح الإنجليزي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990.

  • الحرية والمسرح، المكتبة الثقافية، الهيئة العامة للكتاب، 1991.

 نافذة على الدراما والمسرح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995.

 التيارات المسرحية المعاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997.

 عن التجريب سألوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.

 المسرح بين النص والعرض، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999

 – شكسبيريات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.

 المسرح بين الفن والحياة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.

 ومضات مسرحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001.

 المسرح عبر الحدود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002.

 – المرأة بين الفن والعشق والزواج: قراءة في مذكرات فاطمة سرى ودراسات أخرى ، دار العين، القاهرة، 2008.

 – في الأدب والفن والحياة، الهيئة العامة للكتاب، 2009.

الدراماتورج والترجمة للمسرح ، بحث قدم في الحلقة البحثية التي عقدت في مهرجان دمشق المسرحي في عام 2008، ونشر في محلة الحياة المسرحية الفصلية بسوريا، العدد 67/68، ربيع وصيف 2009.

تأملات مسرحية، ترجمة أسامه نورالدين، المركز القومى للمسرح، وزارة الثقافة، سلسلة دراسات في المسرح المصرى، القاهرة، الاصدار رقم 13 لعام 2013

 

(2) مؤلفات بالإنجليزية

 

 نشرت في مصر من خلال الهيئة العامة للكتاب، وهى:

 

 مسرح لورد بايرون :قراءة حداثية (1986).

 مفكرة المسرح المصري (1992).

 – المسرح المصري :اتجاهات جديدة (2003).

 المسرح المصري : مسرحيات ومسرحيون (2003

 المسرح المصرى : منظورات (2004),

المسرح المصرى : لقاءات ثقافية (في جزءين) (2004